التيارات الإسلاموية والعثمانية

تحالفات هجينة ومصالح مرحلية

قلنا في حلقات سابقة بأن التيارات الإسلاموية -وخاصة جماعات الإسلام السياسي- تسعى إلى عقد تحالفات مرحلية مع قوى الداخل والخارج في إطار إستراتيجية محكمة تسعى إلى تحقيق الهدف السياسي الأسمى، ألا وهو الوصول إلى السلطة أو ما يُطلَق عليه في أدبيات الإخوان بـ”مرحلة التمكين”.

في هذا السياق، اعتمدت التنظيمات الإخوانية في الداخل على تكتيكات التحالف مع السلطة السياسية ومحاولة عزل باقي القوى أو الشخصيات المؤثرة في صناعة وصياغة القرارات السياسية، وقامت بتكييف هذا التحالف تحت قاعدة “المصالح المشتركة مع الطاغوت”.

ومن خلال هذا التكتيك نجح الإخوان “في بعض الدول” في تقديم أنفسهم كحليف موضوعي وموثوق به للدولة، ونجحوا في تكتيكات الانتشار الجماهيري والاختراق المؤسساتي، قبل أن يمروا إلى مرحلة “العزل السياسي” والانفراد برأس السلطة ثم توجيهها “تونس” أو تحييدها (مصر) ليحكموا وحدهم والقطع مع المسالك التي أوصلتهم إلى السلطة (الانتخابات).

على المستوى الخارجي، ارتبط تأسيس التنظيم وتطور الجماعة دائمًا بالحاضنة الخارجية من خلال مساهمة بريطانيا في تأسيس الجماعة (قصة 500 جنيه كدعم من شركة قناة السويس)، ومرورًا بالارتماء في أحضان قوى إقليمية من أجل الدعم السياسي والإعلامي والمالي، ووصولًا إلى حد التنكر للوطن والعمل على تخريبه باعتباره “مجرد حفنة من تراب عفن” كما قال “سيدهم” قطب.

وارتباطًا بنقطة البحث، شكَّل صعود نجم الإسلاميين في تركيا مناسبة لبناء تحالفات براغماتية بين حزب العدالة والتنمية التركي وبين التنظيم الإخواني. وهو ما يجعلنا نقف على طبيعة هذا التحالف وماذا يقدم كل طرف إلى الآخر وآفاق وحدود هذا التحالف على المدى المتوسط والبعيد؟

في هذا الصدد، حاولت تنظيمات الإسلام السياسي تصحيح بعض مكامن الخلل في بنائها الإستراتيجي، خاصة أن محطات الصدام مع الدولة كانت قاصمةً للتنظيم وأعلنت نهاية المسار السياسي والوجودي لمعظم رموزه. وهنا رأى الإخوان أن سبب “نكبة الإخوان” هو غياب قاعدة خلفية يمكن الارتكان إليها في حالة المواجهة “الحتمية” مع مؤسسات الدولة.

هذا التكتيك، ساهم في استغلال “الحماية العثمانية” باعتبارها “الخطوط الخلفية” من أجل مهاجمة الدول، خاصة مع ظهور منصات التواصل الاجتماعي، التي شكَّلت مسرح عمليات جديدًا في الصراع الوجودي بين الإسلاميين والدول العربية بشكل خاص.

على الجانب الآخر، رأى العثمانيون الجدد أن حظوظ نشر قوتهم الناعمة داخل الدول الأوروبية منعدمة ومعدومة. أما على صعيد الدول العربية فإن الخلافة العثمانية لم تترك أثرًا على الإنسان أو العمران، ومحاولات تجميل هذا التاريخ يصطدم بحاجز اللسان الأعجمي الذي لا يستطيع أن ينفذ إلى الداخل العربي.

وبناء عليه، وجد الأتراك ضالتهم في تنظيمات الإسلام السياسي من أجل التوسع داخل المنظومة العربية من خلال “إعادة” إخضاع مجموعة من العواصم العربية للتبعية العثمانية. ولِمَ لا وقد نجحت إيران في إخضاع أربع عواصم عربية لسلطانها؟ فهؤلاء شكلوا وأسسوا وموَّلوا الطابور الشيعي العربي في هذه الدول، ونحن نحتضن ونمول ونساند الطابور الإخواني في دول أخرى، وبالتالي نضمن تبعية هذه الدول ونعيد أمجاد الإمبراطورية العثمانية.

هذا إذن الهدف السياسي الأسمى للعثمانية الجديدة، ومن أجله تحركت التنظيمات الإسلاموية من أجل تبجيل وتعظيم الماضي العثماني، وبالتالي تسهيل دخول الأفكار والقيم التركية إلى المنازل والحارات بلسان عربي مبين.

 ويبدو أن تيار الإسلام السياسي يعلم علم اليقين أن هذا التحالف هو بالأساس مرحلي، ويمكن الحسم معه بمجرد الوصول إلى السلطة، وبالتالي فرض نوع من الاستقلالية عن الأتراك في مقابل تقوية مركز ثقل التنظيم الذي يمكن أن ينتقل بسلاسة بين تركيا وقطر أو حتى فرنسا أو لندن.

إن قراءة في البنية السلوكية لتركيا على عهد “الخليفة الرئيس”، تقطع بأن القوم راهنوا على القومية التركية من أجل تقوية الوجود التركي في القوقاز ووسط آسيا، وراهنوا على الخطاب الديني لإعادة ربط تركيا بالعالم العربي والإسلامي، وكانت  أداة الربط هو تنظيم الإخوان المسلمين.

ومخطئٌ من يعتقد أن الغرب كان بعيدًا عن هذه الترتيبات، بل نجزم أن الولايات المتحدة الأمريكية قد كانت الموجهة الأولى لكي تضع أنقرة يدها على تنظيمات الإسلام السياسي (السنية). وهو ما يمكن استنتاجه من خلال كتاب زبغنيو بريجنسي “رقعة الشطرنج الكبرى”، وهو الكتاب الذي يرى في تركيا أحد “المحاور الجيوسياسية” المهمة، التي يجب تقويتها للوقوف في وجه المد الصيني الأصفر.

لقد رأى ساسة واشنطن في تركيا وإيران أدواتها في المنطقة من أجل بناء جدار صد عمودي يقف في وجه طموحات بكين. وهنا أعلنها رموز التنظيم صراحة بأن مركز خلافتهم هو إسطنبول، وبأن خليفتهم هو أردوغان، ووصل الأمر بشخص مثل يوسف القرضاوي إلى القول “هو القائد (يقصد أردوغان) الذي يعرف الله، ويعرف نفسه، ويعرف شعبه، ويعرف الأمة، ويعرف العالم. عليكم الوقوف إلى جانب هذا الشخص وتقديم الولاء له والقول له: سِر إلى الأمام”.

إن الإستراتيجية تحتاج إلى التحضير والتدبير والتنسيق لتزيلها، لكنها تحتاج أيضًا إلى “الفرصة”. والإخوان هم أكثر التنظيمات صبرًا وانتظارًا للفرصة التي ستأتي حتمًا. وكانت فتنة الربيع العربي هي الفرصة التي ركبت عليها تنظيمات الإسلام السياسي من أجل الوصول إلى السلطة. وهكذا نجحت في مصر، ونسبيًّا في تونس، وهامشيًّا في المغرب، وفشلت في دول الخليج التي كانت حاسمةً وصارمة في تعاملها مع هذا التنظيم وكشفت حقيقة مخططاته قبل وقت قصير من اندلاع أحداث سنة 2011م.

وحيث إن التنظيمات الإسلاموية هي أدوات هدم وليست وسائل بناء، فقد سقطت في مصر بقوة الجماهير، وفي المغرب بمنطق الصناديق، وفي تونس بنفس المنطق الذي تعاملت به مع خصومها، ليأفل نجم الإخوان ومعهم المشروع العثماني… ولو إلى حين.