كيف تمت الخديعة التاريخية؟

منذ حركة "الجامعة الإسلامية" إلى سنوات "النَّكسة"

تعرض التاريخ الحديث في عالمنا العربي للكثير من التزييف والتدليس، إما بصورة مباشرة متعمدة وممنهجة أو غير مباشرة، من خلال تجييش المشاعر واللعب على العاطفة الدينية المصطنعة، وتسويقها لعوام الناس على أنها حقائق ثابتة ومسلمة من المسلمات التي لا يمكن انتزاعها من فكر المجتمعات العربية، فعلى سبيل المثال: في فترة ما قبل سقوط الدولة العثمانية، انتشرت فكرة دعم حركة “الجامعة الإسلامية” التي دعا إليها السلطان عبد الحميد الثاني في بلاد الشام ومصر، فدعت إليها بعض الصحف العربية آنذاك من أجل  الوقوف مع العثمانيين ضد المستعمر الأوربي. ففي عهد عبد الحميد الثاني دعمت فكرة الخلافة على نطاق واسع، وكان الغرض من ذلك استخدامها كوسيلة سياسية لتقف في وجه الدول الأوروبية المتربصة آنذاك بالدولة.

اعتمدت تلك الدعوة على اللغة العربية من خلال الاستفادة من القدرات العربية من الصحفيين العرب وعدد من المشايخ والصوفية العرب، وبطرقهم المتعددة من أجل تمرير أن الخلافة ضرورة إيمانية، انتقلت من أبي بكر إلى العثمانيين، وبأن الخليفة ظل الله في الأرض، ومنفذ أحكامه، إلى غير ذلك من الحجج والمبررات التي تناولها أولئك المدافعون عن السلطان، حتى أصبحت أمرًا لا مناكفة فيه، وضرورة من ضرورات الأمة.

تبنى تلك الفكرة العديد من المؤرخين الذين غلبت عليهم العثمنة الفكرية والسياسية، ومن أولئك المؤرخين محمد فريد بك المحامي وكتابه الشهير “تاريخ الدولة العلية العثمانية”، الذي يعد من أهم المؤلفات التي أسست لصناعة التاريخ المقدس للدولة العثمانية؛ إذ أصدر فريد كتابه في السنوات الأخيرة من عمر الدولة العثمانية، وأهدى كتابه إلى السلطان عبد الحميد الثاني. ويأتي الكتاب كإسهام واضح ضمن حركة “الجامعة الإسلامية” التي دعا إليها السلطان العثماني. وفي كتابه يقدم فريد صورة دينية للدولة العثمانية، وكيف أحيا العنصر التركي الخلافة الإسلامية بعد ضعف العنصر العربي. وزاد على ذلك محقق الكتاب الذي خصص الجزء الأخير من تحقيقه في الدفاع عن الدولة العثمانية ومحاولة تنزيهها من الأخطاء ورفع الحرج عنها، كقوله:” لقد ظلمنا العثمانيين؛ إذ سميناهم مستعمرين ونحن منهم، وظلمناهم؛ إذ قلنا: إنهم مخربون ونحن منهم، وظلمناهم؛ إذ قلنا: إنهم أساؤوا إلى البلاد ونحن منهم، وظلمنا عبد الحميد وسلقناه بألسنة حداد وألصقنا به ما هو براء منه، جريًا وراء دعايات مغرضة، وهو من أفضل ملوك بني عثمان…”.

ولعل في هذا الكم الهائل من المدائح للدولة العثمانية ما هو مثير للاستغراب والتعجب، ولكن في واقع الحال لم يخرج المحقق من ذلك التوجه العام لدى التيار المنافح عن الدولة العثمانية، فأصابته الهالة المقدسة للدولة العثمانية التي لا يستطيع الكاتب وغيره الخروج والحيد عنها، فسار معظم المؤرخين العرب وراء ذلك التوجه خوفًا أو خشية من تصنيفهم معادين للعثمنة، أو اتهامهم بالعلمنة والليبرالية. وهناك أيضًا مؤرخون كثر قد جانبهم الصواب وتلبس عليهم الأمر؛ لتأثرهم بمدرسة تاريخية عاطفية، وبالتالي لا ينظر أمثال هؤلاء للدولة العثمانية إلا برداء المظلوم والمجني عليها، كما فعل الدكتور عبد العزيز الشناوي في كتابة “الدولة العثمانية: دولة إسلامية مُفترًى عليها”، ونهج طلابه نهجه في تلك النظرة، وفي الوقت نفسه غفلوا أو تغافلوا عما فعلته الدولة العثمانية في المسلمين في البلاد العربية من فظائع وجرائم، تتناقض مع العاطفة التاريخية تجاههم، فكون الدولة العثمانية دولة إسلامية لا يعني أنها لم تقع في أخطاء لا تغتفر، ويتعمد تدليسها والمرور عليها مرور الكرام.  

وقد زاد كبر هذا الأمر بعد أن تبنته التيارات والحركات الأيديولوجية المتطرفة، وجعلته من أساسياتها في نشر دعواتها، وأن العثمانيين هم الخلفاء، وبعد سقوط خلافتهم المزعومة؛ تبنت التيارات المتطرفة الأمر ودعت إلى إعادة الخلافة من خلال تنظيماتها وأفكارها المحاربة للكيانات السياسية في المنطقة العربية، وتشكل لذلك التنظيم العالمي الإرهابي للإخوان المسلمين، الذي سعى -ولا زال- للوصول إلى سدة الحكم بأي وسيلة ممكنة، حتى لو تحالف مع الشيطان، والحجة هي إعادة الخلافة الراشدة زورًا وبهتانًا. وبرز من أولئك المتبنين للأفكار المتطرفة كتاب “زياد أبو غنيمة”، الحركي في جماعة الإخوان الإرهابية، الذي أعد كتابًا في الدفاع المستميت عن الدولة العثمانية، وإظهار جوانبها المضيئة المزعومة والمكذوبة.

تنظيم جماعة الإخوان الإرهابي روَّج للدعاية التاريخية للعثمانيين محاربةً للكيانات السياسية العربية.

للأسف لا زال هناك الكثير من المخدوعين في الدولة العثمانية والمنبهرين مما يشاهدونه من آثار ومساجد وقصور فارهة للسلاطين في عاصمة الدولة بإسطنبول، متناسين الأفعال السياسية والعسكرية والبشاعة والغلظة في التعامل مع العرب، خلال استعمار الدولة لبلدانهم العربية.

  1. أنور الجندي، السلطان عبد الحميد والخلافة الإسلامية (بيروت: دار ابن زيدون، 1407هـ).

 

  1. جمال مسعود ووفاء جمعة، أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ الدولة (المنصورة: دار الوفاء، 1995).

 

  1. زياد أبو غنيمة، جوانب مضيئة في تاريخ العثمانيين الأتراك (عمّان: دار الفرقان، 1983).

 

  1. طلال الطريفي، العثمانيون: التاريخ الممنوع، ط2 (الرياض: دار ائتلاف، 2020).

 

  1. عمر عبد العزيز عمر، تاريخ المشرق العربي 1516-1922م (بيروت: دار النهضة العربية، 1985).

 

  1. محمد فريد بك، تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، ط2 (بيروت: دار نفائس، 1983).