الأيديولوجيا والتيارات المتطرفة

أضْفَت على التاريخ العثماني القداسة

لا يزال تاريخ الدولة العثمانية والمصير الذي آلت إليه من النقاط المُثيرة حتى الآن، على الرغم من مرور عشرات السنين على زوالها، وبالقطع عرفت منطقتنا العربية- وما تزال- هذا الجدل الحادَّ حول الدولة العثمانية، وتأثيرها المباشر علينا، هذا فضلًا عن رصد أسباب سقوطها، وتداعياته على التاريخ العربي.

وتمثِّل مسألة التاريخ العثماني حالة خطيرة لتداخُل التاريخ بالأيديولوجيا في عالمنا العربي، لا سيما مع تعظيم التيارات الإسلامية لدور الدولة العثمانية، والنظر إليها على أنها “آخر خلافة إسلامية”، وبالتالي صناعة تاريخ مقدَّس لها، وتوظيفه في خدمة أهدافها السياسية. ويلخِّص المفكر اللبناني رضوان السيد هذه النظرة الإسلاموية للدولة العثمانية قائلًا: “بَدَا العثمانيون في كتابات الإسلاميين فرسان الجهاد، ورمز قوة الإسلام ومجده”.

وفي الحقيقة لقد بدأ ذلك الاتجاه في الصعود إلى الساحة قُبَيل سقوط الدولة العثمانية، في محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هيبتها التي تدهورت بشدة حتى في عيون من كانوا يَرْزَحون تحت سلطتها، خاصةً مع تحول هذه الدولة إلى “رجل أوروبا المريض” التي تنتظر الدول الأوروبية الاستعمارية وفاته؛ لكي يتم تقسيم التركة، أو في الحقيقة ما تبقَّى من ولايات عثمانية.

وكانت أهم هذه الدعايات “الإسلاموية” لتاريخ الدولة العثمانية كتاب محمد فريد بك المحامي، الذي صدر في مطلع القرن العشرين، وهو كتاب “تاريخ الدولة العلية العثمانية”، الذي كتبه مؤلفه لصالح مشروع السلطان عبد الحميد الثاني لإحياء الخلافة الإسلامية.

لكن صناعة التاريخ المقدس للدولة العثمانية أخذت بُعدًا حادًّا مع سقوط الدولة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وتحديدًا بعد نهاية الحرب بقرابة 6 سنوات في عام (1924)، ونجد ذلك واضحًا في كتابات أحد أهم رموز الفكر المتطرف، وهو حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان الإرهابية؛ إذ يُحوِّل الدولة العثمانية إلى “أيقونة” مقدسة، ويتحسَّر في مذكراته على سقوطها، ويأخذ على مصطفى كمال أتاتورك “عميل الغرب”، تجرُّؤه على إلغاء ما يطلق عليه الخلافة العثمانية، وكيف لبست إسطنبول القبعة على النمط الأوروبي، وهي التي “كانت إلى بضع سنوات في عُرف الدنيا جميعًا مقر أمير المؤمنين”، أي مقر الخلافة كما يزعم.

بعد سقوط العثمانيين استغل الفكرُ المتطرف توظيف التباكي عليهم بالتغلغل وتزييف التاريخ.

من هنا أعلن البنا بكل وضوح أن تأسيسه جماعة الإخوان في عام (1928) كان ردًّا على إلغاء أتاتورك ما يسميه الخلافة العثمانية عام (1924)، ويصبح مبدأ إعادة إحياء الخلافة من جديد من فرائض الجماعة.

وعلى ذلك تتوالى كتابات التيار الإسلامي التي تَعمد إلى رسم تاريخ مقدس للدولة العثمانية بعيد كل البُعد عن المنهجية التاريخية، تاريخ قائم على نظرية المؤامرة، فضلًا عن النظرة الأيديولوجية للتاريخ، والبحث عن الفردوس المفقود، وإعادة الخلافة من جديد، وبالقطع لن نستطيع في هذا المقال القصير التعرض بالدراسة والنقد لكل هذه الكتابات، وهي كثيرة جدًّا، وإنما سنختار إحداها، بل أهمها، ليكون حالة دراسة لمثل هذه الحالة الماضوية في كتابة التاريخ.

يعتبر كتاب عبد العزيز الشناوي “الدولة العثمانية.. دولة إسلامية مفترى عليها” من أبرز الكتابات التي ساهمت في صناعة تاريخ مقدس للفترة العثمانية، ويظهر تأثير الأيديولوجيا واضحًا منذ البداية، ومن عنوان الكتاب نفسه “دولة إسلامية”، وأيضًا “مفترى عليها”، وفي الحقيقة يجب أن نأخذ هذا الكتاب أيضًا في السياق الزمني لصدوره، بعد هزيمة يونيو (1967)، وتراجُع الفكر القومي العربي، وصعود التيارات الإسلامية من جديد، ومحاولة صناعة تاريخ مقدس، وإقناع الناس بأن الدولة العثمانية دولة خلافة، لذلك يُثار حولها الكثير من الجدل.

ويرى الشناوي أن تاريخ الدولة العثمانية تعرَّض لحملات مكثفة “استهدفت التشهير بها والنَّيل منها، قامت بهذه الحملات المكثَّفة قوتان عالميتان عاتيتان، هما الاستعمار الأوروبي والصهيونية”.

وهكذا يلجأ الشناوي إلى نظرية المؤامرة على الدولة العثمانية، بل ويصل إلى القول بأن هناك تحالُفًا صليبيًّا ماسونيًّا ساهم في إسقاطها، كما يهاجم الشناوي المؤرخين العرب الذين انتقدوا الدولة العثمانية، وقدَّموا “صورة حالكة الظلام لها”، وهؤلاء أيضًا اتهموا الدولة العثمانية أنها وراء العزلة عن العالم التي “فرضتها على ولاياتها العربية، مما أدى إلى نشر الفقر والجهل والمرض”.

ويقدِّم المؤرخ العراقي قيس جواد العزاوي صورة أكثر واقعية، وموضوعية عن تاريخ الدولة العثمانية؛ إذ لا يُنكِر العزاوي الدور الخارجي في إضعاف الدولة، ولكنه يرى – وهو على حق في ذلك- أن الدولة العثمانية انهارت لعوامل داخلية ومؤثرة في بنية الدولة، ويرصد العزاوي ما أطلق عليه “عوامل انحطاط الدولة العثمانية”، ويستند إلى المقولة الشهيرة لابن خلدون: “إذا استحكمت طبيعة المُلك من الانفراد بالمجد، وحصول الترف والدعة، أقبَلَت الدولة على الهَرَم”.

من هنا يرى أن عوامل انهيار الدولة العثمانية هي الامتيازات الأجنبية، والتنظيمات، وتغريب المجتمع، ثم السماح بالوصاية الغربية على الأقليات الدينية داخل الدولة، هذا فضلًا عن الصراع بين القوانين الوضعية التي فرضتها الدولة والشريعة الإسلامية.

ويُضاف إلى ما ذهب إليه العزاوي – وقد يكون أغفله- أن الدولة العثمانية فرضت نفسها على بقعة جغرافية كبيرة بغير حق، خصوصًا بعد أن احتلت البلاد العربية، ولو أننا تجاوَزنا مسألة الاحتلال وفرض الهيمنة والاستعمار التركي الشعوبي، فإن سياسة الدولة العثمانية كانت سياسة استبدادية وقاهرة، ومتعمِّدة في الوقت نفسه تأخير العالم العربي وتجهيله، واستهلاك خيراته، كما أنها كانت تتعامل مع العرب بكل وحشية وقسوة، بالقتل والتنكيل وسلب الإرادة.

هكذا ندرك أن الدولة العثمانية دولة مستعمِرة ومستبدَّة، وليست دولة لها تاريخ مقدس صنعته وتحاول دائمًا توظيفه التيارات الإسلامية.

  1. قيس جواد العزاوي: الدولة العثمانية.. قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، طـ5، القاهرة، 2014.
  2. عبد العزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1980).
  3. محمد فريد بك، تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي (القاهرة: دار النفائس، 1980).