عودة إبراهيم باشا إلى مصر وطغيان الغرور

كتب أحد المؤرخين: “لو علم الطاغية إبراهيم باشا بما سجّله المؤرخ المصري الجبرتي عنه في وقته، لَمَا أبقاه حيًّا ولما أبقى تأريخه، ولكن الله أبقاه وحفظ تاريخه لتقرأ الأجيال المتعاقبة ذاك الوصف وتعرف أن مثله لا يُستكثر عليه كل ما جاء به وكل ما ارتكبه هو وجنوده من الخراب والفساد”.

أرخ الجبرتي لعودة إبراهيم باشا لمصر فكتب في حوادث 1235هـ/1819م: “ورجع إبراهيم باشا من هذه الغيبة متعاظمًا في نفسه جدًا وداخله من الغرور ما لا مزيد عليه، حتى أن المشايخ لما ذهبوا للسلام عليه والتهنئة بالقدوم أقبلوا عليه وهو جالس في ديوانه لم يقم لهم ولم يرد عليهم السلام، فجلسوا يهنئونه بالسلامة، فلم يجبهم ولا بالإشارة، بل جعل يحادث شخصًا سخرية عنده وقاموا على مثل ذلك منصرفين منكسري الخاطر”، إنه جنون العظمة.

أما المؤرخ السعودي ابن بشر، الذي صوّر تلك الفترة القاسية تصويرًا دقيقًا في حوادث 1234هـ/1818م فقال: “وفيها كثر الاضطراب والاختلاف، ونهب الأموال وقتل الرجال، وتقدم أناس وتأخر أناس، وانحل فيها نظام الجماعة والسمع والطاعة، وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يستطيع أحد أن ينهي عن منكر أو يأمر بطاعة، وارتكبت المحرمات والمكروهات في المجتمعات، واختفت المدارس ودور العلم وهجرت المساجد وعمرت المجالس باللهو والطرب والغناء، وسل سيف الفتنة بين الأنام وأمسى الإنسان لا ينام في بيت آمنًا”.

ويكمل ابن بشر فيقول: “وتعذّرت الأسفار بين البلدان وظهرت دعوى الجاهلية بين الناس علنًا، وتذكّر الناس الضغائن والأحقاد القديمة، فتواثبوا على بعضهم، وقتل بعضهم بعضًا في الأسواق، وصار الناس لا يمشون في الأسواق إلا بالسلاح ليلاً ونهاراً”.

يؤكد ذلك أيضًا الجبرتي وقائع تلك الأحداث، حين وصف حال جند الباشا عند سفرهم في شهر رمضان إلى الحجاز، فقال: “وعند وصولهم نصبوا خيامهم، وكانوا يشربون ويأكلون جهارًا في نهار رمضان، ويقولون نحن مسافرون ومجاهدون – وتلك تعاليم يعلمونها ولا يعلمون كيف يطبقونها، وما هو إلا استغلال للدين – وكانوا يمرون بالأسواق ويجلسون وبأيديهم الأقطاب والشبكات، وعندما لا يجدون من يصنع لهم القهوة في نهار رمضان يكسرون الأبواب ويعبثون بكل ما يمتلكه البسطاء وكان مصدر أرزاقهم”

لقد عاد الباشا وترك أذنابه، ونقل المؤرخ اللبناني أمين الريحاني، عن الرحّالة الأوروبي هوغارت قوله: “لم يكن يطمع محمد علي في ضم البلاد العربية إلى ملكه لذلك لم يحسن معاملة أهلها، وجل ما ابتغاه أن يظلوا كما كانوا قبل ظهور المذهب الوهابي على الشقاق والفوضى”.

ولم تكن حال العرب كذلك قبيل ظهور دعوة الشيخ الوهابية الإصلاحية، إلا لأن الأوضاع كان يُرثى لها؛ لوقوعها تحت وطأة السيطرة العثمانية .

رثى أهل الدرعية العالم الشيخ عبدالعزيز بن حمد بن معمر من البحرين بقصيدة جاء فيها:

ألا أيها الإخوان صبراً فإنني       أرى الصبر للمقدور خيراً وأنفعا

ولا تيأسوا من كشف ما ناب إنه   إذا شاء ربي كشف ذاك تمزعا

إليك إله العرش أشكو تضرعًا     وأدعوك في الضراء ربي لتسمعا

وكم قتلوا من عصبة الحق فتية    هداة وضاة ساجدين ورُكَّعَا

وكم دمروا من مَرْبَعٍ كان آهِلاً     فقد تركوا الدار الأنِيسةَ بلقعا

وأصبحت الأموال فيهم نَهَائِبًا      وأصبحت الأيتام غَرْثَى وجُوَّعَا

لقد غادر الباشا بعد تخريب ودمار شهد عليه البشر  والحجر، ناقلاً معه عتاده، متنقلاً بعد تنفيذه لأوامر متعالية صدرت عليه من الباب العالي.