إبراهيم باشا في الدرعية
سوَّغ إبراهيم باشا لمن أشربه أصول التعاملات الدموية محمد علي باشا، عدم دخول بريدة عنوة رغم أن ذلك كان بإمكانه أن يفعله، وأن يقبض على حاكمها حجيلان حيًّا لأن القيام بذلك لن يأخذ منه – حسب رأيه – سوى خمسة عشر يومًا فقط، ولكنه آثر ألا يفعل ذلك من أجل أن يُبقي قوته للهدف الأساس وهو الدرعية، ثم شرح ما حصل من صلح مع حجيلان، وأنه أخذ ابنه رهينة وذلك تعليلاً لعدم إرسال حجيلان لمصر، ثم ذكر أنه أرسل إلى المدينة النبوية يطلب الذخائر اللازمة لكي يتحرك نحو الدرعية.
كانت المكاتبات والمراسلات مستمرة برعاية السلطنة في إستانبول، ومنها الرسالة التي بعثها إلى محمد علي وكيله لدى الآستانة محمد نجيب فهي مؤرخة بتاريخ 15 صفر سنة 1233هـ/25 ديسمبر 1817م، يخبره فيها أنه بينما كان يعد جوابًا لرسالته التي كان بعثها إليه بشأن أخبار تحركات ابنه ابراهيم في الجزيرة، وأنه قد أوصلها إلى السلطان، إذ وردت إليه مكاتباته التالية في 12 صفر 1233هـ، وفيها ذكر لبريدة، وأن عبدالله بن سعود ذهب إليها لحصانة قلعتها، ثم تحوله عنها لعدم تمكّنه من الاستقرار فيها.
جمادى الثانية سنة 1233هـ /8 ابريل 1818م، فيذكر فيها استلامه كتاب محمد علي إليه الذي بشّره فيه بتحرك ابنه ابراهيم من بريدة وتوجهه نحو شقراء بعد استكماله التجهيزات والاستعدادات الكفيلة بنجاح مهمته، والمهمة هي تدمير وإسقاط الدولة السعودية الأولى.
استمر حصار الدرعية أشهرًا متتالية، وكان الباشا قد اختار نخل العويسية بأسفل الدرعية مقرًا لإقامته، ووزع عساكره ومرتزقته حول أطراف البلدة وبين نخيلها والقرى المجاورة للعمل على هدم أسوارها وحصونها وأي قوة عسكرية، ولم يكن انتشارهم إلا فسادًا وخرابًا وعبثًا تصاحبه أعمال تترية في التعامل مع السكان واغتصاب الطعام والأعلاف، وذلك أقل ما يمكن أن يُذكر.
وجّه الباشا مدفعيته صوب الحي الذي يسكنه الإمام عبدالله بن سعود، وتحوّل بسبب القذائف المكثفة إلى كتل من نار، مما جعل الإمام يتخّذ قرار تسليم نفسه مقابل حقن الدماء والدمار الذي أحدثوه، واُخذ أسيرًا ومعه عدد من رجاله إلى مصر.
وذكر المؤرخ المصري الجبرتي في حوادث 1234هـ شهر محرم: وصل عبدالله الوهابي – نسبة للدعوة – فذهبوا به إلى بيت إسماعيل باشا ابن الباشا فأقام يومه وذهبوا به في صبحها عند الباشا بشبرا – من أحياء القاهرة – فلما دخل عليه قام له وقابله وقال له ما هذه المطاولة؟ رد الإمام الحرب سجال …، كيف يُسأل من وقف في وجه المعتدين هكذا سؤال، وتعتبر بسالتهم في الدفاع مطاولة!
في يوم 19 محرم سافر الإمام إلى الإسكندرية، وفي رحلته جماعة من التتر – هكذا وصفهم بعض المؤرخين – إلى مقر السلطنة العثمانية، وهنا يذكر الجبرتي في حوادث العام نفسه في شهر جمادى الأولى وصلت الأخبار عن عبدالله بن سعود أنه لما وصل إلى إستانبول طافوا به في البلدة وقتلوه عند باب همايون وقتلوا من كان معه، وتلك الأعمال الوحشية ديدنهم، ويذكر بعض الرحّالة أنه عندما يسأل المارة عن القتلى والذين يُطاف بهم، يُقال لهم: إنهم مارقين وخارجين ولذلك وجب التخلص منهم، ولم تكن لديهم الجرأة في أن يفصحوا عن حقيقة أعمالهم، أولئك هم الخارجون أنفسهم عن الآدمية وإنسانيتها.
في الدرعية تفرّغ الباشا لارتكاب فظائع تاريخية، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر، تعقب أهل العلم وتقديمهم للتعذيب بطرق تقشعر لها الأبدان ثم قتلهم، كالربط في أفواه المدافع ثم إطلاقها، وقلع الأسنان، والضرب المُهين وما ذلك إلا بأيدي وحوش اعتادت القيام بمثل تلك الأفعال.
وممن قتلهم بوحشية الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب، وكان قد أجلسه الباشا في مجلس فيه معازف لعلمه بأن ذلك يؤذي الشيخ، وبعدها خرجوا به إلى المقبرة – حتى الموتى لم يسلموا من الأذى – وأمر جنده بإطلاق نيران المدفعية دفعة واحدة فتمزق جسده.
وألقى القبض على كل من وقع تحت أيديهم من آل سعود وآل الشيخ، وتم إرسالهم إلى مصر، ولم يسلم إلا من تخفى ومنهم تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود وأخوه زيد، وكذلك الشيخ علي بن حسين بن الشيخ محمد، وعادوا في عهد عودة الإمام تركي بن عبدالله.
ومن أبشع ما يمكن أن تصل وصايا الباشا محمد علي إلى ربيبه إبراهيم، وتلك الوصايا كانت انتقامية تطلب تدمير الدرعية وضرب الحائط بالاتفاقية وحقن دماء السكان، فقام الجنود بهدم البيوت وقطع النخيل وتخريب المزارع وردم الآبار وإشعال النيران في البيوت والمساجد وغير ذلك.
وتبقى الأطلال في الدرعية شامخة شاهدة على طغيانهم وسفكهم للدماء، وما أعمالهم تلك إلا لإحداث مجاعة، وإرغام الأهالي على أن يهجروا الديار، وأن يتفرقوا شتاتًا لضمان ألا يعود البيت السعودي وإعادة دولة ودعوة من جديد، ولكنهم لا يفقهون طبيعة مع من اعتقدوا بأنهم استطاعوا التخلص منهم باستخدام بشاعة القوة التترية.