في الملف الكردي

"أربكان" حاول تكرار التجربة العثمانية على الطريقة الجمهورية

تعتبر المشكلة الكردية من المشكلات المزمنة في تاريخ الجمهورية التركية منذ قيامها حتى اليوم، وجذورها ممتدة منذ عصر الدولة العثمانية، لذا يشير الكاتب عريب الزنتاوي إلى هذا الأمر قائلاً: “الأكراد والأصوليون في تركيا الحديثة من أهم المشاكل، لا حلول أمنية، وحدها المعالجة السياسية الديمقراطية، وإلا ستظل تركيا دولة ديمقراطية ناقصة، علمانية مشوهة”.

بدأت المشكلة الكردية على وجه الخصوص في زمن مصطفى كمال أتاتورك ومحاولته جعل “الكل في واحد”، ويتجلى ذلك في نفي الهوية الإثنية عن الكرد، وشيوع مقولة أتراك الجبل على الأكراد، هذه المقولة التي رفضها الأكراد جميعًا، لأنها تتنافى مع تاريخهم.

كانت وجهة نظر كمال أتاتورك في المواطنة التركية أنها تقوم على عنصرين: التركي والكردي، ولكن الممارسة الفعلية أدت إلى محاولة تتريك المجتمع، تحت زعم وحدته التي لم تحترم التعددية الثقافية والإثنية، لا سيما مع استبعاد اللغة الكردية عن الفضاء العام، فضلاً عن تحريم الاحتفالات الكردية التقليدية القديمة وعلى رأسها عيد النيروز، أي عيد الربيع، وهو من المظاهر القومية لدى الأكراد.

روج العثمانيون قبل الجمهوريين الرابطة الإسلامية لخديعة الشعب الكردي وتحقيق أهدافه. وهو ما دفع الأكراد إلى الحرب تحت لواء الدولة العثمانية في مواجهة الدولة الصفوية في إيران، لذلك لم يكن متوقعًا أن تركيا العلمانية ستتعامل مع المسألة الكردية من خلال قيَمِ المواطنة بين الأقلية الكردية والأغلبية التركية، وهو ما أدى إلى حدوث عمليات تذَمُّر ومواجهات في الأقاليم الكردية في تركيا، بل الأكثر من ذلك حدوث مواجهات مسلحة بين القوات التركية وحزب العمال الكردستاني، الذي تصنفه تركيا بأنه منظمة إرهابية مسؤولة عن مقتل مئات الأتراك.

ومع صعود الإسلام الحركي السياسي في تركيا على يد نجم الدين أربكان، راج لدى البعض إمكانية حل المشكلة الكردية، بالرجوع إلى الرابطة الإسلامية التي روجها العثمانيون قبل ذلك خلال قرون. لكن الجيش التركي لم يَرُق له إحياء السياسة القديمة، لذا ضحى بأربكان وسجنه. وبعيدًا عن النهاية الدرامية لأربكان، فإن الأخير لم يقدم مشروعًا حقيقيًّا لمعالجة المشكلة الكردية، بل لم يخرج خطابه السياسي عن مجمل الخطابات التركية الإعلامية السابقة، وعن الخطط العثمانية القديمة في محاولة تدجين الكُرد.

الإسلام الحركي في تركيا أراد حل المشكلة الكردية من دون تقديم مشروعات تحترم القومية الموازية.

إحدى المقالات الصحافية كشفت عن خطاب أربكان بأنه في البداية كان رافضًا فكرة قيام دولة كردية في المنطقة، حتى لو كانت هذه الدولة تقع خارج الحدود السياسية لتركيا، خاصةً في العراق، لأن قيام دولة كردية في المنطقة، فضلاً عن أنه سيثير النزعات الانفصالية لدى كتلة كبيرة من الأكراد في تركيا، فإنه سيعرض المفهوم الدستوري التركي إلى الجدل، هذا المفهوم الذي يرى أن الجميع أتراك، وأن الأكراد هم أتراك الجبل، ومن ثَمَّ سيضرب مشروع “الدولة الكردية” ليس فقط المواطنة التركية، بل ربما كيان الدولة التركية نفسه في مقتل.

وعطفًا على نظرية المؤامرة يرى أربكان أن هناك مؤامرة أمريكية بدأت مع حرب الخليج، ومع ضرب صدام حسين، وهو ضرب القوة العسكرية للعراق، للسماح بقيام دولة كردية في كردستان العراق. ويستشهد أربكان بحديث قائد عسكري أمريكي يرى أن سقوط صدام أمر حتمي، ولا بُد أن يعقبه قيام دولة كردية لملء الفراغ الذي سيحدث في المنطقة، ويقترح هذا القائد الأمريكي- وفقًا لأربكان- أنه لا بُد من توسيع رقعة الدولة الكردية الوليدة بضم بعض الأراضي الكردية الواقعة في تركيا. ويرسم هذا القائد الأمريكي سيناريو لمستقبل هذه الدولة الكردية بأنها ستواجه برفض شديد، وربما تدخُل عسكري من جانب تركيا وسوريا وحتى إيران، نظرًا لوجود أقليات كردية في هذه البلاد، مما يشكل خطرًا على تماسكها السياسي. لكن القائد الأمريكي يرى أن النصر سيكون في النهاية حليفًا للدولة الكردية، إذا أُمِدَّت بالتسليح اللازم والكافي لبقائها على قيد الحياة، وفرض إرادتها في المنطقة. هكذا لا يخرج خطاب أربكان عن مجمل الخطابات التركية السابقة في تبني نظرية المؤامرة، وعدم القدرة على القفز إلى الأمام وتقديم حلول جديدة للمشكلة الكردية.

ومع ذلك يشير البعض إلى محاولة قام بها أربكان عام (1997)، عبر رسائل غير مباشرة، للقيام بمحاولة سلام مع حزب العمال الكردستاني، ومحاولة القيام باختراق لهذه المشكلة المزمنة في تاريخ الجمهورية التركية، لكن هذه المحاولة باءت بالفشل، ويرى البعض أن العناصر التركية القومية، بالإضافة إلى جنرالات الجيش التركي حالت دون نجاح هذه المحاولة. لكن هذه المحاولة فاشلة في أجندة المروجين لها؛ لأنهم يعون جيدًا موقف التيارات القومية التركية المعارض لذلك، وعلى رأسها الجيش التركي، لذلك فإن هذه المحاولة لم تستطع أن تقفز إلى الأمام وتقدم حلولاً جديدة للمشكلة الكردية، لا سيما أننا نسمع من جديد عن جولات مفاوضات سرية وغير مباشرة، تمت في أوسلو عاصمة النرويج، بين عناصر تركية وعناصر كردية، استمرت من عام (2008) إلى عام (2011). لكن هذه المحاولات باءت كسابقتها بالفشل رغم أن الإسلاميين الأتراك هم من قاموا بها. ويرجع الأتراك فشل هذه المحادثات إلى إندلاع الثورة السورية في عام (2011)، وتغير الأوضاع في المنطقة، وتحركات الأكراد في سوريا.

على الجانب الكردي كانت هناك محاولات لإيجاد صيغة للسلام مع تركيا، لعل أشهرها مبادرة زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان الذي تتهمه تركيا بقيادة منظمة إرهابية، والذي اعتقلته السلطات التركية، وحكمت عليه أولاً بالإعدام، ثم خُفِّف الحكم إلى المؤبد. قدم أوجلان من محبسه مبادرة وقف العنف بين حزب العمال الكردستاني والسلطات التركية، على أساس إعادة تعريف المواطنة في الدستور التركي، وتطبيق نظام المحليات بصلاحيات واسعة وفقًا لنظم الاتحاد الأوربي. وطرح أوجلان هذه المبادرة بمناسبة عيد النيروز في 21 مارس (2013)، لكن تطورات الصراع في سوريا، وموقف كردستان العراق، ورغبة الجيش التركي في تأمين حدوده، لم تؤد إلى نتائج ملموسة من هذه المبادرة.

يقدم كريستوفر هيوستن في كتابه “الإسلام والأكراد ودولة الأمة الكردية” تحليلاً مهمًا للمسألة الكردية ومكانها في التاريخ والسياسة التركية؛ إذ يبدأ هيوستن كتابه بمقولة صادمة: “إن الأغلبية الكردية في جنوب شرق تركيا تعيش في حالة ثورة مستمرة منذ إعلان الجمهورية في تركيا”.

ويشير هيوستن أيضًا إلى أمر آخر شديد الأهمية بالنسبة للسياسة الخارجية التركية، وهو تأثير المشكلة الكردية على علاقات تركيا بدول الجوار وفي مقدمتها العراق. ويرصد أيضًا تداعيات المشكلة الكردية على علاقات تركيا بأمريكا والاتحاد الأوربي.

ويلاحظ هيوستن أثر الوضع الأمني المتردي في الأقاليم الكردية على الحالة الاقتصادية في أوساط الأكراد، وعدم جدوى المشروعات التنموية التي تقوم بها الحكومة التركية نتيجة حالة عدم الاستقرار في هذه المناطق، ويرصد هجرة الكثير من الشباب الكردي من موطنهم بحثًا عن مستقبل اقتصادي أفضل.

وفي النهاية يوضح المؤلف معضلة المشكلة الكردية بين موقف الحكومة التركية التي تسعى إلى الحفاظ على أكبر قدر ممكن من التجانس بين الشرائح المجتمعية الإثنية، وموقف الجيش التركي الذي ينظر إلى المشكلة الكردية على أنها مجرد مشكلة أمنية من زاوية مكافحة الإرهاب، وموقف المجتمع المدني التركي الذي يرى في المشكلة الكردية تحديًا كبيرًا يستدعي مواجهة المسائل المتعلقة باختلاف اللغة والثقافة وكيفية تأمين حد من التجانس الاجتماعي مع صيانة الحد الأدنى من حق الاختلاف.

الأكراد في تركيا مشكلة أمنية أم اختلاف مجتمعي ثقافي وإثني متعدد؟

  1. عريب الزنتاوي، الأكراد والأصوليون في تركيا الحديثة، مركز القدس للدراسات السياسية.

 

  1. خطاب نجم الدين أربكان، خطط غربية لإنشاء دولة كردية في المنطقة، YouTube.

 

  1. وكالة الأنباء الكويتية، مبادرة أوجلان بوقف العنف، 21/3/2013.

 

  1. عرض كتاب “الإسلام والأكراد ودولة الأمة الكردية”، مجلة البيان، 31 سبتمبر 2001.