أجبروهن على العزف والرقص...
وسخَّروهن للمتعة والغنج والمجون

35 جنسية حول العالم

سُخِّرت لتغذية قصور العثمانيين بـ جواري السلطان

لم يخجل سلاطين العثمانيين منذ اللحظة الأولى التي أسسوا فيها دولتهم، أن يعلنوا للجميع أن دولتهم قامت على سفك الدماء، ومجالس اللهو والنخاسة، ولم يشعر بنو عثمان الذين زعموا الحكم بالإسلام بأي غضاضة وهم يقنّنون الفسق ويدعمون الفجور وينشرونه في كل مكان.

لذلك لم يكن غريبًا أن تُصبح منظومة الجواري أبرز مؤسسات الدولة العثمانية، فمنذ السنوات الأولى لحكمهم الذي استمر أكثر من خمسة قرون تسببوا خلالها في تخلف الوطن العربي، حتى صار في ذيل قائمة الأمم بعد أن كان في الصَّدارة؛ إذ عمل سلاطين الترك على حشد قصورهم بالنساء وملء لياليهم بالغناء ومجالس اللهو، ولتذهب أمور الرعية إلى الجحيم.

ولعل البداية كانت مع السلطان محمد الفاتح (1444-1481)، الذي روّج لتجارة النخاسة حتى أصبحت إسطنبول سوقًا كبيرة للعبيد، وبلغ عدد جنسيات الجواري 35 جنسية من شتى أنحاء العالم، وأدى ذلك إلى نشاط التّجار الذين بحثوا في كل مكان عن جوارٍ بِسِمَاتٍ جمالية فائقة لبيعهن لبني عثمان الذين كانوا يشترون الجواري بأسعار باهظة في الوقت الذي يعاني فيه المسلمون في حدودهم الفقر والجوع.

 

روّج محمد الفاتح لتجارة النخاسة بينما دفع السلاطين أموالاً باهظة لشراء الجواري.

لم يقف الأمر عند هذا الحد، فرغم أن وظيفة الجواري في الدرجة الأولى تلبية رغبات السلاطين فقط، وهذا أمر لا يحتاج إلى مهارة أو قوانين، فإن سلاطين الترك لم يكتفوا بذلك إذ صنعوا منظومة كاملة للجواري، وهو ما عدّه مؤرخون أمر غريب ودال على مدى هوس بني عثمان بالنساء.

أما منظومة الجواري فتبدأ بجلبهن إلى قصور الحكم، والجلب يكون بأكثر من طريقة أشهرها الأسر في الحروب، أو خطفهن أطفالاً وتربيتهن داخل الحرملك حيث المكان المخصص لنساء سلاطين الترك، والطريقة الأخرى هي الشراء من تجّار النخاسة.

وتوضح بعض المصادر التاريخية ملامح نظام تربية الجواري في عهد سلاطين العثمانيين، إذ يبدأ هذا النظام بدخول الجواري للقصر فيعشن في قاعتين كبيرتين إحداهما تُسَمَّى بالقاعة الكبرى، والأخرى الصغرى، ويُقَسَّمن حسب العمر والميول، وبحسب النظام التراتبي، فإن الجواري يُسمين في تلك الفترة “العجميات” قبل أن يخضعن لرقابة صارمة من مشرفة خاصة تُسمي “كاخيا قادين”.

وبفضل الـ”كاخيا قادين” يتعلم الجواري البروتوكول العثماني بجانب إجبارهن على تعلم بعض المهارات اليدوية كالخياطة والتطريز، والرقص الماجن والغناء والعزف على الآلآت الموسيقية وطرق سرد الحكايات لتسلية السلطان.

ورغم أن الجواري في النهاية نسوة قادهن حظهن البائس إلى الخدمة في قصور آل عثمان، لكن سلاطين الترك الذين اعتادوا على تقسيم الناس، فعلوا الأمر نفسه مع الجواري، فبات لهن سلك تراتبي يبدأ من العجميات أي الجواري القادمات حديثًا للقصور، ثم بعد ذلك ترتقي الجارية إلى منصب أعلى قليلًا وهو شاكرد، ثم كديلكي وأخيرًا إلى أوسطة، أي الجارية التي تعلمت كل بروتوكلات سلاطين الترك وباتت قادرة على تعليم غيرها.

بجانب هذا التقسيم كان هناك تقسيم آخر للنساء اللاتي يختارهن السلطان لمخدعه ولمجالس اللهو والغناء، وهؤلاء أطلق عليهن “خاصكي”، وكانت الخاصكي التي تلد ابنًا للسلطان تتمتع بامتياز خاص، إذ كانت تذهب بمراسيم خاصة لتقبل يد السلطان وهي ترتدي التاج وفرو السمور، وكان يُفرد لها جناح خاص في البلاط بعد ذلك، والأولى التي تلد ابنًا للسلطان تبقى الأولى على الأخريات وتلقب بـ”باش قادين”.

أما القسم الثالث فهن الجواري اللاتي لم يحظين بمحبة السلطان أو يتولين أي عمل، وهؤلاء يُحبسن في حجرتهن ويفقدن حياتهن يومًا بعد يوم دون أي شيء يذكر، وذلك عدّه مؤرخون أقسى سجن يمكن أن يُسجن فيه إنسان دون أن يرتكب أي ذنب.

أما الجواري الأخريات فلم يكن أحسن حال، والمصادر التاريخية تشير إلى أن هؤلاء النسوة أُجْبرن على أفعال ماجنة لم يكن يتصورنها، وبعضهن أصيب بلوثة عقلية نتيجة فجور سلاطين الترك وما فعلنه داخل القصور خاصة الحفلات الخاصة التي كانت تشهد تعري الجميع في وقت واحد تلبية لرغبة السلطان، يؤكد ذلك أن هذا النوع من الاسترقاق كان الأبشع في تاريخ الإنسانية. 

المؤرخ الإنجليزي برنارد لويس يكشف في كتابه “إستانبول وحضارة الخلافة الإسلامية”، جانبًا آخر من حياة الجواري داخل قصور بني عثمان، بعد أن سافر إلى إسطنبول في عام (1599)، لتقديم هدية من الملكة إليزابيث إلى السلطان محمد الثالث.

واستطاع “لويس”، أن ينظر خلسة من خلال شباك سري إلى حياة الجواري داخل الحرملك، إذ إن سلاطين العثمانيين فرضوا السرية التامة على هذا الجزء الغامض في قصور الحكم وقتلوا كل من حاول معرفة ما يدور بداخله.

لكن “لويس” تمكن من استراق النظر بمساعدة أحد آغاوات الحرملك ويقول إنه رأى ما يقرب من ثلاثين جارية كن يلعبن الكرة، وعند نظرته الأولى لهن ظن أنهن ذكورًا ولكن عندما رأى شعورهن المعلقة على ظهورهن وفيها عقود من اللؤلؤ الصغير وعلامات أخرى واضحة أدرك من خلالها إنهن نسوة ويصفهن بالجميلات حقًا.

وينتقل بنا المؤرخ الإنجليزي ليصف ملابس الجواري، فيقول: يلبسن على رؤوسهن أكثر من كوفية من قماش الذهب، ولم يكن حول أعناقهن أي ربطة سوى عقد من اللؤلؤ باهظ الثمن، وماسة معلقة على صدر كل واحدة، وماسات في آذانهن، وكانت قمصانهن بعضها من الساتان الأحمر وبعضها الآخر من الأزرق بالإضافة إلى ألوان أُخَر، وكانت مربوطة بمناطق شبيهة بدَنْتِلَّة -يقصد بها قطعة قماش شفافة-، أما السراويل فهي من قماش ممتاز من القطن أبيض كالثلج ورقيق كالماء، تكشف السيقان التي وصفها “لويس” بأنها جميلة وفي أسفل الساق كانت الخلاخيل حاضرة.

 

تعاظمت منظومة الجواري شيئًا فشيئًا مع شراهة سلاطين الترك إلى النساء والاتكاء على الأسرّة، حتى أن بعض المؤرخين قدّروا عدد الجواري في قصر طوبي قابي سراي عام (1475)، بحوالي أربعمائة جارية بالإضافة إلى مائتيي وخمسين جارية في قصر آخر جميعهن يتبعن السلطان، وتساءل المؤرخون إذا كان هذا هو العدد في وقت كانت الدولة العثمانية لا تزال جيوشها تحارب، فلأي عدد وصل الجواري حين جلس سلاطين الترك الذين أصبحوا لا يفارقون قصورهم تقريبًا، ونستطيع أن نعرف أين كانت تُصرف أموال المسلمين إذا عرفنا أن كل جارية كان يُصرف لها مصروف شهري، بالإضافة إلى بعض المجوهرات، ناهيك عن العبيد الذين يخدمون هؤلاء النسوة، وقد كانوا يُجلبون أيضًا بأموال باهظة.

بلغ عدد الجواري في قصر طوبي قابي سراي 400 جارية عام (1475).

ونتيجة جشع ولهث سلاطين العثمانيين وراء النساء والاهتمام بتلبية رغباتهم الدنيئة، استطاعت بعض الجاريات أن يَسْلِبن بني عثمان إرادتهم، وتحكم هؤلاء النسوة في مقاليد الأمور ولاحقًا أصبح الجواري أمهات السلاطين الذين حكموا الوطن العربي بعد ذلك.

ولا أَدَلُّ على أهمية الجواري في قصور الحكم، من العبارات البارزة التي ذكرها أهم مؤرخي الأتراك، خليل إينالجيك الذي قال: “أما الحريم وهو القسم المخصص لأزواج السلاطين وجواريه وعائلته، فقط كان بمنزلة بلاد داخل البلاط”.

  1. خليل إينالجيك: تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، ترجمة: محمد الأرناؤط.

 

  1. برنارد لويس: إستانبول وحضارة الخلافة الإسلامية، ترجمة: سيد رضوان علي.

من الرقص والمتعة إلى إدارة شؤون الدولة العثمانية

جواري تربَّعن على كرسي
العرش العثماني

في عصر العثمانيين كان ممكنًا لأي جارية مجهولة النسب والديانة أن تجد نفسها في لحظة على كرسي العرش، مُتحكمة في حياة ملايين المسلمين، هذا ما تقوله المصادر التاريخية التي وصفت كيفية وصول نفوذ بعض الجواري في عصر الدولة العثمانية، وكيف أصبحن أمهات وزوجات لسلاطين الترك.

لم يكن الطريق صعبًا، يكفي أن تُجيد أي جارية فن إيقاع السلطان في غرامها لتُنجب منه، وبحسب البروتوكولات العثمانية تُصبح زوجة ثم أمًا للسلطان المقبل، وهي مكانة تمنح صاحبتها سيادة وحظوة متوقعة على عرش آل عثمان، ومن ثَمَّ التحكم في مصير ملايين المسلمين الواقعين في البلاد التي احتلتها الدولة العثمانية.

أمام ضعف سلاطين الترك أيضًا تُصبح المهمة سهلة، فأغلب بني عثمان -بحسب المصادر التاريخية- لم يلهثوا وراء شيء قدر النساء، ولم يفعلوا في حياتهم أكثر من الاستلقاء على الأسرّة حتى أن بعض السلاطين لم يغادروا قصورهم قط، إضافةً إلى الإسراف في شراء الجواري من شتى أنحاء العالم وتكدسهن في الحرملك حيث المكان المخصص لهن في قصور الحكم، وهو أمر حذّر منه كثير من قادة الدولة العثمانية نفسها إذ إن كثيرًا من الجواري تظاهرن باعتناق الإسلام وحب السلطان وهن في الحقيقة لسن سوى عيون لِدُولهن الأصلية المعادية للدولة العثمانية وللمسلمين في آن واحد.

لكن سلاطين العثمانيين لم يلتفتوا إلى تلك التحذيرات، إذ لم يكترثوا بالرعية في الحقيقة، فالمهم عندهم تلبية رغباتهم وشهواتهم، فتوسعوا في شراء الجواري وروّجوا لأسواق النخاسة، وكانت النتيجة أن الحرملك كان به عام (1475) ما يتجاوز 400 جارية ينتمين لجنسيات مختلفة، الرابط الوحيد أن جميعهن يتبعن السلطان.

وبحسب المنظومة التي وضعها بنو عثمان للجواري ودرجات الترقي داخل الحرملك، كان أسرع الطرق أن يعشق السلطان جارية وتُنجب له ابنًا يكون وليًا للعهد، وهو ما حدث كثيرًا، لكن لم يقف الأمر عند هذا الحد إذ إن بعض الجواري حين يصبحن زوجات بسبب ضعف أزواجهن من سلاطين الترك، يتدخلن في شؤون الحكم، وبعضهن كن يحَكُمْن الدولة العثمانية في الحقيقة.

ولعل البعض يظن أن هذا جاء في عصر تدهور الدولة العثمانية، لكن الحقيقة أن ذلك بدأ مبكرًا، إذ تشير المصادر التاريخية إلى أن ظاهرة حكم “الحريم” للدولة العثمانية بدأ مع السلطان سليم الأول (1512-1520) ميلادي، فكما كان هو ديكتاتورًا وسفاحًا، كانت والدته السلطانة عائشة هي حاكمة قصر الحكم الأولى باعتبارها والدة السلطان، وهي أول من تولت هذا المنصب، ولعبت أدوارًا مهمة في عهد حكم ابنها حتى وفاتها، ولعل أبرز ما تميزت به السلطانة عائشة أنها أخمدت صراع زوجات سليم الأول، وهو صراع كان يمكن أن يؤدي إلى اغتيال السلطان نفسه من أجل أن تضمن كل زوجة أن يكون ابنها وليًّا للعهد، وهو أمر شائع منذ تأسيس الدولة العثمانية، وكم من أشقاء قُتلوا دون ذنب بأيدي أشقائهم أو أبنائهم.

السلطانة عائشة والدة سليم الأول أول جارية تدخلت في شؤون الحكم.

أما سليمان القانوني الذي حكم في (1520-1566) ميلادي، أشيع عنه أنه أكثر سلاطين الترك صرامة وقوة، إذ تكشف الروايات التاريخية أن معظم القرارات التي اتخذها كانت وراءها روكسلانة، وهي جارية ذات أصول أوكرانية-أرمينية اسمها الأصلي “إلكسندرا إليوفيسكا”، وتنتمي لأب مسيحي، أُسِرت في سن الرابعة عشر، وبيعت في سوق النخاسة للتجار العثمانيين حتى وصلت إلى قصر الحكم، وهناك استطاعت أن تَسْلِبَ عقل سليمان القانوني الذي هام بها حبًّا، وخَرَّ أمام جمالها فترك حملات جيشه العسكرية وجلس يكتب بجوارها قصائد الشعر.

 

وتمكّنت روكسلانة من إنجاب أبناء سليمان القانوني (عبد الله، سليم، بايزيد) لتصبح زوجة السلطان ووالدة السلطان المقبل، لكن لم  يقتصر دور روكسلانة عند هذا الحد، فلتأمين وصول أبنائها للعرش بدأت في لعب الأدوار السياسية لتكون السيدة الأولى في هذا المضمار، ولم تكن الأدوار شريفة بل اعتمدت على القتل والدسائس كعادة آل عثمان، ونجحت روكسلانة في تحريض سليمان القانوني على قتل صدره الأعظم إبراهيم باشا الذي كان معترضًا على تدخل زوجة السلطان في كل شيء.

وقع سليمان القانوني في غرام الأوروبية روكسلانة فحَرَّضته على قتل ابنه.

كما نجحت روكسلانة في تحريض سليمان القانوني حتى أقدم على تصفية ابنه مصطفى من زوجته “ماهي دوران جلهار سلطان”، وهو ما أدى إلى وصف المؤرخ العثماني منجم باشي في كتابه “جامع الدول” إلى القول بأن روكسلانة كانت منشأ مكر النساء في قصور الحكم، فتمكنت من إزالة مصطفى بن سليمان القانوني في عام 1553 ميلادي، وقد أحدثت تلك الواقعة حزنًا عامًّا بين جنود الإنكشارية، ولم يسلم السلطان سليمان القانوني من الانتقاد.

 

توضح المصادر التاريخية أن ما فعلته روكسلانة لم يكن فريدًا من نوعه، بل يمكن القول بأنها بدأت عقيدة سياسية صارت لدى سلاطين الترك بعد ذلك، ولم يكن سليم الثاني (1566-1574) ميلادي، ابن سليمان القانوني بأفضل من أبيه، فعلى الفَور بعدما تولى سليم الثاني الحكم وقع في غرام نوربانو، وهي جارية من أصول بندقية ولدت في جزيرة باروس بالبحر الأبيض المتوسط، واسمها الحقيقي “سيسيليا”، دخلت قصور بني عثمان وهي في الحادية عشر من عمرها ووقع في غرامها الأمير سليم الثاني فأنجبت له الأمير مراد، وبذلك ارتقت إلى مرتبة “خاصكي” أي والدة الأمير.

يطلق المؤرخون على فترة سليم الثاني عصر سلطنة الحريم بسبب الجارية نوربانو.

وبمجرد أن أصبح سليم الثاني سلطان الدولة العثمانية أصبحت نوربانو هي المتحكمة الأساسية في العرش، وسيزول العجب حينما نعرف أن سليم الثاني أول سلطان عثماني يجلس في قصوره ويترك أمر الرعية وتأمين حدود بلاده، وهو ما دفع نوربانو إلى لعب دور أكبر فباتت هي المتحكمة في تعيينات القادة والصدر الأعظم، وأقامت تحالفات مع بعض آغاوات الحرملك.

وبتولي مراد الثالث الحكم (1574-1595) ميلادي، زاد تدخل نوربانو في شؤون الحكم بطريقة دفعت المؤرخين إلى تسمية فترة مراد الثالث بسلطنة النساء والحاشية، إذ انتقلت السلطة الحقيقية إلى الحرملك وتركزت في يد نوربانو.

ولم يسحب عرش السلطانة نوربانو إلا الجارية صوفيا بيلوجي التي وقع في غرامها مراد الثالث فأنجبت له ابنهما السلطان محمد، وبتلك الطريقة أصبحت تلك الجارية هي السلطانة صفية زوجة السلطان وأم ولي عهد.

لكن لم يكن الطريق ممهدًا لصفية سلطان إذ إن والدة مراد الثالث نوربانو، كانت هي الأخرى ما تزال حاكمة لقصور الحكم، فأغرت ابنها بجواري أخريات لإبعاده عن صفية؛ لكن السلطان مراد الثالث لم يستطع إذ وقع في غرام صفية.

وبين الزوجة وأم السلطان دارت معارك كثيرة سرية في قصر الحكم أثناء تولى مراد الثالث، لكن تمكنت صفية بتحالفات كثيرة مع آغاوات الحرملك أن تحسم الصراع لصالحها، ومهدت الطريق إلى تولى ابنها الحكم، فأثناء وجود مراد الثالث على فراش الموت أمرت صفية بقتل كافة أبنائه، الذين بلغ عددهم 18 ابنا ليُطلق عليها بعد ذلك السفاحة.

استمر دور صفية سلطان بعد ذلك أثناء عهد ابنها محمد الثالث (1595-1603) ميلادي، بل تضخم لتصبح مسؤولة عن تعيينات الوزراء والولاة، ولم يُحِد من سلطانها إلا وفاة ابنها محمد الثالث عام 1603 ميلادي.

امرأة تحكمت في ثلاثة سلاطين من الترك وخلال ما يقرب من أربعة عقود، هذا ما أدت إليه سياسة الدولة العثمانية التي ترك قادتها الأمر في يد الجواري، وهذا ما انطبق على كَوسَم سلطان زوجة السلطان أحمد الأول (1603-1617) ميلادي، التي شاركت في كل شؤون الحكم خلال فترة زوجها وباتت أشهر سيدات الدولة العثمانية بسبب استمرار دورها وتعيينها القادة، والتحكم في حركة الترقيات خلال عهد ابنها مراد الرابع (1623-1640) ميلادي، ثم من خلال حفيدها محمد الرابع (1648-1687) ميلادي.

تلك السياسة العثمانية التي تركوا فيها الأمر للجواري، كان لها أثرها المباشر على المسلمين وأحوال الرعية خلال عهد سلاطين الترك، فكما توضح المصادر التاريخية أنه في خلال الفترة الواقعة بين وفاة السلطان سليمان القانوني وتولية السلطان مصطفى الرابع العرش عام 1907 ميلادي، حكم ثمانية عشر سلطانا، وهو عدد كبير تسببت فيه صراعات الحكم التي قادتها الجواري، وأدت إلى قتل عدد كبير من بني عثمان.

كما أنه بسبب تحكّم الجواري في عرش الدولة العثمانية ظهر الفساد في الحكم، وزاد من وتيرته تحالفات بعض النسوة مع رجال في القصر، ولذلك لم يكن من الغريب أن الفترات التي شهدت بروز السيدات في الحكم كانت هي الفترات التي شهدت ضعف الدولة العثمانية، وزيادة النزعات الاستقلالية عنها بالإضافة إلى عدوان الدول الأجنبية الغربية عليها.

وفي النهاية لم يدفع ثمن ذلك إلا الأهالي الذين عانوا الفقر والجوع وعدم تأمين بلادهم، بسبب سلاطين جلسوا في قصورهم وتركوا الحكم لعبة بيد الجواري. 

تعاظُم دور الجاريات كان أبرز أسباب ضعف الدولة العثمانية وعدوان الغرب لها.

  1. إلبر أورطايلي، العثمانية آخر الإمبراطوريات، ترجمة: عبد القادر عبد اللي(بيروت : الدار العربية للعلوم ناشرون2015م).

 

  1. خليل إيناجليك، تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، ترجمة: محمد الأرناؤوط ( بيروت : دار المدار الإسلامي، 2002م).

 

  1. عبد الرحيم بنحادة، العثمانيون المؤسسات والاقتصاد والثقافة، (الدار البيضاء: اتصالات سبو،2008م).

 

 

  1. فريدون أمجان، سليمان القانوني سلطان البرين والبحرين حقائق في ضوء المصادر، ترجمة: جمال وفاروق وآخر (القاهرة: دار النيل للنشر والتوزيع، 2014م).

 

  1. محمد أحمد الثقفي، زواج السلاطين العثمانيين من الأجنبيات وأثره على إضعاف الدولة (مكة المكرمة: رسالة ماجستير، قسم الدراسات التاريخية والحضارية العليا، جامعة أم القرى، 2012م).

 

  1. محمد سهيل طقّوش، تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة، (بيروت: دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، ط2، 2008م).

 

  1. منجم باشي أحمد دهده، جامع الدول، تحقيق: غسان علي الرمال، (مكة المكرمة: رسالة دكتوراه، قسم الدراسات التاريخية والحضارية العليا، جامعة أم القرى، 1997م).

 

  1. إسماعيل أحمد: الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث. مكتبة العبيكان. ص93-94.

 

  1. كمال الدين إحسان: الدولة العثمانية تاريخ وحضارة (صالح سعداوي). ج1. 1999.

 

  1. لويس، برنارد: استانبول وحضارة الخلافة الإسلامية. (سيد رضوان علي). (1982). ط2. الدار السعودية للنشر والتوزيع. ص 105.
تشغيل الفيديو

وقع في غرامها أحمد الأول وحكمت الدولة العثمانية ربع قرن..

الجارية أناستاسيا والسلطان العاشق

كيف يُمكن اعتبار الحب استثناء، وأن وقوع رجل في غرام امرأة حدثًا يستحق أن يقف عنده المؤرخون، كي يكشفوا الكواليس ويدوّنوا الأحداث كأنهم عثروا على كنز ثمين.

لكن في الحقيقة، سيزول العجب إذا كان من وقع في الحب سلطان عثماني، فوجود من يُدرك قيمة الحب بين بني عثمان الذين احترفوا سفك الدماء واستعبدوا الجميع نساءً ورجالاً وأطفالاً، وشجّعوا على الفسق والفجور هو كنز ثمين يستحق كل هذا، وإن كانت قصة الحب رحل بطلها سريعًا، وكأن قصور سلاطين الترك لا تطيق أن تشهد على أي شعور نبيل.

تفاصيل أشهر قصة غرام في الدولة العثمانية، كان بطلها هو السلطان أحمد الأول (1590-1617) ميلادي، وقد اختلف الرجل قليلًا عن أجداده وآبائه، فمن ناحية -كما توضح الروايات التاريخية- كان السلطان أحمد الأول ذا شخصية قيادية؛ لكنه في كل الأحوال ديكتاتور انفرد بصناعة القرار السياسي العثماني، وهذا أدى إلى نوع من الهدوء أثناء حكمه، خاصة بعد أن نجح في فرض عُرف دستوري يقضي بتولي السلطة لولي العهد الأكبر والأرشد، بعد أن تركها سلاطين الترك للأقوى فنتجت عن ذلك مجازر بين الأشقاء، وإن كان أيضًا ما فعله السلطان أحمد الأول لم يدم طويلًا بعد وفاته.

كما اختلف السلطان أحمد الأول عن أجداده في نظرته للحرملك، حيث المكان المخصص لجواري وزوجات سلاطين الترك، فكان أقلهم اهتمامًا به ولا يعني هذا إنه كان لا يكترث بالنساء كما توضح المصادر التاريخية، لكن ما أقلق أحمد الأول هو دور الحرملك الذي استفحل في الدولة العثمانية حتى أصبح هو المقر الفعلي للحكم.

لكن المفارقة وربما متطلبات قصص الحب الأسطورية، أن الرجل الذي كانت لديه تلك الرؤية الصائبة إلى حد ما، هو نفسه وقع في غرام الجارية أناستاسيا المولودة في اليونان، وتحديدًا في جزيرة تينوس من أسرة مسيحية، وكان والدها راهبًا أرثوذكسيًّا، وكانت أناستاسيا منذ الصغر ذات جمال أخّاذ، وهو ما لفت نظر والي البوسنة الذي قام بشرائها من شخص يدعى السيد بيلر وأرسلها بعد ذلك إلى الباب العالي في إسطنبول كنوع من التودد لسلاطين الترك الذين تسرهم تلك الهدايا كثيرًا.

لم تُدرك الفتاة الصغيرة أي شيء داخل قصر “توبكابي” الذي استقرت فيه في البداية، كل شيء حولها باذخ ومخيف، وكل باب يحوي خلفه أسرارًا تصعب معرفتها، في خِضَم ذلك كله يراها لأول مرة شاب صغير هو الأمير أحمد الذي لم يصدق أن هناك جمالاً إلى هذا الحد، وسرعان ما ضمها إلى نسائه وغيّر اسمها لتكون “ماه بيكر” الذي يعني حرفيًا “وجه القمر”.

حتى تلك اللحظة لم تكن وجه القمر سوى جارية أبهرت الأمير، لكن الرجل الذي قلق من تزايد دور الحرملك أصبح يهوى الذهاب إليه، ليراها ويستمع لأحاديثها وقصصها، إذ كان من ضمن أساسيات تربية الجواري تعلم السرد القصصي لتسلية سلاطين الترك، وما هو إلا وقت قصير حتى وقع الأمير أحمد في غرام أناستاسيا، وبات حديث قصور الحكم، ومادةً للتندر بين النساء داخل غرف الحرملك.

المؤرخ البريطاني فيليب مانسيل يصف في كتابه “القسطنطينية – المدينة التي اشتهاها العالم”، بأن السلطان أحمد الأول كان مهووسا بحب جاريته أناستاسيا، رغم الإغراءات المتوافرة والضغط من والدته “هاندان” لهجرها، خاصة أن السلطان كان متزوجًا من ماه فيروز التي قضت نحبها في سن مبكرة ضمن ظروف غامضة.

لم يكترث السلطان العاشق بأي ضغوط، ظل وراء قلبه الذي تعلّق بوجه القمر فباتت قمره وشمسه وقضى في الحرملك أيامًا لا يريد مفارقتها، حتى انتهى الأمر في وقت قصير بإعلان أناستاسيا اعتناق الإسلام ثم زواجها من الأمير أحمد الذي أصبح سلطانا وأصبحت هي السلطانة.

ورغم أن الروايات التاريخية تشير إلى أن السلطان أحمد الأول كان صادقًا في حبه وأنه من سلاطين الترك القلائل الذين كانوا ذوي علاقات حب أصيلة، توضح مصادر تاريخية أخرى أن أناستاسيا التي أصبح اسمها “كوسم” بعد أن تزوجت من السلطان، لم تكن بهذا النقاء، فالمؤرخ التركي يلماز أوزتونا يصف كوسم بأنها كانت امرأة ذكية إلى درجة استثنائية، لكنها أيضًا كانت ماكرة ومراوغة وأستاذة في صنع خطط سياسية ومؤامرات متعددة الوجوه، ومؤثرة ومقعنة في كلامها وقد استرضت الشعب كثيرًا لتحقيق أطماعها.

 

لم يكن الأمر من جانب أنستاسيا حبًّا خالصًا، لكنها تربَّعت على قلب السلطان العثماني أحمد الأول وفقًا لمؤرخين، بسبب ميزتين، الجمال الباهر ورجاحة العقل وهو أمر ندر أن يوجد في سيدة واحدة داخل حرملك قصور آل عثمان، أما المؤرخة الفرنسية مادلين إنجليك بواسون (1684-1770) ميلادي، فوصفت قصة الحب تلك في كتابها المعنون بـ”طرائف أو التاريخ السري للبيت العثماني” أنها علاقة أشبه بعاطفة جمعت بين طفلين نشأ وترعرعا سويًا.

تميزت الفاتنة الجميلة بالدهاء والمراوغة وصنع الخطط السياسية والمكائد.

أنجبت كوسم من السلطان أحمد الأول مراد الرابع الذي تولى العرش العثماني لاحقًا، لكن حتى عام 1617 ميلاي، لم يتعدَّ دور كوسم سلطان في شؤون الحكم سوى المشورة والتدخل بحدود في أمور الدولة، فهي ما تزال في قصر الحكم العثماني حبيبة السلطان وزوجته وأم ولي عهده.

لكن في عام 1617 ميلادي توفى السلطان أحمد الأول في عمر السابعة والعشرين، وبرحيله كانت كوسم سلطان تستعد لدور آخر أقوى تأثيرًا، دور جعلها تتربع على عرش السلطنة العثمانية لمدة ربع قرن استطاعت خلالها أن تُحكم قبضتها على كل شؤون الحكم بنحوٍ غير مسبوق.

فالحبيبة سرعان ما تغير وجهها، ومنذ دخولها قصر الحكم كانت جاهلة بمعالمه، حتى أصبحت الآن السلطانة الوالدة، أهم منصب داخل الدولة العثمانية بحسب بروتوكلات بني عثمان، ولم يكن ينقص كوسم أي مهارة، فبمجرد أن تولى مراد الرابع ابنها الحكم (1623-1640) ميلادي، انطلقت تنسج علاقات قوية مع أهم مؤسسات الدولة العثمانية على رأسها مؤسسة الصدر الأعظم وشيخ الإسلام، بالإضافة إلى لوبي الأغوات، ومن يعارضها تُحرض السلطان مراد الرابع عليه حتى يعزله من منصبه، وشيئًا فشيئًا عرف الطامعون في المناصب أن الطريق يبدأ من كوسم سلطان وبهذا توفّر تحت يديها أهم قادة الدولة العثمانية الذين دانوا لها بالولاء.

تحكمت في الدولة العثمانية لمدة ربع قرن خلال عصر نجليها وحفيدها.

على الجانب الآخر عملت كوسم سلطان على خلق قاعدة شعبية لها من خلال مؤسسات خيرية أنفقت فيها بعض أموالها، وفيما يتعلق بأموال كوسم سلطان يشير مؤرخون إلى أنها جمعت ثروة فاقت باشاوات الدولة العثمانية واستولت على الكثير من الأراضي، وحين تُوفِّيت آلت كل تلك الأموال إلى خزينة الدولة العثمانية.

واستمرت الأمور هكذا حتى توفى مراد الرابع الذي كانت كوسم سلطان نائبته الرسمية، وأكملت مسيرتها في عهد ابنها الثاني إبراهيم الأول (1640-1648) ميلادي أيضًا.

لكن الأمور تغيرت قليلًا بتولي حفيدها محمد الرابع الحكم (1648-1687) ميلادي، ففي الوقت الذي كانت فيه كوسم سلطان ما تزال مُتحكمة في كل شيء في الدولة العثمانية من تعيين الولاة إلى الصدر الأعظم، وأحيانًا إرسال حملات عسكرية، كانت هناك سلطانة أم جديدة هي خديجة تارخان والدة السلطان محمد الرابع.

وللدلالة على شخصية كوسم سلطان العشيقة الرقيقة التي أصبحت الحاكمة المنفردة بكل شيء فقد قررت كوسم سلطان اغتيال حفيدها محمد الرابع لأن والدته خديجة تارخان لا تُكِنّ ودًّا لها، عكس والدة حفيدها الآخر سليمان الذي أرادت له أن يتولى الحكم بعد قتل محمد الرابع.

تلك الجرائم البشعة من حفيدة لحفيدها لم تكن بالأمر الغريب على قصور بني عثمان التي شهدت مجازر الأشقاء ضد الأشقاء والآباء ضد الأبناء، فمن أجل العرش تُزهق أي روح.

عرفت خديجة تارخان والدة السلطان محمد الرابع بما يدور في عقل كوسم، فاستبقت هي الأمر واستغلت نفوذها لإقناع رئيس أغوات الحرملك باغتيال كوسم سلطان وهو ما حدث فعلا في 4 سبتمبر 1651 ميلادي حين دخل العبيد جناح كوسم سلطان وأعدموها خنقًا لتلقى حتفها وهي في سن 62 وتدفن بجانب قبر زوجها السلطان أحمد الأول في منطقة تدعى “سلطان أحمد”.

دبّرت خديجة تارخان مؤامرة اغتيال أناستاسيا بسبب الصراع على الحكم.

  1. عبد العزيز محمد الشناوي “الدولة العثمانية: دولة إسلامية مفترى عليها”، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1980م.

 

  1. يلماز أوزتونا “تاريخ الدولة العثمانية”، مؤسسة فيصل للتمويل، تركيا 1408ه/1988م.

 

  1. فيليب مانسيل “القسطنطينية – المدينة التي اشتهاها العالم”، ترجمة د. مصطفى محمد قاسم، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 2015م.

 

  1. مادام ديكوميز (مادلين أنجليك بواسون) “طرائف أو التاريخ السري للبيت العثماني” (طبعة 1724م)، ، فرنسا، يوليو 2020م.