كيف تاجر العثمانيون
بالقرآن والسنة لخدمة مشاريع "التمكين السياسي"
يرى ابن خلدون أن الدول والممالك تقوم على العصبية، وأن الصبغة الدينية تحد من انزلاقات التنافس والتحاسد الذي هو من صفات أهل العصبية، وشدد على أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها. ويخلص ابن خلدون إلى أن اللجوء إلى النص الديني يبقى ضروريًّا في مسائل التغلب والغزو ويساعد على السير بهذه المعارك إلى أحسن غاية.
وفي الوقت الذي تأسست فيه مجموعة من الدول الإسلامية، ومن بينها المملكة العربية السعودية، على جدلية الالتزام بالنص الديني باعتباره موجهًا للسلوك السياسي لرأس الدولة، واعتبار النص “معطىً ثابتًا” والقرار السياسي “معطىً متغيرًا”، فإن مجموعة من الأنظمة السياسية “الإسلامية” حاولت البحث عن نوع من القدسية الدينية تساعدها على قوة الانتشار والحشد، وهو السلوك الذي ميز تاريخ الدولة العثمانية منذ تأسيسها على يد عثمان بن أرطغرل، حيث اجتهد سلاطين آل عثمان في البحث عن بعض المرتكزات الدينية لشرعنة احتلالهم لمجموعة من البلدان وخاصة الإسلامية منها، والتي كانت ترى بأن سلاطين آل عثمان لا تجتمع فيهم مجموعة من المقدمات الشرعية تؤهلهم لتولي منصب الخلافة الإسلامية.
أمام هذه الإكراهات سيحاول العثمانيون إحاطة تأسيس دولتهم بهالة من القدسية تجعل منها استمرارًا للخلافة الإسلامية على المنهاج النبوي، بالإضافة إلى ترسيم مؤسسة “شيخ الإسلام” والتي سيتم الارتكان إليها لتسويغ مجموعة من المجازر التي تورطت فيها جيوش الدولة العثمانية في حق شعوب الدول الإسلامية الأخرى.
على هذا المستوى من التحليل، يمكن القول بأن مجموعة من “التركيات” تتقاطع حول استغلال الأتراك العثمانيين للقرآن الكريم، ومتاجرتهم به للحصول على شرعية دينية مفتقدة. هذا التكتيك، الذي يعد من صميم استراتيجية تنظيمات الإسلام السياسي، سيميز الخطاب العثماني إلى حدود اليوم إذ لم يتورع العثمانيون الجدد عن استغلال النص الديني خدمةً لمشاريع التمكين السياسي داخليًّا والتوسع العسكري خارجيًّا.
لقد اجتهدت الآلة الإعلامية العثمانية في محاولة إعادة كتابة التاريخ بما يتوافق مع هذا الهدف السياسي، وهنا نحيل على إحدى المؤلفات التي ترصد لمثل هذا المحاولات، إذ يروي عبد العزيز محمد الشناوي في كتابه: “الدولة العثمانية المفترى عليها” رواية هي أقرب إلى الخرافة منها إلى الواقع حيث يحكي قصة أرطغرل (والد عثمان) مع القرآن الكريم فيقول “إن أرطغرل قضى ليلة في دار أحد الزهاد المسلمين، وقبل أن يأوي إلى فراشه جاء الزاهد بكتاب ووضعه على رف، فسأله أرطغرل عن هذا الكتاب فأجابه بأنه القرآن الكريم، واستفسر منه عن محتواه، فقال صاحب الدار إنه كلام الله أنزله على لسان محمد صلوات الله عليه، وحمل أرطغرل الكتاب وأخذ يقرؤه واقفًا حتى الصباح، ثم نام فرأى فيما يرى النائم كأن ملاكًا يبشره بأنه وذريته سيعلو قدرهم جيلاً بعد جيل على مدى القرون والدهور لقاء احترامه القرآن”.
ويرى المؤرخ الألماني المتخصص في الشؤون التركية جيزة Giese أن هذه الرواية هي محاولة لدعم مشروعية حكم العثمانيين لسائر القبائل التركية بآسيا، الصغرى على اعتبار أن هذا الحكم جاء بتدخل إلهي، ومن ثم فإن التوسع خارج الحدود الضيقة التي منحتها الدولة السلجوقية لمؤسس الدولة العثمانية يمتح من صميم التوجيه الرباني والجهاد الديني.
وبما أن البنية السلوكية العثمانية واحدة -كما تؤكد على ذلك الدراسات والأبحاث التي تناولها موقع “حبر أبيض”، فإن الباحث في الشأن التركي يلاحظ استمرار نفس الأطروحات السياسية على عهد العثمانيين الجدد، حيث حافظ الساسة في أنقرة على نفس التكتيك في تمزيق الآيات القرآنية خدمة لأجندات سياسية معلنة. وقد سجل العالم الإسلامي باستهجان شديد ما أقدم عليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من تطاول على القرآن الكريم وتزييفه لأسباب نزول سورة “الفتح” زاعما أنها نزلت في فتح القسطنطينية وليس في فتح مكة !!!!
ولم يقف هذا الاستغلال البشع لنصوص القرآن الكريم عند هذا الحد بل سبق أن لجأ العثمانيون الجدد إلى نفس السورة الكريمة لتبرير اجتياحهم للأراضي السورية ومهاجمة القوات الكردية هناك في تشرين الأول (أكتوبر) من سنة 2019م، حيث نشر رئيس الشؤون الدينية في تركيا، علي أرباش، تغريدة على حسابه الرسمي في تويتر، يدعو فيها جميع المساجد إلى قراءة “سورة الفتح” كل يوم في صلاة الصبح، وذلك طوال فترة العملية العسكرية. وقال أرباش “سنقرأ ونصلي بسورة الفتح في صلاة الصبح بجميع مساجدنا حتى نحقق الانتصار في العملية العسكرية التي بدأتها قواتنا الأمنية ضد -المنظمات الإرهابية- في شمالي سوريا.. تقبل الله صلواتنا”.
إن مسلسل تزييف الحقائق وَلَيِّ أعناق النصوص الدينية وربطها بالبيئة الاستراتيجية التركية لن يقف عند هذا الحد بل تجاوزه ممثل العثمانيين الجدد إلى ادعاء أن القرآن الكريم كُتِب في تركيا، إذ زعم في كلمة ألقاها أثناء حفل توزيع جوائز الثقافة والفن في المجتمع الرئاسي بأن القرآن الكريم نزل في مكة وقُرئ في مصر وكُتب في تركيا، وهو ما نترفع عن الخوض فيه أو مناقشته بالنظر إلى إجماع المسلمين على أن هذا الكلام يدخل في خانة الهرطقات التي اعتدنا سماعها من طرف من اتخذوا من النصوص الدينية مادة تجارية يلجؤون إليها لتبرير اختيارات سياسية وأطماع توسعية عفا عليها الزمان.
في نفس السياق، لم تسلم الأحاديث النبوية من محاولات التطويع والمتاجرة على يد العثمانيين في محاولة منهم لتكريس عقيدة استعلائية ودغدغة مشاعر المسلمين البسطاء ومحاولة إقناعهم بأن حكمهم يحظى بعناية إلهية ومباركة ربانية. ولعل أهم حديث لجأ إليه الأتراك لكسب تلك الشرعية الدينية هو الحديث الذي ورد في مسند الإمام أحمد بن حنبل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش”.
في هذا الصدد، ربط البعض بين فتح القسطنطينية سنة 1453م على يد السلطان محمد الفاتح وبين الحديث النبوي للوصول إلى خلاصة مفادها أن السلطان العثماني وجيشه هم المقصودون بهذا النص، وهو الطرح الذي ركب عليه العثمانيون ومن شايعهم من جماعات الإسلام السياسي لمحاولة إضفاء هالة من القداسة على الحكم العثماني واعتباره تحقيقًا لنبوءة أشرف المرسلين.
وفي معرض تفاعله مع إحدى المقالات التي نشرت على موقع قناة سكاي نيوز عربية، والذي انبرى بالتحليل والنقد للتأويل التركي للحديث، رد الموقع الرسمي لوكالة الأناضول المحسوبة على الخط الرسمي في تركيا بالقول “لقد حاول كاتب المقال المذكور أن يجعل من فتح القسطنطينية وتحويلها إلى عاصمة الدولة مثالا على استخدام العثمانيين لهذه الورقة لإضفاء الشرعية، متجاهلا السياق الطبيعي لمحاولات المسلمين عبر العصور لفتح عاصمة الدولة البيزنطية لتحقيق بشارة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك منذ عهد الصحابة، وبما أن الدولة العثمانية كانت هي القوة الإسلامية الأبرز، فكان توجهها لتحقيق حلم المسلمين شيئًا طبيعيًّا لا يخرج عن سياقه الطبيعي”.
وردًا على هذا الطرح، يمكن القول بأن هذا الحديث لم يُذكر في الكتب التسعة الأساسية باستثناء مسند الإمام أحمد ومصنفات بعض المتأخرين كمستدرك الحاكم بنفس السند. كما أن أحدًا لم يربط هذا الحديث بدخول القسطنطينية إلا تيار الإسلام السياسي الذي يجتهد في الدعاية إلى الأجندة التركية. على الجانب الآخر، ودون الخوض في سند الحديث الذي يرويه مجهول (بشر الغنوي أو بشر الخثعمي)، فإن جميع من تناول الحديث ربطه بسياقات ملحمة آخر الزمان المرتبطة بخروج الدجال وظهور المهدي ونزول المسيح عليه السلام وما يتبعها من قيام الساعة.
وعليه نجد الشهاب الألوسي الذي عاصر فترة العثمانيين يتردد في نسب الحديث وإسقاطه على دخول القسطنطينية حيث يقول: “وهذا الفتح يُحتمل أن يكون هو الذي من أمارات الساعة، ويحتمل ألا يكون كذلك، ويكون الفتح هو من أماراتها ما يقع زمن المهدي”.
ويذهب معظم السلفيون المعاصرون إلى أن الحديث هو نبوءة لأحداث آخر الزمان، حيث يقول الشيخ حمود التويجري في كتابه “إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة” ما نصه “وقد فتحت القسطنطينية في سنة سبع وخمسين وثمانمائة على يد السلطان العثماني التركماني محمد الفاتح. ولم تزل القسطنطينية في أيدي العثمانيين إلى زماننا هذا في آخر القرن الرابع عشر من الهجرة، وهذا الفتح ليس هو المذكور في الأحاديث التي تقدم ذكرها؛ لأن ذاك إنما يكون بعد الملحمة الكبرى، وقبل خروج الدجال بزمن يسير؛ كما تقدم بيان ذلك في عدة أحاديث من أحاديث هذا الباب”.
بناءا على ما تقدم، يتبين بالدليل القاطع والحجة الظاهرة بأن العثمانيين استندوا إلى النص الديني ليس على سبيل الالتزام والانضباط لتوجيهات القرآن الكريم وسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وإنما كأدوات قابلة للتطويع والتمزيق؛ خدمة لأجندات سياسية ولأطماع لازال العالم العربي والإسلامي يعاني من تبعاتها إلى اليوم.