العثمانيون

في أول احتلالهم للحرم المكي الشريف عاثوا فيه فسادًا

عندما يتم الحديث عن جرائم العثمانيين في العالم العربي وتسلُّطهم عليه واحتلاله لابد من الإشارة إلى بعض ما وقع من حوادث مريعة من العساكر العثمانيين في الحرم المكي الشريف في القرن السادس عشر الميلادي، وبالأحرى بعد عشر سنوات من احتلال العثمانيين للحجاز في عهد السلطان سليم الأول، ومن بعده من السلاطين.

في سنة 932هـ (1526م) وقع حدث مؤسف يقف أمامه المؤرخ والكاتب في حيرة من أمره، ويتساءل كثيرًا: هل يُعقَل أن تقع مثل تلك الأمور من أولئك العساكر ومرؤوسيهم، ويمارسون الظلم والأذى لسكان حرم الله الآمن؟ وقد يجرنا ذلك إلى التساؤل: ما هي الأسباب التي جعلتهم يفعلون مثل ذلك التجاوز في بلد الله الحرام؟! فهل هو الجهل بدين الله، أو بحرمة الأراضي المقدسة؟ أم هي الجِبِلَّة المريضة التي اعتادوا عليها عند دخولهم لأي بلد ومدينة من تدمير وطغيان واحتلال ما ليس لهم به حق؟ ومهما كانت تلك الأسباب فهي غير مبرّرة إطلاقًا على ذلك الفعل، فالشواهد التاريخية كثيرة في المؤلفات والكتب عن تصرفاتهم وسلوكياتهم في معظم البلدان التي وَطِئَتْها أقدامهم ووقعت تحت تسلُّطهم وحكمهم جبرًا وبالقوة.

لذا لا يُكتَفى بأخذ التاريخ فقط من الأراشيف التركية ومن وثائقه فقط لنقل صور الحدث التاريخي، وإهمال ما يذكره المؤرخون المحليون والمعاصرون، الذين يعتبرون شاهدين على العصر عبر ما ينقلونه من وجهة النظر الواقعية، وليست وجهة النظر الرسمية، فالحقيقة مؤلِمة مظلمة، وعادةً لا يراد لها أن ترى النور وتظهر في العلن.

ولعل هذه الحادثة التي سنتطرق إليها هنا قد حالفها الحظ حين تم تدوينها من مؤرخين معاصرين للحدث، بل وشاهد عيان نقل لنا تفاصيل تلك الانتهاكات، والظلم الذي وقع في الحرم المكي، وعانى منه سكان مكة المكرمة.

فقد أرسل والي مصر العثماني والوزير الأعظم فيها إبراهيم باشا، وهو مملوك السلطان سليمان القانوني، جيشًا يقدَّر عدده بأربعة آلاف عسكري نظامي إلى جهة اليمن سنة 932ه(1526م)، بقيادة سلمان الريس لأخذها، ومددًا لمن سبقهم من العساكر، فوصلوا إلى ميناء جدة في شهر رمضان من تلك السنة، وصار العسكر بدايةً يتعرضون للقبائل العربية بين جدة ومكة المكرمة بالسرقة والنهب، فانقطعت بسبب ذلك الطرق والسبل، ومُنِعت عن مكة المكرمة المؤن والأرزاق، وحصل بسبب ذلك غلاء وصفه المؤرخ المكي علي بن تاج الدين السنجاري بقوله: “وصار العسكر يتعرضون للعرب بالنهب، فانقطعت المِيرة عن مكة بسبب ذلك، وحصل بها غلاء”.

ويذكر لنا مؤرخ مكة وشاهد العيان المعاصر للحدث نفسه جار الله ابن فهد الذي دوَّن بداية حديثه عن ذلك الحدث التاريخي بقوله: “وتوالى في هذا الشهر حوادث مؤلمة، وللقلوب مظلمة، فالله يُحِيلها عن المسلمين.. وفيها وصول عسكر الأروام إلى بندر جدة من البحر..”، ويُفهم من كلامه أن الصورة كانت قاتمة السواد من سوء ما وقع.

ويسرد لنا ابن فهد مشاهداته بالقول: “وفي يوم الأحد ثالث عشر الشهر (رمضان) ـ وصل بعض عسكر الأروام لمكة بأمر نائب جدة العلائي علي الشاووش الرومي.. فتشوَّش لذلك صاحب مكة الشريف أبو نمي وجميع أهلها خصوصًا، وقد عملوا بمكة أعمالًا شنيعة من هجوم على بيوت الناس، وإخراجهم منها مع حريمهم، ووضع أيديهم على امتعتهم وإتلافها، وسكنهم فيها عِوَضَهم، فيستغيث الناس فلا يجدون من يغيثهم إلا الله تعالى، وكثر ضررهم بذلك، وصار يدعو عليهم كل قاطن وسالك.. ثم إنهم تمادَوا بالأذى، وتجاهَروا بالفسق في النساء، وأخذ المأكولات من السوق بثمن بخس، وبعضهم لا يعطي شيئًا”.

وصل بعض عساكر العثمانيين لمكة، وعملوا أعمالًا شنيعة، من الهجوم على بيوت الناس وإخراجهم منها مع حريمهم، ووضع أيديهم على أمتعتهم وإتلافها، وسكنهم فيها.

ويبدو أن الشريف أبو نمي الذي تولى شرافة مكة المكرمة فيما بين عام 931ه/ 1525م- 947ه/1541م، قد انزعج منهم، وخرج إلى وادي الجموم، خوفًا من حصول فتنة بين الأروام وعسكره، حتى قال الشريف: “لا أدخل مكة ما دام العسكر المجهَّز مع سلمان القبطان فيها”.

وقد أثبت ذلك الأمر وأكَّده المؤرخ السنجاري بقوله: “ثم وصلت طائفة من العسكر إلى مكة، وأخرجوا الناس من بيوتهم، وسكنوها، وكثر آذاهم”، ويقول أيضًا: “ولما كثر العسكر المذكور بمكة نصبوا بيارقهم في المسجد الشريف من باب السلام إلى باب علي، ولم يَسْلَم من آذاهم أحد، فقد هاجموا بيوت التجار وبعض بيوت الناس الكبار، وأخرجوا أهلها، خصوصًا الحُرم، وانتهكوا حرمة الحرم، وتضرر منهم الخاص والعام”.

والواقع أن وصولهم إلى مكة كان نكبة على أهلها، ويصف لنا المؤرخ المكي ابن فهد المعاصر للحدث حال أهل مكة بقوله: “وصلى الناس العيد في المسجد وهم خائفون، ومن الأروام (الترك) وَجِلُون، خصوصًا لعبثهم وانتهاك عِرضهم، ولم يطلع أحد منهم المعلاة للتفرج على العادة”.

ولا يمكننا التبرير لمثل تلك التصرفات من أولئك العساكر العثمانية، ولا يمكن إحسان الظن فيما فعلوه في حرم الله الآمن، إلا لمن قد أُشرِب قلبه بحب الأتراك، وأصبح لا يرى منهم إلا كل حسن، ولا يرى قُبحَهم مهما كان مثل شمس النهار.

  1. جار الله ابن فهد، كتاب نيل المنى بذيل بلوغ القرى لتكملة إتحاف الورى، تحقيق: محمد الحبيب الهيلة ( بيروت: دار الغرب الإسلامي، 2000).

 

  1. عبد القادر الجزيري، الدرر الفرائد المنظمة في أخبار الحج وطريق مكة المعظمة، تحقيق: محمد حسن إسماعيل (بيروت: دار الكتب العلمية، 2002).

 

  1. عبد الملك العصامي، سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي (القاهرة: المطبعة السلفية، د.ت).

 

  1. علي السنجاري، منائح الكرم في أخبار مكة والبيت وولاة الحرم، دراسة وتحقيق: ماجدة فيصل زكريا (مكة المكرمة: مركز إحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى، 1998).