"الكتابة التاريخية بين المبالغة والإجحاف"

يعتمد المؤرخ في كتابته التاريخية على أسس واضحة ومنهجية علمية لا لَبْس فيها، وهي منهجية دقيقة تقوم على قراءة حقيقية للحدث التاريخي بأبعاده المختلفة وإثبات الحقائق وتركيبها والاجتهاد في فهمها وتعليلها وبناء الصيغة التاريخية المناسبة، ومن ثم عرضها عرضًا بعيدًا عن أسلوب كتابة الروايات الأدبية والقصصية، فالمؤرخ دائمًا يحرص على الكتابة بحياد، معتمدًا على الأصول والمصادر الماثلة أمامه، وبروح الفاحص المدرك لخطورة ما يكتبه للأجيال وللتاريخ، وتستوقفني عبارة  المؤرخ المصري “حسن عثمان” في كتابه الشهير “منهج البحث التاريخي” بقوله: “فلا يصدق بسهولة ما يقرؤه أو ما يُروى له”. وهو يقصد بذلك المؤرخ الجاد، وقد ساق مثلًا -في رأينا مهم جدًّا- بقوله: “من الأمثلة على ما يثيره سكوت المصادر، في مسألة نزول المتوكل العباسي بالقاهرة عن الخلافة للسلطان سليم الأول في سنة 1517م، فالمصادر المعاصرة التي هي في متناول دارسي التاريخ، مثل تاريخ ابن إياس وتاريخ ابن زنبل، سكتت عن ذكر النزول أو التنازل، إن كان حدث فعلًا”!

       وفي واقع الأمر مع ما ذكره ابن إياس، كثير من التفصيلات في علاقة المتوكل بسليم الأول بين مد وجزر، إلا مسألة النزول عن الخلافة لم يتطرق إليها بأي إشارة. وظل هذا الأمر حتى القرن الثامن عشر الميلادي؛ فالمؤرخ عبد الملك العصامي (ت 1700م) لم يذكر سليمًا الأول في كتابه “سمط النجوم العوالي” بوصفه “خليفة” وإنما ذكره بأنه ملك وسلطان، وغيره كثير من المؤرخين. وهنا يتولد لدينا سؤال: ما هو الهدف من طرح مسألة الخلافة لسليم العثماني؟ مع العلم أن المؤرخين الأتراك المعاصرين لتلك الفترة لم يذكروا تلك المسألة! ويبدو أن المتأخرين أطلقوا لقب الخلافة على السلاطين باعتبارهم حماة الحرمين الشريفين أو من باب تعظيم أولئك السلاطين وتحويلهم لأساطير مبالغ فيها في المخيلة الشعبية لدى الناس، أو من باب تقديسهم ومقاربتهم للصحابة كما فعلوا مع شخصية السلطان محمد الفاتح، والسلطان سليمان القانوني، وغيرهم من السلاطين والسياسيين الذين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، لكنهم بذلك يقدمون في الأدبيات العثمانية على أنهم صور حديثة للخلفاء الراشدين، ومن الواضح أنها هدف أيضًا إلى تبرير ادعاء سلاطين آل عثمان الحق بالخلافة على أثر فرض سيطرتهم على أرض الواقع.  وهذا غير صحيح، بل فيه تجنٍّ على التاريخ والابتعاد به عن الجادة. وقد يتم ذكر أولئك السلاطين بصورة مشرقة ناصعة البياض مع إخفاء جرائمهم في حق الشعوب أو في سياستهم للوصول إلى كرسي الحكم والحفاظ عليه. فالكتابة التاريخية بين المبالغة والعاطفة المتأثرة بسيل المديح والبريق لن توصل القارئ إلى الحقيقة المجردة، بل وفيها تزوير واضح ومتعمد.