" إيران عقدة الإمبراطورية والتحالف مع الشيطان"

جاءت الهزيمة القاسية التي تلقَّتها سلطنة  المماليك في المعركة البحرية الشهيرة “ديو” مطلع  سنة 1509م لتدعم التفوق العسكري البرتغالي الاستعماري في المحيط الهندي، وأذرعه الممتدة في اليابسة في منطقتنا العربية، وقد شجعت تلك النتيجة نائب الملك البرتغالي في الهند “أفونسو دي ألبوكيرك” على خوض تجربة استعمارية جديدة من خلال إرساء قواعد كيان سياسي استعماري واسع جعل من مدينة “جوا” الهندية عاصمة له، بعدما أخضع كثيرًا من الممالك في الهند، ومدنًا تجارية رئيسة، مثل هرمز وملقا وغيرهما بقوة الحديد والنار، واستخدام القوة المفرطة والوحشية، كما أظهرت الوثائق البرتغالية من خلال رسائل “ألبوكيرك” حجم ومراحل المخططات البرتغالية الاستعمارية للمشرق العربي، ولتحقيق تلك المخططات نظر القائد البرتغالي إلى ضرورة خَلْق تحالف سياسي واسع النطاق ليشمل الحبشة وبلاد فارس، بهدف محاصرة جزيرة العرب من جهة، والمنطقة العربية من جهة أخرى.

ولتفعيل ذلك التحالف السياسي أرسل “ألبوكيرك” سفارةً في مايو 1515م إلى الشاه إسماعيل الصفوي، وعرض عليه التحالف معه ضد سلطنة المماليك، وتنظيم هجوم بري وبحري مشترك على أراضي المنطقة العربية، وفي ذات الوقت كان الشاه إسماعيل الصفوي بدوره يبحث عن قوة استعمارية أوروبية يتحالف معها بعدما تلقَّى هزيمة نكراء في معركة “جالديران” قبل عام من العثمانيين، فجاءت تلك الدعوة بمثابة طوق النجاة للشاه إسماعيل لتنتشله من واقعِه البائس الذي صار إليه، فكشفت لنا الوثائق البرتغالية عن ذلك التحالف القذر الذي تم بين الشاه الصفوي ونائب الملك البرتغالي الصليبي في الهند ألبوكيرك ضد منطقتنا العربية. 

وكانت خطتهما تقضي بأن يعمل الشاه الصفوي على شغل السلطان المملوكي في مصر حتى يتمكن ألبوكيرك من التوغل في البحر الأحمر، والاستيلاء على جدة، والوصول إلى السويس، وبالفعل هدد الصفوي باجتياح حلب والشام بينما ألبوكيرك متواجد بأسطوله العسكري في البحر الأحمر، مما أحدث حالة من الارتباك للسلطان المملوكي. وبعد ذلك وضع الشاه إسماعيل الصفوي خطة خبيثة للإيقاع بين المماليك والعثمانيين، وعمل على خروج السلطان الغوري من مصر لإصلاح ذات البين بينه (أي بين الشاه إسماعيل) والعثمانيين ، وعلى هذا الأساس خرج السلطان الغوري من مصر دون استعداد حقيقي للقاء، حيث ذكر المؤرخ المصري ابن زنبل أن كثيرين من عسكر الغوري لم يظنوا أنهم خرجوا لقتال، وإنما لعقد الصلح، ولكن تطورت الأمور حتى كانت المواجهة بين الطرفين، وحلَّت الهزيمة الكبرى بالمماليك في معركة مرج دابق الشهيرة سنة 1516م، فقد كانت خطة التحالف البرتغالي الصفوي تقضي باقتسام ألبوكيرك والصفوي الخليج العربي بجُزُره، على أن يستولي الشاه إسماعيل على جانِبَي الخليج العربي مقابل السماح للبرتغاليين بإقامة حصون ومراكز تجارية برتغالية على جانبَيه، وأن تصاحب قوة بحرية برتغالية حملة الصفويين على البحرين والقطيف، وعلى أن يتعاون البرتغاليون في مساعدة الشاه الصفوي في إخماد حركات التمرد في بلوشستان ومكران، واتفقَا على يتَّحِدَا  في مواجهة الدولة العثمانية.

ولعل من مظاهر التقدير الذي حظي به الشاه إسماعيل من قِبَل القائد البرتغالي ألبوكيرك أنه أرسل مبعوثه روي جوميز ( Ruy Gamez) إلى الشاه، وحمله برسالة قال فيها: “إني أقدِّر احترامك للمسيحيين في بلادك، وأعرض عليك الأسطول والجند والأسلحة لاستخدامها ضد قلاع الترك، وإذا أردت أن تنقضَّ على بلاد العرب، أو أن تهاجم مكة فستجدني بجانبك في البحر الأحمر أمام جدة أو في عدن أو في القطيف”. إضافة إلى بعض التعليمات لجوميز قال فيها: “الهدف الأول لرحلتك بصرف النظر عن الطريقة والكيفية التي يمكنك إنجازها .. هو أن تتوجه مباشرةً إلى الشاه إسماعيل، وعند وصولك إليه ستُقدِّم له التوقير والتقدير اللذين يليقان بملك عظيم جدًّا”. 

فتلك الرسالة وغيرها من الرسائل بينهما بيَّنَت لنا مدى العمالة والتواطؤ الخفي التي ربطت الصفوي بالغرب، ولا زالت إيران تسير على خطاه حتى يومنا الحاضر، فقد أظهرت إحدى الوثائق البرتغالية أن ألبوكيرك قد أرسل إلى ملوك أوروبا آنذاك يَحُثُّهم على تقديم خبراء للشاه إسماعيل الصفوي في صناعة المَدافع، كما يدعوهم ويحثهم على التعاون مع الشاه، والاعتماد عليه بصفته الحليف المهم لهم في المنطقة. 

ومن صور العلاقات الودية بين الجانبين أن الشاه إسماعيل أرسل للبوكيرك يهنئه على استيلاء الأخير على جزيرة هرمز المهمة في الخليج العربي سنة 1515م، ويطلب منه عقد الاتفاقيات وإقامة العلاقات، والتحالف والصداقة بينهما، وقدَّم الشاه له هدية ثمينة.

حقيقةً لم يكن ذلك التحالف هو الأول أو الأخير، فقد استمر الفكر الصفوي المتغلغل في عقليات مَن يحكم إيران، وإن اختلفت المسمَّيات والأشكال، واختلف الزمان، فالتحالف مع الأجنبي والمستعمر لا زال قائمًا مع تبايُن الأساليب والطرق والأهداف، فإيران لم تنفك بعدُ من عقدة الفرسنة والإمبراطورية الفارسية العظمى.