الإمام تركي بن عبد الله.. صانع التاريخ من نجد

سقوط الدرعية 1818م، لم يكن سقوطَ دولةٍ فحسب، بل كان خروجًا لمشروع نهضة ووحدة عربية من سياقه التاريخي الطبيعي، كانت بواكيرها قد بدأت من الدرعية أواسط الجزيرة العربية، ليتأجل المشروع أعوامًا عدة، حتى قيام الملك عبد العزيز بتأسيس الدولة السعودية الثالثة.

 لم يكن ذلك الخروج التاريخي المؤقت بسبب العوامل الفكرية أو ضعف قدرات الدولة الناشئة، بل لأن قوة عسكرية – عثمانية- كبيرة بمقاييس ذلك الوقت غزت الجزيرة العربية وحرمتها من حقها الطبيعي في النهوض على أيدي أبنائها.

وكطائر العنقاء الذي ترويه الأساطير، عادت الدولة السعودية من بين ركام الدرعية وروائح البارود وبقايا الدماء الطاهرة التي روت الأرض بعد مقاومتها الجيوش العثمانية.

لقد كان العنف العثماني في الدرعية لا مسوغ له، وجرائم الإبادة التي قام بها باشوات الترك في الجزيرة العربية جريمة في الإنسانية والتاريخ، ولأن صنّاع التاريخ قليلون، فقد كان الإمام تركي بن عبد الله أحد أولئك الذين وضعوا بصمتهم، وفتحوا باب التاريخ على مصراعيه ليدخلوا منه وليعيدوا إنشاء دولتهم السعودية الثانية، في سابقة نادرة لن يكررها إلا حفيده الملك عبد العزيز الذي أنشأ بدوره دولته الثالثة.

لا شك أن العنف والإبادة الجماعية التي ارتكبها الترك العثمانيون كانت وقود المقاومة السعودية، ومُفجرة أمل العودة في الحاضن الشعبي الكبير في الدرعية ونجد وبقية الأقاليم السعودية، ولذلك عندما أعلن أئمة آل سعود نيتهم استرداد دولتهم التف الناس حولهم، ولعل التاريخ لن ينسى مجرم الحرب حسين باشا الذي حكم نجد منذ العام 1820م، حين جمع أهالي الدرعية وعائلات أخرى من مدن وقرى نجد، وأعطاهم الأمان على أطفالهم ونسائهم، ودعاهم لأخذ رسائل تسهل مرورهم من الحاميات التركية، وعندما اجتمعوا عنده أمر جنوده بإبادتهم جميعًا رجالا ونساء وأطفالاً وشيوخًا، قُدِّر عددُهم بالمئات.

لم يكتف حسين بك بذلك، بل عاد إلى الرياض ليقاتل الإمام تركي بن عبد الله ومن معه، ولفطنة الإمام وخبرته بعنف الأتراك تسلل إلى خارج الرياض، لكن حسين باشا كعادته غدر بالآخرين ممن حوصروا وطلبوا الأمان، الذي أعطاهم إياه فعلا، لكنه غدر بهم وقتلهم وقدر عددهم بسبعين رجلا.

ولو لم يكن الإمام تركي يتحلى بصفات قيادية كبرى واستثنائية، لما استطاع إعادة دولته من جديد في أقل من خمسة سنوات من سقوط الدولة الأولى، ففي العام 1823م، بدأ تحركه لاستعادة الدور الريادي والقيادي للدولة السعودية في الجزيرة العربية، وكان هدف الإمام تركي الأول استعادة دور بلاده في الجزيرة العربية، وثانيًا اقتلاع القواعد العسكرية المتقدمة للمحتل التركي والموزعة على بعض مدن ونواحي نجد، وخاصة الحاميتين التركيتين في منفوحة والرياض، اللتان قاتلهما الإمام لمدة عام كامل، إضافة إلى ست حاميات أخرى، مجبرًا كل من فيها من مرتزقة الترك على المغادرة والهروب من نجد.

 

وتجلت عبقرية الإمام في انسحابه من الرياض إلى مناطق آمنة حتى يستطيع جمع أكبر قدر ممكن من الأعوان والحلفاء؛ للعودة مرة أخرى والإغارة على الترك الذين أعادوا احتلال الرياض، وأسسوا فيها حامية تركية، وهو ما جعل للإمام اليد العليا خلال المعارك اللاحقة معهم.

الإمام الحصيف وجد أن الأحساء قاعدة متقدمة للعثمانيين، ومستودعٌ لرجالهم وأسلحتهم ومنطلق غاراتهم على نجد، ولذلك كان لابد من القضاء عليهم في معقلهم، وبلا شك كان لهروب ابنه فيصل بن تركي من السجن في مصر سنة 1828م، دوره في تعزيز ملكه، إذ أصبح الأمير فيصل الساعد الأيمن لوالده في الشؤون العسكرية، وتمكّن من الانتصار في معركة الأحساء المهمة وإخضاعها لنفوذه.

ويعد الإمام تركي بن عبد الله فارسا ومِفْصَلًا مهمًّا في تاريخ الدولة السعودية، فهذا الفارس الذي أعاد صياغة دولة آل سعود الثانية لم يقف عند حدود الصراعات التي دارت، وخصوصا عندما اختار الرياض عاصمة للدولة، كاشفًا دهاء الإمام تركي وواقعيته، فالدرعية تهدّم معظمها وإعادة بنائها يستغرق وقتًا طويلا، بينما كان الإمام مهتما أكثر بإعادة بناء الدولة وتأسيس نظام حماية يقيها من الغزاة، إضافة إلى طبيعة الرياض الزراعية والجغرافية التي أعطت لها الأفضلية عن غيرها.