إيران تغلغلت بالقوة الناعمة في بعض الدول العربية

بنظرة تاريخية فاحصة ومُوغِلة في القِدَم يدرك القارئ أن بداية التواصل بين اليمن وبلاد فارس كان منذ الاحتلال الحبشي الأول لليمن سنة (335م)، والثاني سنة (525م)، إذ إنه كان أحد اتصال الفرس باليمن، حين كان الاتصال السياسي بين اليمن وبلاد فارس من خلال استنجاد الملك اليمني (سيف بن ذي يزن الحميري) بإمبراطور فارس لطرد الأحباش من بلاده، وزاد التواصل بعد ظهور الإسلام؛ إذ ألغت عقيدة الإسلام المسافات والحدود، وولدت الاحتكاك، والتبادل والتعاون بين الجانبين (آنذاك).

وأما في العصر الحديث فالعامل التاريخي أحد عوامل صياغة السياسة الخارجية، ورسم السلوك السياسي لبلد ما تجاه بلد آخر أو منطقة جوار معينة، أما في الحالة الإيرانية الفارسية فليس من المبالغة القول بأن التاريخ هو صاحب الأثر الأقوى، إن لم يكن هو المسؤول الوحيد عن طبيعة السلوك الإيراني تجاه دول جوارها العربي بشكل خاص، وبقية الدول العربية بشكل عام، فمن الواضح اليوم أن الذاكرة التاريخية لصناع القرار والسياسيين الإيرانيين هي وراء السلوك الإيراني الساعي للسيطرة على المنطقة العربية، وهي سبب رفضهم تقبُّل واقع أن الجار العربي مكافئ لهم في المنطقة، فما زال الشعور بالأفضلية يتملَّك الساسة الإيرانيين، ويجعلهم يبذلون قصارى جهدهم لتصدير ثورتهم إلى دول المنطقة، فبعد نجاح الثورة الإيرانية سنة (1979م)، وقيام الخميني بتشكيل نظام الجمهورية في إيران على مبدأ “الولي الفقيه”؛ رأى بعض قادة الثورة وعلى رأسهم الولي الفقيه بأن النموذج الإيراني ممكن أن يطبَّق بنجاح في كل المنطقة، وأن مسؤولية نقل هذه الثورة إلى بقية دول المنطقة تقع على عاتق إيران، وهو ما عُرِف بمبدأ “تصدير الثورة”. والتي كان نتيجة لذلك التصريح العلني عن العمل بمبدأ تصدير الثورة، وما ترافَق معه من أعمال شغب في دول المنطقة، ودخول إيران والعراق في حرب ضروس استمرت ثماني سنوات، أنهكت كلا البلدين، ذاقت بعدها إيران مرارة عزلة خانقة، بعدها أدرك القادة الإيرانيون أن مبدأ تصدير الثورة بالشكل العلني يعود بالمشاكل على إيران، لذلك تخلَّت إيران عن المبدأ العلني لتتمكن من فتح صفحة جديدة في علاقاتها مع دول الجوار، إلا أنها استبدلت به القوة الناعمة، فمن الصعب أن تتخلى إيران عن رغبتها في أن تكون قوة إقليمية ولاعبًا أساسيًّا في المنطقة، والقوة الناعمة هنا هو إيجاد أيادٍ خفية لها في البلدان العربية، ومن خلالهم تصدِّر أفكار ثورتها البائسة.

 والحقيقة منذ قيام جمهورية الولي الفقيه والعلاقة بين اليمن وإيران تمر بمنعطفات وتحولات، فتارةً تصل إلى حد التأزم، وتارة يلوح بصيص أمل في التحسن والتطور، بسبب التدخلات المباشرة في الشؤون الداخلية لليمن، من خلال علاقاتها بالحركة الحوثية في شمال اليمن في محافظة صعدة، ودعمها اللوجستي لها، والحراك الانفصالي المسلح في جنوب اليمن، وهي ذات أبعاد إستراتيجية لنمط تلك العلاقات، مما كان لتلك العلاقات انعكاسات على الأمن القومي اليمني، وأمن منطقة الخليج العربي.

‎وقد شهدت التوجهات الإيرانية في الألفية الثالثة من القرن الواحد والعشرين تحركات واسعة النطاق في دوائر خارجية مختلفة، في إطار تصور إيران لدورها الإقليمي، أو دورها العابر للأقاليم في بعض الأحيان، وارتبطت تلك التحركات بتدخلات مباشرة في الشؤون الداخلية لبعض دول المنطقة العربية، ومن ضمنها اليمن على نحو يتجاوز ما هو مفهوم عادةً بالنسبة لخدمة المصالح القومية الإيرانية، حيث هناك أهداف لإيران أساسية ثابتة بعيدة المدى، وهناك أهداف مرحلية مرتبطة بالتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية.

وعلى رأس الأهداف الأساسية فرض الهيمنة الفارسية على المنطقة العربية، وخصوصًا اليمن ودول الخليج العربي، وتتمثل صورة الهيمنة بصورة دينية طائفية، عبر النشر الموالي لإيران، ودعم الجماعات التابعة له في المنطقة، وإثارة النعرات المذهبية والاضطرابات السياسية في تلك الدول، ولا شيء أفضل من الغطاء الديني يعطي إيران فرصة لتحقيق رغبتها، عن طريق قيادة جماعات بشرية خارج حدودها تهدِّد الاستقرار، وتكون ورقة ضغط ناجحة بيدها تستخدمها متى تشاء، لذلك حافظت إيران على علاقتها بالطوائف القريبة منها في مختلف دول المنطقة، وواحدة من هذه الطوائف الزيدية في اليمن، وبالفعل استطاعت إيران من خلالهم تأسيس نفوذ لها في اليمن، باستخدام القوة الناعمة التي تمثَّلَت بالنشاط التبشيري على طريقة الملالي في اليمن منذ الثمانينيات، ومن خلال استقطاب طلاب يمنيين للدراسة في الجامعات والحوزات في إيران ودمشق وبيروت منذ فترة الثمانينيات والتسعينيات الميلادية، إلا أنه يمكن القول: إن التحرك الإيراني في اليمن نشط كثيرًا في التسعينيات بحكم الانفتاح الذي ترافق مع قيام الوحدة اليمنية في مايو /أيار (1990)، والسماح بالتعددية السياسية وتشكيل الأحزاب، وعدم وجود رقابة على دخول الكتب والمراجع التي تحمل فكر الولي الفقيه، وقد تبنَّت إيران حسين الحوثي مؤسس الحركة الحوثية، أو ما بات يعرف اليوم بـ “أنصار الله”، ولتكون تلك الحركة الذراع الإيراني الفارسي في اليمن والمدمر لمقدراته ومكتسباته.

بعد عام (1990) ازداد النشاط الإيراني في اليمن وضوحًا ودعمًا.

  1. جهاد أحمد، العلاقات اليمنية الإيرانية وأثرها في أمن الخليج العربي، مستقبل الشرق للدراسات والبحوث، 7 فبراير (2014).

 

  1. حازم الجنابي، “الإستراتيجية الإيرانية تجاه الدول العربية”، مجلة المنارة (أكاديميا العربية)، مج18، ع2 (2012).

 

  1. دينا عبده، الاتجاهات العامة للمصالح الإقليمية لإيران في المنطقة العربية، دراسة مقارنة سوريا واليمن 2011- 2016، المركز الديمقراطي العربي.

 

  1. رضوان السيد، العرب والإيرانيون والعلاقات العربية- الإيرانية في الزمن الحاضر (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2014).

 

  1. سامويل راماني، الرؤية الإيرانية لمرحلة ما بعد النزاع في اليمن، مؤسسة كارنيجي، 11 ديسمبر (2019).

 

  1. وصفي محمد عقيل وآخر: “الاختراق السياسي الإيراني لدول الجوار العربي دراسة حالة.. العراق، البحرين، اليمن”، مجلة دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية، الجامعة الأردنية، عمَّان، ع45 (2018).