مقر الحكم الفعلي لسلاطين الدولة العثمانية

"الحرملك"

حيث امتهان الزوجات والجواري

وبقية النساء!

لم يكن وجود نساء وجواري في قصور الدولة العثمانية بالأمر الجديد، فإمبراطوريات التاريخ عرفت تلك الظاهرة، لكن سلاطين الترك لم يكتفوا ببضع نساء كما كان من قبلهم، بل توسعوا في شراء الفتيات من شتى أنحاء العالم، وأسسوا مؤسسة الحرملك التي ضمت جواري وزوجات سلاطين العثمانيين، ووضعوا لتلك المؤسسة قوانين صارمة وجعلوا هناك مناصب للجواري يتدرجن فيها حتى أصبحن أمهات للسلاطين ومتحكمات في البلاد التي حكمها بنو عثمان.

هذا التطور الذي وصفه مؤرخون بأنه دلالة على كيف لهث سلاطين العثمانيين وراء النساء ومجالس اللهو والاسترخاء على الأسرّة، تاركين شئون الحكم، هو ما أدى في النهاية إلا أن يُصبح الحرملك، وهو المكان المخصص للنساء في قصور سلاطين العثمانيين، المقر الحقيقي لحكم البلاد ومنه صدرت القرارات وحيكت المؤامرات التي هددت أركان الدولة العثمانية قبل أن تتسبب في زوالها

وكما تؤكد المصادر التاريخية، فإن سلاطين العثمانيين لم يكن في قصورهم أجنحة خاصة للحريم حتى جاء السلطان محمد الفاتح (1444- 1481)، المُغرم بالنساء فجمع مئات الجواري والزوجات وخصص لهن مكان داخل قصر الحكم وسمّاه “الحرملك” -أي مُحرم على الرجال دخوله-.

أسس محمد الفاتح نظام الحرملك لمراقبة زوجاته وجواريه

ومن ناحية أخرى أراد السلطان محمد الفاتح مراقبة نساؤه وجواريه، إذ إن بعض الجواري ينتمين لإمبراطوريات معادية للدولة العثمانية، وكان يتم جلب نساء الحرملك عن طريق أسواق النخاسة التي روّج لها سلاطين الترك، وبات هناك تجّار مهمتهم هي البحث عن فتاة جميلة تليق بحرملك بني عثمان الذين صرفوا آلاف الليرات الذهبية من أجل ملذاتهم وشهواتهم الخاصة.

ولذلك ابتدع سلاطين العثمانيين نظام الآغاوات، أي الرجال المخصيين المكلفين بخدمة الحرملك في الظاهر لكن مهمتهم الفعلية مراقبة هؤلاء النسوة وتتبع حركاتهن.

ومنذ اللحظة الأولى لتأسيس الحرملك، فُرضت عليه السرية والقوانين الصارمة، وليس هناك مبالغة في قول أن هذا المكان كان في قائمة أولويات سلاطين العثمانيين الذين أهتموا بالنساء أولًا وأخيرًا.

فرض السلاطين السرية الكاملة على نساء الحرملك وقتلوا أي رجل يقترب منهن

يدلل على ذلك أن الحرملك كان تابع للسلطان العثماني مباشرة، أما عن تقسيمات الحرملك المعمارية، فكما توضح المصادر التاريخية إنه تكون من عدة مباني متداخله من أجنحة وغرف، وممرات تفضي إلى مداخل ومخارج لتقييد الحركة الداخلية، كما اشتمل على ممرات سرية لدخول السلاطين وخروجهم.

ويحوي الحرملك ما يزيد على 400 غرفة لأسرة السلطان وجواريه، بجانب أجنحة للخدم والموظفين من النساء للاهتمام بالجواري ومرافقة زوجات السلاطين، كما يحوي الحرملك على حمامات وصالونات ومكتبات، وبالطبع تم عزل هذا المكان عن الأعين داخل قصور الحكم وظل جزء غامض حتى للعاملين في القصر نفسه. 

أما قواعد الحرملك فلا يمكن سوى وصفها بأنها قواعد عبودية من الطراز الأول، بداية من إجبار كافة الجواري والإماء على اعتناق الإسلام كرهًا وهو أمر نهى عنه الدين الإسلامي بنصوص صريحة وواضحة، ثم بعد ذلك تربيتهن على بعض القواعد الاستعبادية التي فرضها سلاطين العثمانيين، فمحظور عليهن النظر إلى عين السلطان، ويجب تقبيل أطراف ثوبه حين يقترب من أي جارية، وغير مسموح لهن بالخروج من الحرملك، وبالطبع عليهن تهيئة أنفسهن كل ليلة تحسبًا لرغبة سلاطين العثمانيين.

وحتى لا يعرف أحد ماذا يفعل سلاطين الترك داخل هذا الجزء الغامض من قصور الحكم، فُرضت عقوبات وحشية على نساء الحرملك، فمن تخالف منهن تعليمات السلطان تتعرض للطرد في العراء، أما الجارية التي تقيم علاقة مع أي رجل فمصيرها هو القتل.

وبالنسبة للرجال فإن اقتراب أي رجل من الحرملك كان يعني هلاكه، فتشير المصادر التاريخية أن أحد التجار من رعايا مدينة البندقية تجرأ وحاول أن ينظر عن بعد إلى أجنحة الحريم السلطاني مستخدمًا نظارة تقريب المسافات وسرعان ما اكتشف أمره فأمر السلطان مراد الرابع (1623-1640)، بشنقه فورًا، وتكررت المحاولة بعد أن قام رجل أرميني يعمل مترجمًا للسفير الفرنسي في إسطنبول، فألقت السلطات العثمانية القبض عليه وأسرعت بشنقه قبل أن تتدخل السلطات الفرنسية لتطلب العفو.  

ورغم أن الله لم يميز بين الناس إلا بالعمل، فقد دأب آل عثمان على تقسيم الناس درجات وأصناف، فداخل الحرملك نفسه لم يكن النساء متساويات فيما بينهن فهناك مناصب ودرجات ويتحدد نفوذ الجارية حسب جمالها وإعجاب السلطان بها.

وترأس النظام الهرمي داخل الحرملك “والدة سلطان”، وهي أهم شخصية داخل الحرملك باعتبارها والدة السلطان الحاكم، وكانت هي الوحيدة المسموح لها بالاتصال بالعالم الخارجي، أما اكتساب هذا المنصب فيأتي بمجرد أن يتم تعيين سلطان جديد من آل عثمان فتتولى أمه هذا المنصب.

وتكشف المصادر التاريخية أن والدة سلطان، لعبت أدوار أخرى مهمة من خلال تقديم الاستشارات الضرورية للسلطان فيما يخص الحرملك وسلوك النساء داخله، أي يمكن القول إنها الجاسوسة الأولى للسلطان بين نساءه .

ترأست والدة السلطان نظام الحرملك وتمتعت بنفوذ قوي بسببه

بعد والدة سلطان، يأتي دور “القادن أفندي” والمقصود بالمصطلح طبقة الجواري اللاتي أنجبن ولدًا للسلطان الحاكم، وبمجرد الولادة ينتقلن إلى تلك الطبقة التي تتمتع بمعاملة خاصة، إذ يخصص لهن جواري تعمل على خدمتهن باعتبارهن أمهات لأولاد السلاطين.

ويطلق على من تنجب الابن البكر للسلطان لقب “الباشقادن” لأنها بذلك تصبح عمليا السلطانة الوالدة المقبلة داخل الحرملك العثماني حسبب قوانين الولاية العثمانية.

وفي المرتبة الثالثة  تأتي “الجوزة” والمقصود بالكلمة، الجارية التي استطاعت الاستحواذ على اهتمام المسئولين داخل القصر سواء السلطان نفسه أو غيره، وكان هذا الاستحواذ يسمح لها بالترقي داخل الحرملك، أما من استحوذت على اهتمام السلطان مؤقتًا فكان يطلق عليها لقب “إقبال” وكانت تحظى أيضًا بوضع خاص داخل الحرملك.

بعد ذلك تأتي منزلة “الكلفة” وهن مجموعة الجواري اللاتي لهن وظائف مهمة لتسيير أمور الحرملك، ويتمتعن بمقام أعلى من باقي الخدم، ويتزيل القائمة الجواري أصحاب المهام الروتينية كأمينة المجوهرات أو أمينة الخزينة داخل الحرملك .

لكن برغم هذا النظام الصارم الذي وضعه سلاطين العثمانيين، والسرية التامة التي فرضوها على مجالس اللهو وليالي ألف ليلة وليلة التي أقاموها بأموال المسلمين الذين عانوا في عهدهم الفقر والتخلف، فإن هذا النظام لم يصمد طويلًا وسرعان ما تم كشف ما كان يحدث داخل هذا الجزء الغامض من قصور الحكم.

وتؤكد المرويات التاريخية أن الحياة داخل الحرملك تجاوزات كل المحظورات التي نهى عنها الدين الإسلامي، وبات الحرملك يلبي رغبات وشهوات سلاطين العثمانيين الذين بنوا أحواضًا من الحليب لاستحمام الجواري فيها، كما شهدت جدران الحرملك ما يمكن وصفه بالأشعار المبتذلة لإثارة الجواري والنساء الجميلات ناهيك عن تصرفات أخرى خجل المؤرخون من ذكرها.

بالإضافة إلى ذلك استطاع الكثير من الآغاوات الذين خدموا جاريات ونساء سلاطين الترك أن يجمعوا أموالًا طائلة، سواء نظير خدمتهم لنساء الحرملك أو من خلال إدارة أموال بعض النسوة خاصة زوجات السلاطين، وتخطت ثروة بعض الآغاوات ثروات باشات ووزراء الدولة العثمانية نفسها.

شهد الحرملك أبشع أشكال الفجور والفسق لسلاطين العثمانيين

  1. أحمد الشنتناوي وآخرون، دائرة المعارف الاسلامية (بيروت: دار المعرفة، د.ت).
  2. أماني الغازي، الدولة العثمانية من خلال كتابات المستشرقين في دائرة المعارف الاسلامية (جدة: الأعمال الثقافية ، 1433هـ ).
  3. أكمل الدين احسان اوغلي، الدولة العثمانية تاريخ وحضارة (إسطنبول: مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، 1999م).
  4. حسن الضيقة، الدولة العثمانية الثقافة المجتمع والسلطة، (بيروت: دار المنتخب العربي، 1997م).
  5. خليل اينالجيك، تاريخ الدولة العثمانية من النشوء الى الانحدار، ترجمة محمد الأرناؤوط (المدار الاسلامي، بنغازي، 2002م).
  6. عبدالعزيزمحمد الشناوي، الدولة العثمانية: دولة إسلامية مفترى عليها (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1980م).

من أسواق النخاسة إلى الحكم باسم "العثمانية"

سلطانات الظل

في الحرملك

يُخبرنا التاريخ أن كل دولة كان لها رجال ظل، ليس لهم مناصب رسمية في الدولة ولا يظهرون كثيرًا على الملأ، لكنهم في الخفاء يديرون ويتحكَّمون في مصائر البلاد والعباد.

تلك الظاهرة ربما لجأ لها قادة الدول لإيجاد ملجأ أخير حينما تضيق بهم السبل ويعجز المسؤولون عن الحل، لهذا فإن لها مسوِّغ، لكن ما فعله سلاطين العثمانيين لم يكن له أي مسوِّغ؛ لأنهم لم يتخذوا رجال ظل بل نساء ظل، ولم يكن هؤلاء النسوة سوى جوارٍ جُلبن من أسواق النخاسة من كل حدب وصوب، وبسبب شهوات بني عثمان وارتمائهم في أحضان الجواري ليل نهار، أصبح مصير البلاد في يد نساء الحرملك، فتحكّمن في سلاطين الترك وأصبحن سلطانات ظلٍ إن جازت التسمية.

وتشير المصادر التاريخية إلى أنه منذ اللحظة الأولى لتأسيس الحرملك في عهد السلطان محمد الفاتح (1444-1481)، تبين أن هذا المكان المخصص للجواري ونساء بني عثمان هو مقر الحكم الفعلي في البلاد، فمن ناحية فإن سلاطين العثمانيين قضوا معظم أوقاتهم بين جواريهم، ومن ناحية أخرى فإن حالة الضعف التي سيطرت على بني عثمان أغرى هؤلاء النسوة بإطلاق رغباتهن في اكتساب النفوذ والثروة حتى أصبحن يتحكمن في البلاد.

أما بالنسبة للجواري فلم يكن الطريق صعبًا على الإطلاق، يكفي أن تتقن الجارية إغواء السلطان ليقع في غرامها، وحين تُنجب منه تترقى مباشرة إلى “قادين” وهي مرتبة في قوانين الحرملك تجعل صاحبتها تُعامل معاملة السلطانات، وحين يتولى ابن تلك الجارية العرش بعد ذلك، تصبح هي السلطانة الوالدة، أعلى منصب في الحرملك وتتمتع بنفوذ يفوق نفوذ بعض السلاطين أحيانًا.

ونتيجة لتعدد الجواري وهيام سلاطين الترك بهن، كان طوال الوقت جوارٍ أنجبن من السلاطين، ذلك أشعل صراعًا، مَن منهن سيتولى ابنها كرسي العرش؟!، وبسبب ذلك أيضًا أدرن كثيرًا من هؤلاء النسوة المؤامرات وحوادث الاغتيالات كي تؤَمِّن لابنها منصب السلطان.

ولعل البعض قد يظن أن تحكّم سلطانات الحرملك ظهر في عصر تدهور الدولة العثمانية أو نهاية عقودها، لكن الحقيقة أن الظاهرة بدأت مبكرًا لتُصبح عقيدة سياسية عند بني عثمان، وتثبت المصادر التاريخية أن البداية كانت من عند السلطان سليمان القانوني (1520-1566) ميلادي الذي أُغرم بـ”روكسلانة” وهي جارية من أصول أوكرانية وأب مسيحي، أُسِرَت ودخلت ضمن جوارٍ أُخَر إلى الحرملك.

وفي وقت قصير استطاعت روكسلانة أن تَسلب سليمان القانوني عقله، فهام بها حبًّا وكتب فيها قصائد شعرية ثم أنجبت له تلك الجارية ولدًا فصارت زوجًا له، ومستشارةً أولىى في شؤون الدولة، ويصف المؤرخون نفوذ روكسلانه بأنها جعلت سليمان القانوني غير قادر على فراقها للدرجة التي دفعته إلى التخلي عن قيادة حملاته العسكرية.

روكسلانة جارية سليمان القانوني أول سلطانات الظل في الدولة العثمانية.

لكن روكسلانة لم تكترث بهذا السلطان الضعيف العاشق، فخططها الماكرة وقوة شخصيتها دفعتها إلى التفكير في الوصول بابنها سليم الثاني إلى الحكم، وفي سبيل ذلك خلقت فتنة بين سليمان القانوني والصدر الأعظم إبراهيم باشا، الذي كان يؤيد تولي العرش للأمير مصطفى.

ونجحت روكسلانة في خطتها فعزل سليمان القانوني إبراهيم باشا وعين بدلًا منه رستم باشا الذي تزوج إحدى بنات روكسلانة، ثم انتقلت إلى الخطوة الثالثة بأن أوهمت السلطان بأن ابنه يتآمر عليه، وفي 1553 ميلاديًّا قُتل مصطفى سليمان القانوني، وبعد وفاة الأخير تولى السلطان سليم الثاني ابن روكسلانة الحكم.

وما فعلته روكسلانة، تحول إلى قاعدة في الدولة العثمانية، كقواعد قتل الأشقاء وتجويع الناس، فحين تولى السلطان سليم الثاني الحكم(1566-1574) ميلادي، كانت هناك الجارية “نوربانو” التي سيطرت عليه حتى تزوجته وأنجبت له مراد الثالث الذي سيتولى العرش بعد ذلك.

وتمكّنت نوربانو من التحكّم في كافة شؤون الدولة العثمانية في عهد زوجها سليم الثاني أو ابنها مراد الثالث، وذلك بفضل حيلتها في التحالف مع الصدر الأعظم صوكولو محمد باشا، وكبير الأغوات في القصر غضنفر آغا، وهو تحالف رضخ أمامه السلطان سليم الثاني وابنه من بعده مراد الثالث.

لكن الأمور اتخذت منحًا دراميًّا حين ظهرت الجارية صفية التي اشترتها السلطانة “هوما شاه” ابنة الأمير محمد بن سليمان القانوني وأهدتها إلى مراد الثالث وقت أن كان وليًّا للعهد.

تحكمن بسلاطين العثمانيين وأدرن شؤون الحكم.

صفية استطاعت أن تَسلب عقل مراد الثالث الذي أصبح مشتتًّا بين أمه القوية من ناحية، وجاريته المفضلة صفية من ناحية أخرى، ولحل تلك الأزمة حاولت نوربانو أن تكسر احتكار صفية لفراش السلطان مراد الثالث لكن الأخير رفض في البداية قبل أن يخضع لرغبة والدته ويقبل الجواري الأُخَر.

لكن صفية لم تترك المعركة بسهولة، فأصرت على البقاء بجوار مراد الثالث، واستطاعت أن تُنجب له الأمير محمد خان الذي سيصبح فيما بعد السلطان محمد الثالث (1595-1603) ميلادي، وانتهي الصراع حين ماتت والدة مراد الثالث مسمومة عام 1583 فأصبحت صفية سلطان صاحبة أقوى نفوذ داخل قصور الحكم.

ولمعرفة مدى الجرائم التي ارتكبتها صفية سلطان، المُلقبة بسفاحة بني عثمان، وتوضح المصادر التاريخية أنها أمرت أن يُحبس الأمراء الذكور من آل عثمان داخل أجنحة معزولة عن العالم داخل الحرملك، لكي تقضي على أي منافس لابنها، ذلك الأمر ترك آثارًا بالغة على من نجا من السلاطين في المستقبل إذ عانوا جميعا من أمراض نفسية نتيجة ما فعلته صفية سلطان بهم.

وأكملت صفية سلطان، جريمتها حينما كان السلطان العثماني مراد الثالث يلفظ أنفاسه الأخيرة، فأصدرت أوامرها لكبير الأغوات غضنفر آغا بقتل أبناء السلطان الذكور الـ18 خنقًا ليصفو الطريق لابنها.

كي تمنح ابنها العرش قتلت صفية سلطان 18 من أبناء مراد الثالث.

تكرر الأمر ذاته مع “كوسم سلطان” التي بيعت جاريةً فتحولت إلى سيدة سيدات بني عثمان، وذلك بعد أن استطاعت الزواج من السلطان أحمد الأول وأنجبت له الأمير مراد، السلطان مراد الرابع لاحقًا.

وتمكّنت كوسم سلطان من عقد تحالفات مع رجال الدولة في قصر الحكم لتأمين المنصب لابنها ضد أخيه الأمير عثمان ابن ضرتها وعدوتها التاريخية “خديجة ماه فيروز”.

وحسمت كوسم سلطان الأمر لصالح ابنها، فبعد أن تولى الأمير عثمان العرش وأصبح لقبه عثمان الثاني، اشتركت في مؤامرة اغتياله، وتولى بعد ذلك ابنها مراد وهو في سن الـ11 عامًا الحكم وأدارت هي البلاد بصفتها نائبة السلطان لمدة 9 سنوات حتى بلغ مراد الرابع سن العشرين، ولم ينته نفوذها عند هذا الحد بل استمر طوال عهد ابنها.

وتُجمع المصادر التاريخية على أنَّ تَرْك أمور الدولة العثمانية في يد سلطانات الظل وما فعلنه كان أحد الأسباب الرئيسة لسقوط الدولة العثمانية والتخلف الذي عانى منه المسلمون، كما تؤكد الروايات التاريخية أيضًا على أنه ليس هناك أي سلطنة عرفها التاريخ تحكم فيها النساء بهذا النحو الصريح، والخطير أيضًا.

تمكنت كوسم سلطان من اغتيال عثمان الثاني وحكم البلاد بالنيابة.

  1. إسماعيل ياغي، الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث (الرياض: مكتبة العبيكان).

  2. الدولة العثمانية المجهولة – أحمد آق كوندوز، سعيد أوزتورك.

  3. منشور – سلطانات الدم.. «صفية» سفاحة أمراء بني عثمان.. الباحث محمود البتاكوشي.

  4. سيد محمد السيد محمود، الدولة العثمانية النشأة والازدهار وفق المصادر العثمانية المعاصرة والدراسات التركية الحديثة (القاهرة: مكتبة الآداب، 2007م).

  5. عبد الرحيم بنحادة، العثمانيون المؤسسات والاقتصاد والثقافة (الدار البيضاء: اتصالات سبو، 2008م).

  6. ماجدة صلاح مخلوف، الحريم في العصر العثماني (القاهرة: دار الآفاق، 1998م).

  7. محمد جميل بيهم، أوليات سلاطين تركيا المدنية والاجتماعية والسياسية (صيدا: مطبعة الوفاق، 1930م).

  8. محمد سهيل طقّوش، تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة، ط2 ( بيروت: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، 2008م).
تشغيل الفيديو

الحرملك نشرن الفساد وأشْعَلنَ الصراع بين السلاطين

كيف انهارت الدولة

العثمانية على يد الجواري؟

يزعم السلاطين والملوك بأن دولهم سقطت نتيجة أسباب خارجة عن إرادتهم، بأن هناك من تآمر عليهم وأسقط مُلكهم، أو أن هناك قوى تعاظمت فسيطرت عليهم. 

لكن الحقيقة التي لا يحب أن يعرفها هؤلاء السلاطين والملوك، أن الإمبراطوريات تسقط من الداخل أولًا، حين يعيش الرعايا في فقر وجوع، ويسود التخلف ويهمل السلاطين أمور الحكم للهث وراء النساء ومجالس اللهو، وقتها فقط تسقط الدول من تلقاء نفسها.

هذا ما لم يقتنع به سلاطين العثمانيين الذين ما إن سقطت دولتهم حتى باتوا يروّجون أن سقوطهم كان سببه تآمر العالم كله عليهم، متناسين أن العالم العربي عاش في عهدهم قرونًا من الظلام والتخلف وتذيُّل قائمة الأمم بعد أن كان في الصدارة.

ومن يتتبع الروايات التاريخية يستطيع أن يعرف كيف ساهم الحرملك في سقوط الإمبراطورية العثمانية، فهذا المكان الذي أُسس باعتباره مكانًا خاصًّا يمارس فيه سلاطين الترك متعتهم مع النساء والجواري، وفرضوا عليه السرية التامة، تعاظم نفوذه وأصبح مقرًّا فعليًّا للحكم، ووصلت سلطة بعض جواري الحرملك إلى إصدار أوامر ينفذها سلاطين العثمانيين.

بالطبع هذا النفوذ -كما توضح المصادر التاريخية- لم يكن ليصبح على هذا النحو لولا ضعف سلاطين الترك الذين أهملوا شؤون الحكم من أجل إشباع رغباتهم الدنيئة، وحينما كان يعاني المسلمون من الفقر والجوع كان بنو عثمان يصرفون آلاف الليرات الذهبية على الحفلات الخاصة التي أقاموها في قصورهم. 

أضف إلىى ذلك أن بعض سلاطين بني عثمان، وقعوا في غرام كثيرٍ من الجواري وأصبحوا رهن إشارتهن، وكُنَّ تلك الجواري ينتمين -في بعض الأحيان- إلى دول عدوة للدولة العثمانية.

جوعوا العرب وصرفوا ليراتهم الذهبية على رغباتهم الدنيئة.

وظهر مدى تأثير الحرملك مبكرًا من خلال “خاندان سلطان” وهي والدة السلطان مصطفى الأول (1617-1623 ميلادي)، فتلك المرأة التي ترأست الحرملك أشعلت فتنة بين آغاوات الإنكشارية وحرضتهم على قتل السلطان عثمان الثاني، ضمن صراعات القتال على العرش وهو ما حدث في النهاية وتولى ابنها مصطفى الأول العرش. 

لكن ما فعلته خاندان سلطان لا يُعد شيئًا أمام “كوسم سلطان” زوجة السلطان أحمد الأول إحدى نساء الحرملك، فتلك المرأة استطاعت أن تتحكم في الإمبراطورية العثمانية بالكامل حتى اضطر ابنها السلطان إبراهيم الأول إلى إبعادها عن قصر الحكم خوفًا من نفوذها.

وكانت البداية حين شاركت كوسم سلطان، في قيادة الدولة أثناء حكم ابنها مراد الرابع (1623-1639 ميلادي)، واستغلت توليه العرش في سن الحادية عشر، لتقوم بكل الأدوار داخل قصر الحكم، كما شاركت في قيادة الدولة أثناء حكم ابنها الثاني (1640-1648 ميلادي)، وامتد نفوذها إلى عهد حفيدها محمد الرابع (1648-1687 ميلادي).

وتؤكد المصادر التاريخية أن كوسم سلطان، كانت ذكيَّة إلى درجة استثنائية، تتصف بالمكر والمراوغة وإجادة وضع الخطط السياسية المُحْكَمة، لكن كل ذلك استخدمته لتحقيق مصالح شخصية وليس لمصالح الدولة العثمانية والرعايا.

ونتيجة لذلك استطاعت كَوْسَم سلطان تكوين ثروة فاحشة انتقلت بعد وفاتها إلى خزينة الدولة، ولمعرفة مكانة تلك المرأة التي تحكّمت في الحرملك أولًا ثم الدولة العثمانية بعد ذلك، يكفي القول أنها عيّنت أتباعها في المناصب الإدارية الرئيسة، وتحكّمت في ترقية بعض الباشوات وأقامت علاقات خارجية حتى اضطر إبراهيم الأول ابنها إلى إبعادها عن القصر السلطاني لمدى تكالبها على السلطة.

تحكمت كَوْسَم سلطان في كافة شؤون الإمبرطورية العثمانية.

لكن ما فعله السلطان إبراهيم الأول لم يكن من أجل ذلك فقط، ففي صراع الولد مع أمه كوسم سلطان، كان هناك امرأة ثالثة وهي خديجة تورخان زوجة إبراهيم الأول التي كان لها هي الأخرى نفوذ قوي داخل قصر الحكم. 

ودار بين الأم المتسلطة والزوجة الباحثة عن النفوذ وبين السلطان الحائر صراع داخل قصر الحكم، انتهى ذلك الصراع بانتصار خديجة تورخان، الزوجة التي تخلّصت من حماتها بإبعادها عن قصر الحكم، فلم يكن من كوسم سلطان إلا أن حاولت إحلال سليمان الثاني مكان محمد الرابع؛ لاعتقادها بأنها تستطيع التلاعب بنحوٍ أفضل بسليمان وهو ما لم يحدث بعد ذلك.

انفراد خديجة تورخان بالقصر بعد ذلك دفعها إلى زيادة نفوذها هي الأخرى، وإن كان البعض يشير إليها ببعض الأدوار الإيجابية لكن هذا لم يكن له علاقة بالرعايا قدر توطيد حكم زوجها وليس أكثر. 

تلك الصورة لنساء الحرملك من أزواج سلاطين العثمانيين، تقابلها أيضًا صور أخرى لجوارٍ لعبن أدوارًا مهمة مثل “زبرجد” عشيقة السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909 ميلادي)، التي أقامت علاقة مع نديم آغا فدفعت الأخير إلى أن يعصي أوامر عبد الحميد الثاني ويقتل أحد الآغاوات في حادثة تحاكى بها الجميع ونالت من هيبة عبد الحميد الثاني كثيرًا.

أجبرت خديجة تورخان إبراهيم الأول على طرد أمه من القصر.

وتروي المصادر التاريخية، أنه لم يكن هناك عجب من أن الفترات التي شهدت تزايدًا في نفوذ نساء الحرملك، كانت فترات اضمحلال بالنسبة للدولة العثمانية، ففي عصر كوسم سلطان مثلًا انتشرت الفوضى في الأقاليم وسيطر الثوار على بعضها، بالإضافة إلى زيادة نفوذ الانكشارية وانتشار الرشوة والفساد.
كما هو الحال أيضًا في عصر خديجة تورخان حينما باتت صاحبة الكلمة على زوجها السلطان إبراهيم الأول، مع تصاعد نفوذ الدول الأجنبية التي طمعت في مُلك الدولة العثمانية، وهو ما بدا في صورة واضحة في عصر عبد الحميد الثاني الذي عُرف بولعه بالنساء، ففي الوقت الذي كان فيه مشغولاً بقصة الآغا الذي عشق جاريته المفضلة، كان العالم العربي يئن تحت وطأة الجوع والقهر، ذلك أدى إلى زيادة النزعات الاستقلالية التي بلغت أوجها في عهد عبد الحميد الثاني وانتهت بخلعه وإسقاط الدولة العثمانية في 1923 ميلاديًّا.

أدى نفوذ نساء الحرملك إلى انتشار الفساد والرشوة والقلاقل.

1. ﭼـيل ڤاينشتاين، الإمبراطورية في عظمتها في القرن السادس عشر، ضمن كتاب: تاريخ الدولة العثمانية، جـ1، إشراف: روبير مانتران، ترجمة: بشير السباعي، القاهرة، 1993. 

2. برنارد لويس: إستانبول، وحضارة الخلافة الإسلامية، ترجمة: سيد رضوان علي، جدة، 1982.