باسم القانون " فاتح قانون نامه سي"

استباحة العثمانيين لدماء الأبرياء وقتل الأطفال

“إن تيسرت السلطنة لأحد من أبنائي، فإنه ومن أجل المصلحة العامة يصح له قتل إخوته، إن هذا قانون آبائي وأجدادي، وهو كذلك قانوني، ولقد جوز أكثر العلماء ذلك، فليعمل بموجبه حالًا”. بهذا النص يفتح السلطان محمد الثاني المشهور بالفاتح باب شر لم يغلق إلا بعد انهيار السلطنة العثمانية، حينها فقط جفت الدماء البريئة التي انسكبت حوالي 500 عام تحت شريعة السلطان محمد الفاتح.

النص السابق والابيات الشعرية التالية تكشف لنا عن شخصية السلطان محمد الثاني أو ما يمسى بمحمد الفاتح، المضطربة التي تظهر مالا تبطن، والذي ليس لديه حدود في مشاعره ولا توجهاته، فهو قاتل يضع القانون ليستبيح دماء الأطفال ودماء من يعارضه، وهو هائم عاشق يصل لدرجة أن يقول أن الملائكة تسجد لأثار أقدام جارية يحبها ويهيم بها.

وهذه الابيات نكشف لنا أيضا عن تماديه الغريب:

(يا ساقي الكأس أدر الراح قبل أن تذبل الخزامى

قبل حلول الخريف وانقضاء الربيع وزوال نضرة البستان

لا تمنعي الوصال أيتها الغانية المفتونة بحسنك وجمالك

فالزينة والحسن يومًا زائلان

إن سيف دلالك قد نفذ بين ضلوعي ….. وإن سلاح تعذيبك قد قطع صدري

ولو رأت الملائكة آثار قدميك …. لسجدوا فيها كأنها كعبة المحراب).

لم تكن شخصية محمد الفاتح عادية بلا شك، ولم يترك شيئا للصدف ولتثبيت حكمه بحث عن إلباس رغباته بالقانون ولذلك اقتبس محمد الثاني 75 تشريعا من القانون البيزنطي أطلق عليها “فاتح قانون نامه سى”، نبذ فيها أحكام الشريعة الإسلامية واستبدلها بقوانين وضعية مسيحية، ولأسلمتها كما يقال، أجبر الفقهاء تحت السيف على مباركتها والتصريح أمام عامة الشعب بأنها توافق إجماع المذاهب الأربعة.

ولعل أسوأ ما في هذا القانون كان استباحة الدماء البريئة، ويجب أن لا يذهب أحد إلى ان الفاتح قتل فقط المنافسين المباشرين من أنداده من الأمراء بل ذهب إلى الرضع الذين لا يمكن تحميلهم وزر أفكاره وتخوفاته، ولأجل ذلك سن قانون نامة، وطبقه حتى قبل إطلاقه عندما قام بقتل شقيقه الرضيع، الأمير أحمد (6 شهور)، وأصبح قتل الأطفال في الدولة العثمانية سُنة استنها محمد الثاني (الفاتح) فله إثمها وإثم من فعلها من بعده.

يقول الكاتب إياد إبراهيم القطان في مؤلفه الديمقراطية التائهة: “كما استنت الدولة العثمانية ولفترة طويلة من تاريخها قانونا دمويا عنيفا كان يسمى حمامات الدم أو ما يعرف باللغة التركية (قانون نامة ال عثمان)، واستنه السلطان محمد (الثاني) الفاتح، (1451-1481) وفيه يبيح للسلطان الجديد قتل جميع إخوته وأبنائهم وأطفالهم الذكور تأمينا لسلامة الدولة وتجنبا للمنافسة على الحكم!.

لقد جند فقهاء السلطان محمد الثاني السلطنة للترويج لتشريعاته الدموية، وكلف الفقهاء بذلك ومنهم الفقيه (دده أفندى) الذي وضع أساس تشريع “سياست نامه”، وهو ما استند فيه على فتاوى ضعيفة لتوسيع مفهوم (البغي) ليشمل أية شخصية تهدد حكم السلطان كما يتصورون، فشمل ذلك الأطفال من الأمراء وكذلك الوزراء وقادة الجيش، ومكن القانون السلطان من اعتبار كل من يرى فيه خطرا مستقبليا على عرشه مجرما باغيا، يجب قتله.

ويقول وليد فكري في كتابه الجريمة العثمانية: الوقائع الصادمة لأربعة قرون من الاحتلال: “القانون الذي وضعه – محمد الفاتح- لتسيير الدولة من بعده، كانت بداية مذبحة الإخوة الذكور، أو لنكن أكثر دقة، بداية تقنينها، فقيام سلاطين بني عثمان بقتل إخوتهم الذكور قد سبق عهد محمد الثاني (الفاتح)”.

فاتح قانون نامه سي: البوابة القانونية للفتنة والقتل.

لم يتوقف القانون عند قتل من يهددون الحكم حسب زعمهم بل أطلق يد السلطان لإعدام كل من يخالفه أو يتمرد عليه دون محاكمة، بتهمة الخيانة العظمى مهما كانت صلة قرابته أو منصبه في الدولة أو رتبته في الجيش، وأول ضحايا القانون كان الصدر الأعظم خليل باشا جاندارلي الذى خشى محمد الثاني من شعبية عائلته، التي كانت تضم صفوة سياسية مثقفة من الطراز الأول نافست إمارة عثمان، فاتهمه بالتخابر مع البلاط البيزنطى، وتولى بنفسه عملية قتله في الخيمة السلطانية.

لم يكن إقدام سلاطين بنى عثمان على قتل إخوتهم وأبنائهم أمرًا مستغربًا بل كان أقدم حتى من عهد محمد الفاتح الذى تولى الحكم عام (1451)، اذ سبقه عدد من السلاطين منهم مراد الأول الذى تولى الحكم عام (1359)، حين أعدم أصغر أبنائه الأمير ساوچى ذو ال 14 عاما.

لكن محمد الفاتح شرع تلك الجرائم واعتبرها حقا منفردا للسلطان لا ينازعه فيها أحد، لقد قام محمد الثاني بنقل السلطان إلى مرتبة الألوهية التي لها الحق في نزع حياة الإنسان دون وجه حق ودون جريمة فقط لأنه يتوقع أو يتخيل أو يتصور أن المقتول يمكن أن يشكل على حكمه خطرا ذات يوم، ولم يسلم من ذلك الأطفال والرضع غير المدركين وغير المكلفين الذين قتلوا بدم بارد بحجج واهية.

يقول “قانون نامه” في أحد نصوصه: ” يُمكِن لأي من أبنائي، الذي سيهبه الله السلطنة، أن يتخلص من إخوته لأجل مصلحة الدولة، وهو ما تقره أغلبية العلماء”.. ليبدأ تقنين قتل الإخوة لبعضهم مقابل الحكم، وأيده الفقهاء في ذلك الزمان بأن الفتنة أشد من القتل ونحن نأخذ أهون الضررين”.

  1. إياد القطان، الديمقراطية التائهة (القاهرة: دار الشروق، 1422هـ).

 

  1. محمد صفوت، السلطان محمد الفاتح: فاتح القسطنطينية (القاهرة: دار هنداوي، 2017).

 

  1. وليد فكري، الجريمة العثمانية: الوقائع الصادمة لأربعة قرون من الاحتلال (القاهرة: دار الرواق، 2020).