في معركة ذي قار

رفض العرب التبعيَّة ومزَّقوا خارطة حلم الجغرافيا الفارسية

إن دراسة تاريخ الفرس، أو أي ظاهرة ممتدةً في التاريخ مستمرةً في الحاضر، تبقى مدخلاً أساسيًّا لفهم البنية العِرقية الاستعلائية للفرس تجاه العرب، ومقدمة لا محيد عنها، لتفكيك عقيدة الحقد والكراهية التي ترسخت في اللاشعور الجماعي لحكام الفرس الإيرانيين.

وفي هذا السياق، يبقى من مساوئ الجغرافيا أن وضعت العرب إلى جانب كيان سياسيٍّ عِرقيٍّ يبتعد عن فلسفة الدولة وروحها ليتبنى عقيدة استعلائية توسعية مليئة بمشاعر الحقد والاستعباد والقتل والإرهاب، وإذا كانت المواجهات بين العرب والفرس سجالاً بين الطرفين، فإن العرب رسموا لوحات مشرقة من مقاومة المد والحقد الفارسيين، لتشكل معركة ذي قار إحدى هذه اللوحات التي أضحت جزءًا من تاريخ العرب والفرس على السواء.

المؤرخون لم يقطعوا القول في أسباب معركة ذي قار، وإن كان هناك اتفاق على نهاياتها ومآلاتها. وإذا كان البعض يرى بأن السبب المباشر للمعركة، هو أن كسرى أبرويز طلب على يد رسوله زيد بن عدي من ملك الحيرة النعمان بن المنذر، إرسال بعض حرائر فتياته، فامتنع عن تلبية رغبته، فإننا نعتقد بأن الأمر يتجاوز الاقتتال للحصول على فتاة أو غنيمة إلى محاولة إخضاع القبائل العربية التي تنحو إلى الاستقلال بقراراتها عن الفرس.

في هذا الصدد، يمكن رصد بعض مظاهر الصدام بين النعمان وكسرى، جسدتها مجموعة من المواقف، وهنا نشير إلى أن كسرى سبق له أن نقم على النعمان ملك الحيرة مُتَّهِمًا إياه برفضه مصاحبته إلى بلاد الروم حين كان هاربًا خوفا من بهرام جوبين.

إن هذا الطرح تقوّيه رواية إحدى المستشرقات الروسيات، التي تناولت محاولات استقلال النعمان بقراره السياسي عن كسرى، فتقول: “ولقد كشف ملك الحيرة هذا عن استقلاله في علاقاته مع ملك الفرس، ففي أيام محنة خسرو حين فر من بهرام (فرهران) فإن النعمان لم يمد له يد العون ولم يذهب معه. كذلك يقال إن النعمان رفض أن يهب خسروا جوادًا عربيًّا كريمًا كان قد طلبه منه”.

ولعل هذه المقدمات التي تفسر عداء كسرى للنعمان بن المنذر قد أُسْقِطَت من حسابات المؤرخين، في مقابل التركيز على أحد الأسباب التي تراكمت لاندلاع معركة ذي قار، المتمثل في رغبة كسرى في إحدى فتيات النعمان وجواريه، على اعتبار أن جمالهن يتطابق مع ما قرأه كسرى في إحدى الوثائق، حسب مكيدة زيد بن عدي الذي أراد الانتقام من النعمان قاتل أبيه.

وتتقاطع الروايات على رفض النعمان طلب كسرى حيث رد عليه قائلا: “أما في مها السواد وعين فارس ما يكفي به الملك حاجته؟”، وأمام هذا الرفض أمر كسرى النعمان بالمثول إليه، وهو ما استجاب له النعمان بعد محاولات عديدة للاستقواء بالقبائل العربية قبل أن يمتثل لأمر حاكم فارس بنصيحة من كبير قبيلة بني شيبان هانئ بن مسعود.

إن إصرار كسرى على إخضاع القبائل العربية، رغم تخلصه من النعمان، يقطع بأن مقدمات الصراع بينه وبين ابن المنذر لم تكن إلا أسبابًا مزيفة لتحقيق الهدف السياسي المتمثل في غزو العرب، ويبدو أن ملك الفرس قد استشار في مسألة غزو قبيلة بكر بن وائل، فأشار عليه أحدهم بانتظار فصل القيظ (الصيف) حيث يعاني العرب من قلة الماء، ويتجهون عادة إلى موضع ذي قار، ويبدو أن كسرى اقتنع بالاقتراح ورتب حيثيات تنفيذه.

ودون التفصيل في حيثيات المعركة التي حبلت بها بطون كتب التاريخ، فإن نخوة العرب ورفضهم الخضوع لحكم الفرس، ومعرفتهم العميقة بعقيدتهم العرقية دفعتهم إلى اختيار القتال ولا أن يقبلوا شروط رسل ملك الفرس المذلة.

لقد استطاع العرب، بفضل وحدة الصف وأصالة العرق وتوبة العرب الذين كانوا في صفوف جيش الفرس، ثم نجاحهم في ضرب مركز ثقل العدو ممثلاً في رؤوس جيشه في مواجهات فردية، منتصرين في هذه المعركة الفاصلة.

بعد معركة ذي قار أدرك العرب قوتهم الحقيقية حين اتحدوا في وجه الأطماع العرقيَّة الفارسية.

  1. حسن الجاف، تاريخ إيران السياسي (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2008م).

 

  1. رئيف خوري، مع العرب في التاريخ والأسطورة (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2019).

 

  1. السيد عبد العزيز سالم، تاريخ العرب في عصر الجاهلية (بيروت: دار النهضة العربية للطباعة والنشر، د.ت).

 

  1. محمد الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (القاهرة: مطابع دار المعارف، 1968).

 

  1. نينا فكتور، العرب على حدود بيزنطة وإيران (موسكو: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب 1964).