في حالة من العُزلة والتزييف

فرض العثمانيون واقعًا من الجهل والتأخر حفاظًا على سيطرتهم على العالم العربي

استخدم العثمانيون في طريقة احتلالهم للدول العربية أسلوب العزلة الثقافية والعلمية، وحوَّلوا الشعب العربي إلى كتلة بشرية غير متعلمة، تهيم في الأراضي بلا هدف ولا أمل ولا مستقبل، وتم استخدامهم كجنود في معاركهم المختلفة، حيث يتم شحن الشباب العربي دون تدريب إلى ساحات القتال، حيث يَفنُون هناك بلا مبرِّر، وتم الاستفادة من بلادهم كممرات اقتصادية، ومناطق يتم جلب المواد الخام منها، وتحصيل الزكوات والرسوم من سكانها.

الاحتلال العثماني للدول العربية كان رجعيًّا ما ورائيًّا، ولم يكن أسلوبًا عفويًّا، ولا أخطاء إدارية، كما يحاول البعض من المعاصرين المنتمين للتيار العثماني قوله، ولم تكن أيضًا سياسة يتطلَّبها واقع التعامل مع الأرض العربية كما وصفها العثمانيون، فقد حكم الأمويون والعباسيون الأراضي العربية، ولم يستخدموا سياسة الأرض المحروقة، ولا التجهيل المتعمَّد، ولا فرض العزلة الثقافية والعلمية على أبنائها كما فعل العثمانيون.

وحتى عند مقارنة العثمانيين بالمماليك سنجد أن المماليك نجحوا في إنقاذ المشرق من الخطر المغولي، وأنه لولا اتحاد بلاد الشام ومصر في ذلك الوقت ما أمكن تحقيق الانتصار على المغول، على عكس العثمانيين الذين كانوا يفرقون بين البلدان والشعوب، كما أن المماليك لم يتعمَّدوا إغراق البلاد العربية في الجهل، بل أعطوهم مكانتهم، حتى إنهم أبقوا الخليفة العباسي كرمزية عربية للحكم.

نظام الحكم القهري:

لم يكن الأسلوب المتَّبَع في نظام الاحتلال العثماني للأقاليم العربية رشيدًا، بل تعمَّد السلاطين وولاتهم عدم إدخال أي تحديثات بهدف ضمان ولاء الأقاليم واستمرار نفوذهم فيها، كما حرص العثمانيون على اتِّباع أسلوب سياسي ضد القوى المحلية وتجريدها من مكانتها وقوتها، واستخدام سياسة (فرِّق تَسُد)، التي تقوم على إثارة الضغائن والأحقاد والصراعات بين القوى المحلية حتى تضعف ولا تَقدِر على تهديد السيادة العثمانية في مناطق النفوذ.

تقول الدكتورة بثينة عباس الجنابي في كتابها “نظم الحكم والإدارة العثمانية في الوطن العربي”: “إن نظام الإدارة العثمانية في البلاد العربية التي سيطرت عليها الدولة العثمانية زهاء أربعة قرون كان نظامًا مركزيًّا – قاسيًا – حيث قسم العثمانيون البلاد العربية التي خضعت لهم إلى ولايات صغيرة؛ كي يسهل السيطرة عليها”.

كان السلطان يمثِّل أعلى سلطة في الدولة العثمانية، وكانت سلطاته مستمَدة من قوة الجيش الإنكشاري، وأهم مؤسسات السلطنة هي البلاط، وكان أعضاؤه يتمتعون بامتيازات كبيرة، كما كان للنساء دور كبير في البلاط، سيما إبَّانَ ضعف الدولة، حيث كانت أم السلطان وزوجته تلغي بعض القرارات التي يتخذها السلطان نفسه، هذه الأمور أدَّت بالتأكيد إلى ضعف الدولة وانهيارها.

خلال حقبة الحكم العثماني للوطن العربي – البالغة حدود أربعة قرون – حافظ العثمانيون على النظام الإقطاعي، وبصورة عامة حافظوا على الشكل الإداري القديم، حيث لم يكن للدولة العثمانية رغبة في إحداث أي تغيير جوهري على البلاد التي احتلوها.

التجهيل والقطيعة الثقافية:

استخدم العثمانيون مع العالم العربي سياسة التجهيل والتأخير الثقافي، وكانت سياسة متعمَّدة، وعند تفكيك الحياة اليومية للشارع العربي في عصر الاحتلال العثماني وحال الشارع العثماني نفسه، سنجد الفرق شاسعًا جدًّا، فالتعليم منتشر داخل الإقليم التركي، والمعمار في أعلى صوره، والتنمية مزدهرة من مستشفيات ودُور رعاية وطرق مرصوفة ومكتبات، وحمامات عامة، في المقابل لم يَحظَ العالم العربي بأي شيء من مظاهر التحضر والتنمية، فلا مستشفيات ولا مدارس نظامية، ولا طرق معبَّدة، ولا مباني ومعمار يساوي مباني إسطنبول – والجزيرة العربية خير شاهد على ذلك – كما أن التعليم العربي محرَّم أو متجاهَل تمامًا، وغير موجود في البنية الإدارية، كما سمح بانتشار الجهل والطرق الدينية، بل دعم انتشارها؛ كونها أحد أساليب التفتيت والتقسيم والسيطرة.

حرص العثمانيون على تقسيم العالم العربي لمناطق ضعيفة لسهولة السيطرة عليها.

يقول الباحث خليل علي حيدر في منشور له بعنوان “فساد التعليم العثماني”: “لم يكن التعليم النظامي العام وحده متخلِّفًا أو غائبًا في العالم العربي في الحقبة العثمانية، بل حتى التعليم الديني نفسه، رغم قِدَم جذوره وتاريخ مؤسساته، بل لا يزال هذا التعليم في العالم الإسلامي غاية في السطحية والتخلف وتوارُث المناهج، والتضييق على حرية البحث ومنع التجديد – بسبب الإرث العثماني-، مقارنةً بالجامعات المتخصِّصة بالدراسات اليهودية والمسيحية”.

كما حمَّل الباحث والمؤرخ الجزائري عمار هلال – في كتابه “أبحاث ودراسات في تاريخ الجزائر المعاصر” – العثمانيين مسؤولية إصابة العالم العربي الإسلامي بالضعف الثقافي والحضاري، معتبرًا القرن العاشر الهجري أكثر مرحلة من مراحل التقهقر، الذي مسَّ جميع النواحي، وفي مقدمتها العلوم وأصحابها التي استمرت طيلة عصر الاحتلال العثماني.

أما محمد كرد علي في كتابه “الإسلام والحضارة العربية” فيقول: “من أدهش ما يُدَوَّن في عهد الترك العثمانيين أن أحد وزراء المعارف المتأخرين كان يضع مناصب التدريس في المدارس الثانوية في المزاد، ويتولى المنصب المدرسي الذي يقبل بأدنى سعر ممكن، مهما بلغ من جهله في المادة التي أخذ على نفسه تدريسها بهذا الراتب الضئيل، وحدث أنهم وسَّدوا دروس الدين إلى غير المسلمين في المدارس الثانوية، وكان من العادة في المدارس الوسطى بالولايات العربية أن يُعهد إلى أبناء العرب الذين لا يُحسِنون التكلم والكتابة بالتركية بتدريس الآداب التركية، وإلى الأتراك الذين لا يُجِيدون تأليف جملة واحدة بالعربية أن يدرسوا الصرف والنحو والمنطق والبيان العربي، أما المدارس الابتدائية فمُعَلِّموها خرجوا على الأكثر من غمار الجهلاء، وليس غير بعض المدارس العالية في العاصمة كالمدارس الملكية والحربية والطب والهندسة في أواخر أيام الدولة، يتولى التدريس فيها علماء أجلاء من الترك والعرب والأرمن والروم والفرنسيين والألمان وغيرهم”.

النشاط العلمي الديني:

لقد أصاب العلوم العقلية تدهور كبير، وانتهت تمامًا في بعض المناطق العربية، في تراجع محسوس عن العهود الإسلامية السابقة، أما العلوم الدينية وبالرغم من احتلال العثمانيين للحرمين الشريفين، ومراكز دينية أخرى كالأزهر والقيروان، والجامع الأموي في دمشق، إلا أن ذلك لم يسهم في ازدهار حركة ثقافية وعلمية في الوطن العربي، بل استُخدِمت كمنصات عثمانية فقط لتشريع الاحتلال، دون أن يُسمح لها أن تتحول لمنارات علمية وثقافية كما كان الحال في العصرين الأموي والعباسي.

  1. بثينة الجنابي، “نظم الحكم والإدارة العثمانية في الوطن العربي”، مجلة كلية التربية الأساسية، مجلة 17، ع71 (2011).

 

  1. عمار هلال، أبحاث ودراسات في تاريخ الجزائر المعاصر، ط2 (الجزائر: ديوان المطبوعات العربية، 2017).

 

  1. محمد كرد علي، الإسلام والحضارة العربية (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2017).

 

  1. محمد بوسلامة، “المشرق العربي تحت الحكم العثماني”، مجلة الخلدونية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، الجزائر، المجلد 9، ع2 (2016).

 

  1. خليل حيدر، “فساد التعليم العثماني”، منشور في صحيفة الأيام البحرينية على الرابط: https://2u.pw/IgAWarn