برأي مؤرخين: عرب وترك وأوربيون

خط شريف كلخانة العثماني سنة (1839): انقلاب تركي صريح على الإسلام

يحار المؤرخون كثيرًا في تفسير موقف الدولة العثمانية وهي في فترة قوتها منتصف القرن السادس عشر، حين منحوا الدول الأجنبية امتيازات داخل حدودهم بما فيها الأراضي العربية المحتلة من قبلهم. وبدأت هذه الخطوة مع فرنسا، وقيل في تبرير ذلك إن الدولة العثمانية لجأت إلى إبرام الامتيازات الأجنبية مع فرنسا، في محاولة لخلق عوامل تنمية وقوة لفرنسا، بفتح المجال العثماني أمامها، لكي تصبح فرنسا هي الحليف الأوروبي للدولة العثمانية. لكن هذا التبرير لا يصمد كثيرًا أمام حقيقة أن الدولة العثمانية قامت بعد ذلك بإبرام العديد من اتفاقيات الامتيازات الأجنبية مع معظم الدول الغربية، حتى مع أعتى أعدائها من هذه الدول.

في حقيقة الأمر لا ينحصر الأثر السلبي للامتيازات الأجنبية في مجموعة المزايا التجارية والقانونية التي قدمتها الدولة العثمانية للأوروبيين، ولا حتى تأثير ذلك على الاقتصاد العثماني نفسه، لكن الأخطر من ذلك كله هو انعكاس ذلك على البنية الداخلية وتماسك المجتمع في الدولة العثمانية، بما فيها الولايات العربية المُحتلَّة، ومدى تأثير ذلك على سرعة انهيار الدولة العثمانية وتفسخ المجتمعات المتعددة التي كانت تعيش تحت وطأة احتلالها.

ويعتبر ما حدث في القرن التاسع عشر هو أسوأ فصول هذه الأحداث الدرامية التي مرت بها شعوب المنطقة، لا سيما مع تحول الدولة العثمانية إلى “رجل أوروبا المريض” الذي ينتظر الجميع وفاته حتى يتم تقسيم تركته، أو في الواقع ما تبقى من ولايات.

ويُجمِع المؤرخون على خطورة الخطوة التي اتخذتها الدولة العثمانية بإصدارها ما عُرف بـ”خط شريف كلخانة” عام (1839)؛ إذ كان صدور هذه التشريعات أكبر دليل على فشل الدولة العثمانية، وإجبار الدول الأوروبية لها على فتح المجال العثماني لها. ويعترف السلطان العثماني في مقدمة خط شريف كلخانة بمدى الضعف الذي وصلت إليه دولته، وإن أرجع سبب هذا الضعف إلى أن “عدم الانقياد إلى الشرع الشريف قد أبدل تلك القوة الأولى إلى ضعف وافتقار” ويستغرب المؤرخ العراقي قيس جواد العزاوي من اعتراف السلطان العثماني في مقدمة الخط بأن سبب ضعف الدولة العثمانية هو بُعدها عن تطبيق الشريعة الإسلامية، بينما في الوقت نفسه يتخذ خطوة تُباعِد بين الدولة العثمانية والشرع الشريف: “مع أن السلطان يعترف بأن سبب ضعف الدولة راجع إلى عدم تطبيق أحكام القرآن الكريم والسُنة النبوية، غير أنه لا يعود إلى الالتزام بهذه الأحكام كي يتجاوز هذا الضعف، بل يلجأ لسن قوانين وأنظمة مستوحاة من الأنظمة الغربية”. ويؤكد العزاوي على حديثه بالاستشهاد برؤية الفقيه القانوني طارق البشري لخط شريف كلخانة وكيف أدى إلى صدام عنيف مع أحكام الشريعة، ومع علماء الدين بالضرورة: “صدرت في عام 1840م مجموعة قوانين جنائية، وأنشئت محاكم نظامية سلخت الدعاوى الجزائية من القضاء الشرعي وأنشئت محكمة تجارية مختلطة… فطبقة العلماء وقفت ضده، بل أن رجال الدين أعلنوا بأن خط كلخانة منافٍ للقرآن، فعمت الاضطرابات والفوضى في أرجاء السلطنة”.

أبعد العثمانيون المظاهر الإسلامية بشكل صريح واستبدلوها بالأوروبية بعد منتصف القرن التاسع عشر.

ولا يقتصر نقد الخطوة التي اتخذها السلطان العثماني بإصداره خط شريف كلخانة على المؤرخين العرب فحسب، بل امتد ذلك إلى المؤرخين الأتراك، وهذا ما نجده في موسوعة الدولة العثمانية تاريخ وحضارة؛ إذ تشير الموسوعة إلى بداية ما أطلقت عليه “حركة التغريب” مع صدور خط كلخانة، كما تشير إلى حالة التمزق الداخلي التي عانى منها المجتمع العثماني من جراء ذلك “حتى وإن تضمنت حركة التغريب التركية بعض التجديدات العملية والتقنية في الظاهر، فإنها كانت في الواقع تعني تصادم أحكام القيم الموجودة، مع قيم الغرب الجديدة بالنسبة للعثمانيين”.

ويؤكد المؤرخ الفرنسي بول ديمون على مدى أهمية وخطورة خط شريف كلخانة، وما لحقه من “تنظيمات” ويرى أنها كانت بمثابة “انعطافة كبرى في تاريخ الدولة العثمانية”.

ولم تقتصر حركة “التغريب” في الدولة العثمانية على مسألة “تغريب” التشريع، والصراع بين ما سُمِّيَ القوانين الوضعية “الغربية” والشريعة الإسلامية، وإنما امتد ليشمل مجال آخر من أهم مجالات صناعة الهوية، وهو مجال التعليم. وبدأ ذلك مع إنشاء وزارة “نظارة المعارف العمومية” عام (1847). وكان هذا الإجراء في حقيقة الأمر من الخطورة بمكان لأنه متغير مهم أدى إلى التحول عن نمط التعليم الإسلامي المتعارف عليه عبر قرون عديدة، والانتقال إلى تعليم مدني، قائم في الأساس وفقًا لأنساق ومفاهيم أوروبية بعيدة كل البُعد عما عاشته مجتمعات الدولة العثمانية.

وأدى هذا الأمر تلقائيًا إلى نشأة الثنائية الخطيرة والمزمنة التي ما زالت تعاني منها مجتمعاتنا حتى الآن، ألا وهي ثنائية التعليم الديني والتعليم المدني؛ إذ بدأت الدولة العثمانية بتشجيع التعليم المدني على حساب التعليم الديني، وأدى ذلك إلى تخريج أجيال من خريجي التعليم المدني مغتربين بالضرورة عن واقعهم وتاريخهم وتراثهم الديني والفكري. والأكثر خطورة من مسألة الاغتراب عن واقع المجتمع، أن الدولة العثمانية لم تدرك أن التعليم المدني هو في حقيقة الأمر بداية النهاية لها، وهذا ما يشير إليه العزاوي بدقة في أثر التعليم المدني في انهيار المنظومة التي قامت عليها الدولة العثمانية أساسًا: “لقد مهدت هذه المدارس- المدنية- وأعدت جيلاً من الطلبة المتخرجين يسعى لتحقيق دولة قومية حديثة على غرار الدول القومية الأوروبية الناشئة، وهو ما يتعارض مع طبيعة الدولة العثمانية القائمة على الترابط الديني”. وبالفعل وكما رأينا أصبح خريجي المدارس المدنية هم عماد الحركة القومية في كافة أرجاء الدولة العثمانية، مما ساهم في سرعة انهيارها.

هكذا نرى أن الآمال العريضة التي وضعتها الدولة العثمانية على حركة التغريب التي عُرفت في التاريخ العثماني بالتنظيمات لم تفلح في مساعدة الدولة على الخروج من عثرتها بل أدت دورها في سرعة انهيار الدولة، وهذا ما يؤكده حتى المؤرخون الأوروبيون “إن فترة التنظيمات لا تظهر فقط بوصفها مجرد عهد تجديد، فهي أيضًا عهد تمزقات كبرى”.

  1. ثريا فاروقي، الدولة العثمانية والعالم المحيط بها، ترجمة: حاتم الطحاوي (بيروت: دار المدى، 2008).

 

  1. قيس العزاوي، الدولة العثمانية.. قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، طـ 5 (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2003).

 

  1. أكمل الدين إحسان أوغلي وآخرون، الدولة العثمانية: تاريخ وحضارة (إسطنبول: منظمة المؤتمر الإسلامي، 1999).

 

  1. بول ديمون، فترة التنظيمات: تاريخ الدولة العثمانية، إشراف: روبير مانتران، ترجمة: بشير السباعي (القاهرة: دار الفكر للدراسات والتوزيع، 1993).