مسألة الحدود الإيرانية- العراقية
والهيمنة على المقدرات العراقية
تعتبر العلاقات الإيرانية العراقية خير مثال للسياسة الفارسية التوسُّعية والمعادية للعرب عبر العصور التاريخية المختلفة؛ إذ كان العراق غاية من غايات الفرس في العصر الحديث، مثلما كان في العصور الوسطى والقديمة، ويعبر أحد ساسة الفرس عن مشاعره في هذا الصدد فيقول: “وا أسفاه على وقوع تلك البلاد الجميلة بين أيدي ذلك الشعب -العراقي- لو أنها كانت لنا، والله سيمنحنا إياها، فيا لها من بلد ستصير فردوسًا”!!
من هنا تعرَّضت العراق دومًا للعديد من الغزوات الفارسية في التاريخ الحديث، ومنذ العصر الصفوي، ومع ضم العراق إلى الدولة العثمانية ستظهر المشكلة المزمنة في تاريخ العراق، وهي ترسيم الحدود الإيرانية- العراقية، وفي فترات الهدوء بين فارس والدولة العثمانية حاولت الأخيرة ترسيم الحدود مع إيران من خلال العديد من المعاهدات المشتركة فيما يخص العراق، لكن هذه المعاهدات في حقيقة الأمر لم تؤدِّ إلى ترسيم الحدود بدقة، بل زادت من تعقيد الأمور، وأورثت العراق تركةً ثقيلة في هذا الشأن.
ويرى عبد العزيز نوار أنه عبر معاهدتَيْ عامَيْ 1639 و1746 لم تَشَأ العقلية الإيرانية أن تُعَيِّن بدقة الحدود العراقية الإيرانية، سواءٌ في الجنوب، أو حتى في الشمال في المناطق الكردية، حيث لم يتم تحديد تبعية العشائر الكردية الشاتِيَة في إيران، أي التي ترعى في الشتاء في إيران، والصائفة في كردستان العراق، أي التي ترعى في الصيف في العراق، كما شطرت هذه المعاهدات الشعب الكردي شطرين؛ أحدهما: في إيران، والآخر في العراق، مما سيزيد من حالة عدم الاستقرار على الحدود بين إيران والعراق حتى الآن.
ويؤكد الخبير القانوني العراقي سردار عبد الله حقيقة تاريخية في شأن صراع الحدود بين إيران والعراق، وهي أن الطرف الإيراني كان دائمًا هو الأقوى، وهو الذي يفرض شروطه ويتجبر على العراق في هذا الشأن، وربما يظهر ذلك جليًّا في معاهدة 1937 في عهد الشاه رضا بهلوي، حيث تم تعديل الحدود الجنوبية في شط العرب لصالح إيران في المنطقة المقابلة لمدينة عبادان الإيرانية؛ إذ كانت إيران تسعى إلى توسيع نفوذها في هذه المنطقة الإستراتيجية؛ لإحكام سيطرتها على رأس الخليج العربي، في محاولتها الدائمة للتحكم في حركة الملاحة في الخليج، كما يرتبط ذلك ارتباطًا وثيقًا بمحاولاتها الدائمة في الجنوب للسيطرة على مضيق هرمز؛ للتحكم في الملاحة في وسط الخليج.
لكن إيران دائمًا لا تعترف بترسيم الحدود مع العراق، وتطالب بتوسيع هذه الحدود لتتواءم مع ميولها الدائمة لابتلاع العراق والسيطرة عليه؛ إذ عادت إيران في عهد الشاه محمد رضا بهلوي إلى المطالبة بتوسيع حدودها مع العراق، لا سيما في منطقة شط العرب، ومن أجل الضغط على العراق في هذا الشأن لعبت إيران بالورقة الكردية في وجه نظام البعث الحاكم في العراق في السبعينيات، ودعمت إيران المعارضةَ الكردية المسلحة ضد بغداد، وهنا وجد النظام العراقي نفسه في موقف صعب، خاصةً مع تنامي العمليات العسكرية الكردية المدعومة من إيران، وأدَّى ذلك الأمر إلى توقيع معاهدة في الجزائر بين إيران والعراق في عام 1975، تنازل فيها نظام البعث للأسف الشديد عن الكثير من الحقوق في شط العرب لصالح إيران، في مقابل تخلِّي إيران عن دعم أكراد العراق.
ومع وصول الخميني إلى الحكم في طهران في عام 1979 عادت مشكلة الحدود بين إيران والعراق إلى الواجهة من جديد، وأدَّى ذلك إلى اندلاع حرب شرسة وطويلة الأمد بين البلدين استمرت من عام 1980 إلى عام 1988، ولم تَحسِم الحرب مسألة الحدود، بل زادت من تعقيدها على الأرض؛ إذ لم تَعُد قوات البلدين إلى الحدود التي كانت بينهما قبل الحرب، وازداد الأمر سوءًا مع اكتشاف العديد من حقول النفط في المناطق المتنازع عليها والمتداخلة بينهما، مما أضفى بُعدًا اقتصاديًّا جديدًا إلى جانب البُعد الإستراتيجي القديم لمسألة الحدود.
وبالفعل تجدَّد نزاع الحدود في عام 2009 عندما قامت وحدة عسكرية إيرانية باحتلال بئر نفطي داخل الأراضي العراقية، وهو حقل الفكة، بحجة أن هذا البئر يقع ضمن المناطق المتنازع عليها بين البلدين، وكان ذلك الأمر في حقيقته استمرارًا لسياسة فرض الأمر بالقوة التي تتبعها إيران في مسألة ترسيم حدودها مع العراق على مر العصور؛ إذ كان من الغريب أن تحتل القوات الإيرانية هذا الحقل النفطي قبل شهر فقط من اجتماع اللجنة الإيرانية العراقية المشتركة لإعادة ترسيم الحدود بين البلدين.
وفي الحقيقة لم يكن هذا الأمر إلا مظاهرة استعراض قوى من جانب إيران؛ لفرض شروطها على العراق في هذا الاجتماع، ولم يستطع العراق إلا استدعاء السفير الإيراني في العراق، والمطالبة بخروج القوات الإيرانية من هذا الموقع، وحل المشكلة من خلال لجنة مشتركة بين البلدين.
وتحاول إيران الآن -سواءٌ من خلال توسيع رقعة نشاطها الدبلوماسي والقنصلي في العراق، أو حتى تأثير الأحزاب والميليشيات العراقية المدعومة من إيران- التأثيرَ على مجريات الأمور العراقية، وتأكيد الهيمنة الإيرانية على المقدرات العراقية.