"أثر الاختلاط والتنافس بين العرب والفرس بالعصر العباسي"

عدّ المؤرخون عصر الدولة العباسية، بأنه العصرُ الذهبيُّ للحضارة العربية الإسلامية، ذلك الذي بلغ فيه العباسيون من العمران والمكانة السياسية الكُبرى درجةً لم يُسْبَق إليها، فامتدت فيما بين قارتَي آسيا وإفريقيا، إذ أثرت فيه الفنون الإسلامية، وزهت فيه الآداب العربية، ونقلت العلوم الأجنبية ونضج العقل العربي، فلم يجد سبيلاً إلا البحث والتفكير البنَّاء، ودخلت على القوى العربية الفاتحة، كثير من الأمم والشعوب المختلفة التي تأثرت بأخلاق أولئك العرب الفاتحين وبدينهم، فانضوت تحت لواء الدولة العباسية، ومع ما في ذلك من إيجابية ظاهرة إلا أن هذا الاختلاط والتنافس بين شعوب الدولة العباسية أدى إلى ظهور الشعوبية المُبْغِضة للعرب، والمقللة من قيمتهم وقَدْرِهم، من فرس وغيرهم، وقد عرّف المؤرخ عبد العزيز الدوري –رحمه الله- في كتابه: “الجذور التاريخية للشعوبية” مصطلح “الشعوبي” بأنه: “هو الذي يصغّر شأن العرب ولا يرى لهم فضلاً على غيرهم”، بل هم الذين قاموا يردون على العرب دعواهم في فضلهم على الأمم، ومواكبة الرقي الحضاري والتطور الإنساني في حركة التاريخ.

ولم يقتصر الشعوبيون على تحقير شأن العرب، بل تمادوا في حقدهم إلى تفضيل غير العرب عليهم، وتجلَّت تلك الشعوبية بوضوح خلال المناظرات والمساجلات، التي كانت تُعْقَدُ كثيرًا في ذلك العصر.

وقد حمل لواء الشعوبية شعراء مميزون، فكانوا لسانها العضب وسلاحها المسلول، وأبواقها الناعقة ضد العرب، ولكن النزاع كان في معظمه نزاعًا بين العرب والفرس، والشواهد على ذلك كثيرة حسبما أشار إليه كثير من المؤرخين من معاصري تلك الفترة التاريخية، فمَنَ كان يظن أن يُوصَفَ في القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، الشاعر بشار بن برد -الفارسي الأصل- بأنه شديد التَشَعُّب والتعصب للعجم؟! وهو القائل شعرًا:

                    الأرض مُظلِمةٌ والنار مشرقةٌ        والنارُ معبودة مذ كانت النار

فهل حنَّ بشار إلى دينه القديم وإلى عصبيته لفارس؟. أو الشاعر المشهور “ديك الجن” الذي عُرِفَت عنه عصبيته الشديدة ضد العرب، إذ كان يقول: “وما للعرب علينا فضل، جمعتنا وإياهم ولادة إبراهيم -عليه السلام- وأسلمنا كما أسلموا، ومن قَتَل منهم رجلاً منا قُتِل به، ولم نجد الله -عز وجل- فضلهم علينا إذ جمعنا الدين!”، وغيرهم من الشعراء والأدباء الذين طغت عليهم شعوبيتهم كالصغدي، ومهيار الديلمي وأبي إسحاق المتوكلي.

إن تلك الأشعار التي صدح بها الشعراء، أو المرويات التي رواها الرواة ضد العرب كانت تبين أن الشعوبية أصبحت أمرًا لا خفاء فيه، فجَهَرَ الشعراءُ بشعوبيتهم دون وَجَلٍ أو خَوْفٍ من السلطة العباسية. وهناك من ألَّف التآليف التي نالت من العرب وافترت عليهم المثالب كالجيهاني الذي ألَّف كتابًا سبَّ فيه العرب، وتناول أعراضهم، وحطَّ من قدرهم، واتهمهم بأنهم يأكلون الحشرات والهوام، وكأنهم قد سُلِخُوا من فضائل البشر؟! ولا ننسى هنا الكاتب الشهير عبد الله بن المقفع ، الذي عُدَّ رأسًا من رؤوس الشعوبية الفارسية ضد العرب، بل هناك من وصف حقيقته أنه عدوٌ للعرب مخلصًا للفرس والعصبية الفارسية، ولعل من أهم مواقفه المتعصبة التي يُبْرِزُ فيها الاحتقار من العرب إلى آخر يوم في حياته عندما أُمِر بقتله قال مخاطبًا الأمير العربي: “والله إنك لتقتلني فتقتل بقتلي ألف نفس، ولو قتل مائة مثلك ما وافوا بواحد” تَهَكُّما من العرب في أحرج المواقف.

والأسماء كثيرة في تاريخنا السياسي والأدبي والثقافي، وظلت الشعوبية تُمَارَسُ في التاريخ إلى ما بعد الدولة العباسية بطرق وأساليب مختلفة، وفكر ونهج نهجه كثير من الشعوب المنضوية  تحت راية  الدولة العباسية.