على الطريقة العثمانية

تواطؤ وغدر وخيانة تعامَلوا بها مع القوى السياسية في الجزيرة العربية

استعمر العثمانيون الأراضي العربية باسم الإسلام، واستباحوا وتغطرَسوا وتجبَّروا ثم استعلَوا واستكبَروا، حتى الحرمين الشريفين لم يُراعِ العثمانيون لهما حُرمةً ولا وقارًا ولا اعتبارًا، وفي هذا السياق نرصد لإحدى تَمظهُرات هذا الجَور، وبعض جوانب الظلم التي عاشها أهل الحجاز تحت نَير الاستعمار العثماني، من خلال طرح علاقة العثمانيين مع الشريف غالب بن مساعد؛ لما للقصة من عِبَر ولفصولها من أثر.

ودون الخوض في حيثيات المواجَهة بين العثمانيين مع الدولة السعودية الأولى، فإن ما يُهِمُّنا في هذه النازلة هي التكتيكات الخبيثة التي لجأ إليها الوالي العثماني محمد علي من أجل الإطاحة بوالي مكة المكرمة، رغم أنهما تعاهدَا داخل أقدس الأماكن وأشَدِّها حُرمةً، وهي بيت الله الحرام.

الشريف غالب جنى عواقب ثقته بالعثمانيين ولجوئه إليهم، حيث “أرسل شخصاً يُدعى الشيخ أحمد تركي إلى إسطنبول في سنة 1212هـ/ 1796م (لدعمه ضد الدولة السعودية الأولى)، إلا أن اختلال التوازن الأوروبي في هذه الفترة – بسبب ظهور نابليون بونابارت – لم يترك للدولة مجالًا للنظر في شؤون الحجاز”.

وأمام عدم اكتراث العثمانيين برسائل الشريف قام غالب بمهادنة الدولة السعودية الأولى باعتبارها القوة التي قامت بمواجهة الاحتلال التركي لبلاد العرب، ويبدو أن الشريف حاول أن يلعب على منطق التوازنات بين الطرفين، بدليل أنه أرسل إشارات إيجابية إلى محمد علي مفادها أنه سيكون سندًا له في مواجهة الدولة السعودية، في الوقت الذي كان بإمكانه أن يدخل في تحالف إستراتيجي مع الدولة السعودية، وبالتالي تجنيب المنطقة المجازر التي ارتكبتها الجيوش العثمانية في الجزيرة العربية.

بعد وصول محمد علي إلى الحجاز اعتبر الشريف غالب – حليف الأمس – مذنبًا؛ لأنه سلك مسلكاً مخالِفًا للإمارة، ولم يُظهر حمية وغيرة، إضافةً إلى طمعه، ولذا عزله”، فكانت هذه بداية النكبة ومُنطلق النكسة للشريف وعائلته. 

إن الطريقة المهينة التي عُزل بها الشريف تحتوي عبرةً ودرسًا لمن آثر مناصرة الاحتلال على الارتكان إلى مصالح بلده والتحالف مع بني جلدته، وهنا صدَّق غالب خديعة محمد علي وتقيته التي ألبَسها خدعة إظهار الإجلال وتقبيل يد الشريف، وصدَّق أيضًا أنه يساهم في وصل الرحم المقطوع بين الأب وابنه، اللذَين رسما الخطة للقبض عليه وإرساله إلى الدولة العثمانية.

في هذا الصدد أظهر محمد علي “أن بينه وبين ابنه منافرة، فتوجه ابنه أحمد إلى جدة مُظْهِرًا أنه مُغاضِب لأبيه، وأُشِيع ذلك بين الناس، ثم كتب أحمد طوسون من جدة للشريف أن يتوسط بالصلح بينه وبين والده، وأن يشفع له عنده في حصول الرضا، ففعل ذلك الشريف وقَبِل محمد علي شفاعته، فكتب الشريف لأحمد طوسون يخبره بحصول قبول شفاعته، وطلب منه الحضور إلى مكة ليجمع بينه وبين والده”.

والواضح أن الشريف غالب تعامل بسذاجة مع الشِّراك الذي نصبه له محمد علي وابنه طوسون، ليتم احتجازه من طرف هذا الأخير، ولن يقف الأمر عند هذا الحد، بل قام بمراسلة أولاده الثلاثة للالتحاق به، بعد أن صوَّر له مستشار طوسون “الشيخ أحمد تركي” أن السلطان يطلبه ليستشيره ثم يعود إلى منصبه في مكة، وبذلك قضى طوسون على أية محاولة للانتفاضة ضد خطة القبض على الشريف غالب.

نصب محمد علي فخًّا لشريف مكة، وأوهمه بالتقرب منه، ثم غدر به.

لم يقف الأمر عند التغرير بالشريف غالب واعتقاله رُفقةَ أبنائه، بل تجاوز ذلك إلى الاعتداء على داره وحَرَمه وأهله وماله، ذلك أنه “بعد تسفير الشريف غالب نهبت العساكر داره التي بجياد، وأخذوا منها أموالًا كثيرة، وأخرجوا أهله منها بصورة شنيعة”، فكانت بذلك نهاية رجل فكَّر بمنطق الكرسي قبل أن يفكر بمنطق الوطن والأمة، ليعيش آخر أيامه مغتربًا طريدًا شريدًا في مدينة سالونيك العثمانية، ويموت فيها سنة 1232هـــــ (1817)، بعد أن امتدت إمارته على مكة المكرمة زهاء 26 سنة.

إن التاريخ عِبَر، والحوادث صور تُعطِي الدروس، وتَقِي من الضرر، فهل من مُعتبِر، فيَعِي بأنه لا خير في احتلال، ولا بركة في استعمار، وإنما الوحدة الداخلية والجبهة العربية كانت وستبقى طوق النجاة من الإخضاع، والسبيل إلى الدفاع، والطريق نحو الإجماع.

  1. إسماعيل جارشلي، أشراف مكة وأمرائها في العهد العثماني (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2003).
  2. عبد الرحيم عبد الرحمن، الدولة السعودية الأولى، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1987).
  3. عبد الرحيم عبد الرحمن، من وثائق شبه الجزيرة العربية في عصر محمد علي (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 2001).
  4. عبد الله البسام، تحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق (الرياض: دارة الملك عبد العزيز، 2015).