تعذيب ممنهج خلف حفلات القصور العثمانية الباذخة

ما الأسرار التي كشفها رئيس آغاوات عبد الحميد في مذكراته؟

قبل عصر التدوين كانت الروايات تُحفظ في الصدور، يتناقلها الرواة شفهيًّا فتصل إلىى الباحث، هذه الآلية البسيطة هي من أوصلت إلينا كل كتب التراث العربية والعالمية، وتلك العملية أيضًا هي ما أثبتت أنه ليس هناك قوة على وجه الأرض تستطيع منع الحقيقة من الوصول.

الطغاة تجاهلوا تلك الحقيقة وفرضوا السريًّة خشية فضحهم، وحبسوا من سوّلت لهم أنفسهم الحديث، تمامًا مثل سلاطين الدولة العثمانية، الذين من فرط إصرارهم على فرض السرية وخشية الفضيحة لم يكتفوا بحبس من تُسول لهم أنفسهم الحديث، بل أقدموا على قتلهم فورًا، ولأن سلاطين الترك لم يفعلوا شيئًا في حياتهم سوى اللهو والجلوس في الحرملك حيث المكان المخصص لجواري وزوجات سلاطين الترك، قتلوا كل من حاول الاقتراب من هذا الجزء الغامض في قصور الحكم.

لهذا فإن مذكرات خير الدين آغا رئيس الآغاوات في زمن السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909)، التي حملت اسم “أسرار الحريم في البلاط العثماني”، وصدرت بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، تلك المذكرات تعد من أهم الكتب التي كشفت ما كان يدور في الحرملك بشكل تفصيلي، وبانوراما حقيقية لسلوك بني عثمان.

قيمة أخرى أضافها خير الدين آغا بمذكراته تلك، وهي أن معظم المصادر التاريخية التي استطاعت أن تكشف بعض ما يدور داخل قصور الدولة العثمانية التي حكمت العالم الإسلامي نحو خمسة قرون أورثته الجهل والتخلف بعد أن كان في صدارة الأمم، اعتمدت تلك المصادر على مشاهدات سريعة ومؤرخين كانوا قريبين من الأحداث ووثائق تم كشفها.

أما مذكرات خير الدين آغا فهي تمثّل لسان الضحايا أنفسهم، ممن عاشوا في ظل الاستعباد وشاهدوا بأعينهم كيف تدار الأمور في الدولة العثمانية، ناهيك أنه لم يتوقع أحدٌ من سلاطين الترك أن أحد الآغاوات سيكشف يومًا كل شيء وهذا يضاعف من أهمية تلك المذكرات.

ومن الصفحة الأولى لكتاب “أسرار الحريم في البلاط العثماني” يصحبنا خير الدين آغا لنرى الأمور كما رآها هو بعين طفل صغير ساقه حظه البائس إلى الخدمة في قصور بني عثمان في وقت السلطان عبد العزيز الأول (1830-1876)، وبعد أن تعرض للإخصاء وهو أبشع الجرائم الإنسانية التي نهى عنها الدين الإسلامي، يبدأ الطفل الصغير الذي أبهرته زخارف القصور وبذخ الهدايا التي تنتشر في كل ركن، من تلقى التعليمات التي لابد أن يخضع لها كل من عمل داخل الحرملك.

التعليمات صارمة ومن يخالفها لعله يُقتل، هكذا أوضح خير الدين آغا الذي تذكر كيف خضع في البداية للمشرفة على الحرملك السلطاني، التي أبلغته بأول قواعد العمل في الحرملك، وهي أن يكون أصما وأبكما وأعمى، ففي الحرملك يجب ألا يسمع شيئا وإذا سمع لا يتكلم، كما أنه لا يرى شيئا وإلا تعرض لعقوبة الجلد الشديد.

لكن في نظام العبودية الذي أسسه سلاطين الترك وتفنّنوا في وضع قواعده حتى بات أسوأ نظم العبودية على مر التاريخ، لم يكن الجلد مصير إفشاء الأسرار، بل يمكن الجلد بسب سؤال بسيط حتى لو كان عاديًّا، فمن قواعد العبودية التي فرضها بنو عثمان على الآغاوات أنه لا يحق لهم السؤال عن أبسط الأشياء.

وقد تعرض خير الدين آغا -حسب روايته- إلى الجلد بسبب تجرُّئِه على توجيه سؤال، كما حكى كيف أن بعض الخصيان تعرضوا لعقوبات جلد شديدة بسبب أسئلة بسيطة كأن يستفسروا عن كيفية الوصول إلى مكان لم يعرفوه بسبب حداثة عهدهم في القصور العثمانية لكن حتى ذلك لم يشفع لهم، ذلك الذي دفع خير الدين آغا لوصف الأمر بعد وفاة أكثر من آغا متأثرًا بجراحه بسبب الجلد، إن ما يحدث كان تعذيبًا ممنهجًا في ظل عدم وجود أي حماية.

خضع العبيد للتعذيب والقتل دون ذنب.

بل إنه إذا اشتكى أحد الخصيان للشرطة سوء معاملة رئيسه فإن الشرطة لا تعتد بكلامه؛ لأنه عبد فاقد الأهلية ومن ثم يُقبض على هذا العبد ويسجن بتهمة إساءة سمعة البلاط العثماني!

كما يكشف خير الدين آغا باعتباره أحد الذين عاشوا في هذا النظام الاستعبادي، أن الآغاوات ظلوا سجناء القصور العثمانية وقليل منهم من سُمح له بالخروج، وعادةً مَن يسمح لهم هم أصحاب مناصب في نظام الآغاوات الذي وضعه سلاطين الترك، وبسبب هذا السجن الطويل ارتبط عدد من الآغاوات ببعض جواري وزوجات سلاطين العثمانيين، بل إن بعض الآغاوات كانوا يغارون على هؤلاء النسوة، ويمتلئ التاريخ العثماني بكثير من التحالفات بين الآغاوات ونساء الحرملك، بل يَعُجُّ بقصص عشق زلزلت القصر العثماني نفسه.

وبالإضافة إلى منظومة العبودية التي خضع لها الآغاوات، يأخذنا خير الدين آغا في بدايات كتابه “أسرار الحريم في البلاط العثماني”، إلى وجه آخر ظل سلاطين الترك يخفونه، وهو وجه البذخ والإسراف في الوقت الذي عاني فيه المسلمون من الفقر والجوع.

ولعل المثال الأكبر على هذا البذخ وصرف أموال المسلمين، على الحفلات السلطانية في البلاط العثماني، ما كشفه خير الدين آغا أن أي حفلة سلطانية كان يسبقها تجهيزات كبيرة لعدة أيام وربما لأسابيع من أجل تجهيز ملابس الاحتفال والأموال الطائلة التي تنفق في هذا السبيل، بل إن تلك الحفلات تحولت إلى سبب لغيرة نساء القصر من بعضهن البعض، فكل واحدة كانت تحيك مؤامرة لمعرفة ماذا سترتدي غريمتها في الحفلة السلطانية حتى ترتدي مثلها أو أفضل منها حتى لا تنفرد إحداهن بإعجاب السلطان.

الحفلات السلطانية كانت عنوانًا للبذخ والمجون.

تلك المنافسة التي قد يظنّها البعض تافهة هي في الحقيقة مهمة؛ فإن إعجاب السلطان بجارية كان يعني إعطاءها مكانة خاصة بحسب بروتوكلات القصور العثمانية، بل يمكن أن تصبح تلك الجارية -كما حدث كثيرًا- زوجة للسلطان وأم أولاده الذين سيتولون العرش لاحقًا.

ويكشف كتاب خير الدين آغا تفاصيل تلك الحفلات السلطانية التي خضعت لنظم كثيرة بداية من اختيار الملابس الفخمة زاهية الألوان باهظة التكاليف، وكيف كان يستعد العازفون والراقصات غير المسلمات حسب البرتوكولات العثمانية، بالإضافة إلى أوامر السلطان العثماني التي تتعلق بدعوة ضيوف الحفلات، ومواعيد افتتاح الحفلة وانتهائها، وكانت تلك الحفلات -رغم تكلفتها الباهظة- تتكرر بشكل دوري.

أما عن العالم السري لحريم السلطان، فيُدخلنا خير الدين آغا إليه ليكشف حقيقة من زعموا الحكم باسم الإسلام، واتضح أنهم ليسوا إلا رجالا لهثوا وراء النساء وقضوا لياليهم بين الجواري اللاتي سلبن عقول بني عثمان، وليس أدل على ذلك من عثمان باشا الذي ترك زوجته في ليلة الزفاف ليقضي ليلته بين الجواري بعد أن أمرهن بأن يرقصن عرايا حوله وهو في حالة غريبة من النشوة مما أثار غضب زوجته، لكن هذا التصرف لم يكن غريبًا عن سلاطين الترك أنفسهم إذ هم من ابتدعوا حفلات الاستحمام التي يرقص فيها الجواري دون ملابس حول السلطان في حوض كبير، وهذا السلوك الشاذ ليس إلا مثالاً على منظومة من الأفعال الشاذة التي عُرف بها سلاطين الدولة العثمانية.

ترك سلاطين العثمانيين زوجاتهم وقضوا معظم أوقاتهم بين الجواري.

  1. مذكرات خير الدين آغا (رئيس الأغوات في عهد السلطان عبدالحميد الثاني)، أسرار الحرم في البلاط العثماني (بيروت: مكتبة السائح، 2016).

في مذكرات رئيس الآغوات: زوجة مراد الخامس استعانت بعشيقها لرد اعتبارها

الانتقام داخل القصر العثماني!

لم يكن المؤرخون على خطأ حين اعتبروا مذكرات خير الدين آغا، رئيس الآغاوات في عصر السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (1876-1909م)، بمنزلة كنز ثمين ووثيقة تاريخية فاصلة.

فالمذكرات لم تكشف فقط ما خفي عن أعين الذين حاولوا فك طلاسم القصور العثمانية التي أحاطها سلاطين الترك بالسرية والغموض، وقتلوا كل من حاول أن يعرف شيئًا، لكنها مذكرات رصدت ما خلف الأبواب الموصدة من قصص غرام بين سلاطين الترك وبعض الجواري، بل كشفت أن إحدى القصص كادت أن تتسبب في اغتيال السلطان مراد الخامس وزلزلت البيت العثماني بالكامل.

ويروي لنا خير الدين آغا، الحكاية من أولها، فيقول بدأت المؤامرة في عهد السلطان عبد العزيز الأول، الذي امتد حكمه من سنة 1830 حتى 1876، وكان ابنه الأمير مراد الذي سيخْلُفه سلطانًا من بعده وهو مراد الخامس.

أما تفاصيل المؤامرة فتعود إلى أن الأمير مراد كان مولعًا بالنساء والرقص الغربي، وهو ما جعله دائم التردد على ملهى ـ”أوريان كلوب” أحد الملاهي الليلية في ذلك الوقت ، و التقى هناك بامرأة بلجيكية تُدعى نيلي هوبكنس، وهي من العاملات في السفارة البلجيكية وتعمل في مهنة الصحافة، وكانت على جانب كبير من الجمال والجاذبية.

ما حكاية "البلجيكية" التي جعلت مراد الخامس يترك زوجته؟

وكعادة آل عثمان، لهث الأمير وراء تلك المرأة التي أوقعته في شباكها وخرج الأمر عن طي الكتمان فتبادلته الألسنة وبات حديث الناس العلاقة الجديدة بين الأمير العثماني والفتاة الأجنبية، وهو ما وصل في النهاية إلى آذان “برتو سلطان” زوجة الأمير مراد في ذلك الوقت.

ولم تكن الزوجة أفضل من زوجها، وكما تقول الحكمة العربية “الطيور على أشكالها تقع”. فتقدمت آنذاك برتو سلطان في البداية بالتماس إلى السلطان عبد العزيز لكبح جماح ابنه، لكنه لم يعبأ بهذا الالتماس، خاصة أن السلطان عبد العزيز الأول لم يكنّ حبًا لابنه الأمير مراد بل – كما يروي خير الدين آغا- إنه رغب في إذلال ابنه ليتمكن من الحيلولة دون وصوله إلى العرش.

هذا الرفض من قبل السلطان عبد العزيز، دفع برتو سلطان، إلى الاستعانة بعشيقها القديم، وهو حسن الجركسي، الضابط المرموق بالحرس العثماني، وقد أحب هذا الرجل برتو سلطان قبل زواجها من الأمير مراد، لكنها رفضته.

وكانت فكرة برتو سلطان التخلص من عشيقة زوجها، بأن يقوم حسن الجركسي بإيقاع تلك الفتاة في حبه لتهجر الأمير مراد، وبالفعل استدعت أحد الآغاوات وطلبت منه أن يدعو حسن بك رغم أن الاختلاط بالرجال الغرباء محظور على نساء القصر وقد يتعرض المخالف للقوانين للقتل.

لكن برتو سلطان، لم تكترث وأدارت خيوط المؤامرة من وراء السلطان العثماني عبد العزيز، وزوجها الأمير مراد، وبالفعل قابلته في منتصف الليل مستخدمة أرخص الحيل النسائية لإقناعه، فتدللت عليه ووعدته بما يريد إن تحقق طلبها، وكانت برتو سلطان تُدرك أن حسن الجركسي لا يريد غيرها.

باتت الكرة الآن في ملعب حسن الجركسي، يعلم أنه يتحدى السلطان العثماني عبد العزيز، ويُدرك أنه يطمع في زوجة الأمير مراد، لكنه تجاهل كل ذلك من أجل الغنيمة الكبرى ونيل برتو سلطان، تلك التصرفات تُعطي صورة أيضًا عن أنواع الرجال الذين كان يعتمد العثمانيون عليهم في شؤون الحكم والجيش.

بدأ حسن الجركسي في رسم خطته، فارتاد نادي “أوريان كلوب” ولفت نظره جمال نيلي هوبكنس، واستطاع أن يوقعها في حبه حتى غادرت معه القصر الكبير الذي أعدّه لها الأمير مراد.

جن جنون الأمير مراد حين عرف أن الفتاة تركته، بات لا يستطيع قضاء يوم دون أن يراها تاركًا كل ما خُوِّل إليه من أمور الحكم وأرسل جواسيسه لمعرفة حقيقة هذا الهجر، حتى عرف أنها تُسَاكن حسن بك الجركسي وهنا وقع الأمير مراد في حيرة كبيرة؛ لأنه يُدرك أي مكانة يبلغها حسن الجركسي عند والده السلطان عبد العزيز، وحتى حين عرف الأخير بالأمر سرّه ذلك بعد أن تفشت سيرة الأمير مراد والفتاة الأجنبية وبدأت تنال من هيبة آل عثمان، فما كان من السلطان عبد العزيز إلا أن يمنح لقب باشا لحسن الجركسي، كدلالة على رضاه وفرحه بما فعل.

لم يستسلم الأمير مراد لتلك النتيجة، أما قصر الحكم فلم يعد يشغله إلا قصة الأمير والعشيقة، فالجواري يتحدثن، والسلطان العثماني عبد العزيز مشغول بمتابعة ولده، والأمير مراد يبحث عن الانتقام، أما الرعية والقرارات المهمة وحياة الناس فلا تساوي شيئًا أمام تلك الرغبات الدنيئة.

وجاء أول تحرك للأمير مراد باستدعاء ثلاثة من المقربين إليه وفوضهم للانتقام من حسن الجركسي الذي أصبح باشا، أما الجركسي نفسه فقد حاول الاتصال مرة ثانية ببرتو سلطان لكي تمكّنه من نفسها كما وعدته، لكنها تخلصت منه وأخبرته عن طريق مندوب أنه أخذ المكافأة بمنحه لقب الباشاوية ولن تقدم له أكثر من ذلك.

وحين تلقى حسن الجركسي هذا الرد هدد برتو سلطان بكشف كل شيء إن لم تقبل الاجتماع به، وسيعيد الفتاة البلجيكية إلى زوجها، وكان من يحمل الرسائل بينهما بهرام آغا، ولم تجد برتو سلطان مفرًّا من المقابلة وأبلغت حسن باشا لكي يعد العدة دون أن يشعر بها أحد.

وكلصوص الليل تخفت برتو سلطان، لتقابل عشيقها في بيته، وهو الوقت الذي صادف تحرك الرجال الثلاثة الذين أمرهم الأمير مراد بالانتقام من حسن الجركسي وعشيقته.

كان حسن باشا يستعد لقضاء سهرة عمره، هيأ كل شيء وصرف الخدم، وفي نفس التوقيت كان جواسيس الأمير مراد يترقبون وصول الفتاة البلجيكية نيلي هوبكنس لينقضوا عليها، وحين وصلت عربة السلطانة برتو سلطان يقودها بهرام آغا، وجد الجواسيس عربة مغلقة بها امرأة فظنوها الفتاة البلجيكية فوثبوا على بهرام أغا وقتلوه، وجرحوا برتو سلطان جرحًا غائرًا وحاولوا جر العربة لكن الحظ خانهم حين وقع أحد الجوادين فامتنع سير العربة وتعالى صراخ برتو سلطان، فشعر الجواسيس بأن أمرهم انكشف وخافوا أن يداهمهم حسن باشا بخدمه، فحاولوا الهروب.

جواسيس السلطان قتلوا زوجته خطأً بدلاً عن العشيقة.

أما حسن باشا فحين سمع هذا الصراخ أسرع ليُفَاجَأ بمشهد رجال يهاجمون حبيبته وحاول مطاردتهم لكنهم هربوا، فانشغل بحال برتو سلطان التي وجدها فاقدة الوعي، فحملها على العربة وسار بها لعيادة الدكتور حسن عوني، من أطباء القصر السلطاني، واختلق حجة أن مجموعة من المجرمين هاجموا إحدى أميرات البيت المالك وصادف مروره من هناك فهرول إلى إنقاذها لكنها في حالة احتضار.

لكن الطبيب حسن عوني ما إن أبصرها حتى عرف أنها زوجة الأمير مراد فزادت دهشته وحاول إنقاذها لكن لم يكن هناك فائدة وقبل موتها انتفضت لتقول “حسن باشا لماذا قتلتني” وكانت تقصد الجركسي الذي ظنّت أنه من أرسل إليها هؤلاء الرجال انتقامًا من عدم الوفاء بعهدها.

سمع الطبيب حسن عوني تلك الكلمات الوحيدة التي ماتت بعدها برتو سلطان، أما حسن الجركسي حين رأى وفاة حبيبته لم يستطع التحدث بكلمة وبعد محاولات لدفعه للحديث قال: لم أقصد الأميرة بل زوجها، وظننته في العربة فهاجمتها وقد آثر ألا يلطخ سمعتها في مقابل إلصاق تلك التهمة بنفسه، وهي تهمة عقوبتها الشنق.

وأكمل حسن الجركسي أنه أراد قتل الأمير مراد لأنه حرمه من عشيقته وكان يقصد الفتاة البلجيكية نيللي هوبكنسي، ليتم احتجازه، وجاء السلطان العثماني عبد العزيز مهرولًا لمعرفة تلك المؤامرة التي هددت أركان الحكم العثماني، ووصلت إلى حد محاولة اغتيال أمير عثماني سيصبح بعد سنوات قليلة سلطانًا وحاكمًا على البلاد، واعترف حسن الجركسي للسلطان عبد العزيز بأنه حاول قتل مراد بسبب الفتاة البلجيكية لكنه لا يتآمر على آل عثمان.

وأمام تلك الفضيحة أمر السلطان العثماني عبد العزيز بكتمان كل ما حدث واستدعى اسماعيل شوقي باشا أحد قادته وأمره بالتخلص من حسن باشا وقد نفذ هذا الأمر وقتل الرجل، أما الفتاة البلجيكية نيللي هوبكنسي فأبعدت خارج البلاد بناء على أوامر السلطان.

حسن الجركسي قُتل قبل أن يقضي على مراد الخامس.

  1. مذكرات خير الدين آغا (رئيس الأغوات في عهد السلطان عبدالحميد الثاني)، أسرار الحرم في البلاط العثماني (بيروت: مكتبة السائح، 2016).
تشغيل الفيديو

خير الدين أغا: نفى السلطان حبيب زوجته

فريحة هانم..

جارية ذهبت بعقل السلطان عبد العزيز

هي قصة الظلم المتكررة في كل زمان ومكان، فتاة بريئة وهبها الله الجمال، تحلم بمستقبل مشرق وقلب نقي وفارس أبيض يخطفها، فجأة يتحول كل شيء لكابوس، تجد نفسها في يد ظالم لا يهمّه سوى التهام لحمها وسجنها في قفص حتى لا يراها غيره، وقتها يتحوّل الجمال إلى نقمة، ويكتب التاريخ صفحة جديدة من صفحات ظلم الجبابرة.

ومنذ ظهور سلاطين العثمانيين وتحكّمهم في البلاد والعباد، لم يتوقف التاريخ عن كتابة قصص الظلم التي ملأت مجلدات، واستعبادهم الناس الذي بات مثلًا على مدى فجور بني عثمان.

في الفصل الثاني من مذكرات خير الدين آغا، رئيس الآغاوات في عصر السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909م)، يروي خير الدين آغا، قصة ظلم جديدة بطلها هذه المرة السلطان عبد العزيز الأول (1830-1876).

لم يكن عبد العزيز الأول مختلفًا عن أجدداه، فكما وقع سليمان القانوني في غرام “روكسلانة” حتى ترك الجيوش وجلس بجوارها يكتب شعرًا، تكرر ذلك مع السلطان عبد العزيز الأول الذي فُتن بالجارية فريحة هانم رغم ارتباطها بعلاقة عاطفية مع شخص يدعى حسن بك قبل أن يتدخل عبد العزيز الأول وينفي هذا العاشق إلى اليمن للانفراد بحيبته.

“لا حب بدون حرية”، قاعدة تجاهلها سلاطين الترك، فالفتاة الجميلة التي عشقت وحلمت ببيت صغير وأسرة، وجدت نفسها فجأة داخل قصر الحكم بعد أن فارقها حبيبها جبرًا، فالألوان كئيبة والسجن مهما اتسع فإنه تضيق به الصدور، وبحسب البروتوكلات العثمانية الاستعبادية باتت فريحة هانم ضمن ممتلكات عبد العزيز الأول، الذي رغم كل نفوذه وسلطانه كان يُدرك من داخله أن تلك المرأة لا تكنّ له حبًّا، وكأي ظالم يُدرك عجزه أمام إرادة القلوب، تحول حبه إلى غيرة جنونيةٍ وتشككٍ دائمٍ، وكأنه يقول: إن لم تكوني لي فلستِ لغيري.

يدخلنا خير الدين آغا إلى تفاصيل تلك العلاقة التي كان هو أحد أطرافها بعد ذلك، ويقول إنه في بداية عهده بالقصور العثمانية كان يحمل رسالة إلى فريحة هانم وفجأة رأى رجلاً مهيبًا يصرخ بصوتٍ عالٍ: “أين الرجل”، وفريحة تؤكد أنه ليس هناك رجل، ووجّه الرجل سؤاله إلى خير الدين محذرًا إياه من الكذب، ومُصِّرًا على أنه كان هناك رجل غريب وأُخفي عنه، وأخبره خير الدين أنه لم ير رجلاً، وأنه رسول يحمل رسالة إلى فريحة هانم.

وهنا أدرك خير الدين أنه أمام السلطان عبد العزيز بنفسه؛ إذ لم تُتَح له فرصة رؤيته من قبل، وعرف خير الدين أن السلطان عبد العزيز يغار على فريحة هانم من حبيبها السابق، ودعته غيرته إلى أن يتخيل أنها تستقبل حبيبها السابق في مخدعها السلطاني!

ولم يرتح السلطان عبد العزيز إلا بعد أن أرسل رسالة إلى الوالي العثماني في اليمن ليتأكد أن غريمه لا زال في اليمن، إذ إن السلطان عبد العزيز كان قد أبعَد الرجل إلى اليمن حتى تنساه فريحة هانم.

أصيب عبد العزيز بالهلوسة، وتخيل الرجال مع حبيبته.

لكن هذا المشهد السينمائي لم يكن هو الوحيد الذي يلخص قصة عبد العزيز الأول مع فريحة هانم، إذ يكشف لنا خير الدين آغا في مذكراته “أسرار الحريم في البلاط العثماني”، إنه بعد تلك الواقعة أراد عبد العزيز الأول إرضاء فريحة هانم فأقام لها حفلة سلطانية من تلك الحفلات باهظة التكاليف إذ استنزفت موارد المسلمين، ودعا إلى الحفلة كثيرًا من الشخصيات العامة، وبحسب تعبير خير الدين آغا، فإن هدف الحفلة ليس إرضاء لفريحة خانم فقط بل “إجبار كل نساء القصر على تقديم احترامهن لها”.

وكحكايات ألف ليلة وليلة، في نفس الحفلة تحدث مفاجأة أخرى بطلها الشك، فعين السلطان عبد العزيز الأول التي لا تغفل فريحة هانم، إذ لاحظ السلطان أثناء الحفلة كما لاحظ غيرُه من مئات الراقصات والضيوف أن “هانم” لا ترتدي ميداليتها التي لا تفارق عنقها ليل نهار، وفجأة غلت الدماء في العروق وانتفض السلطان كالمجنون يهذي صامتًا بأن محبوبته منحت تلك الهدية لحسن بك المنفي في هذا الوقت!

وتتصاعد الأحداث أكثر فأكثر، ويُقلب القصر العثماني رأسًا على عقب، إذ ترك وقتها أمور الرعية والحكم والجيوش وتأمين البلاد، فالأهم عنده في تلك اللحظة العثور على الميدالية حتى يبرد قلبه ، حتى لا يشعر أن هناك من صفعه، وهنا يأتي دور خير الدين آغا الذي ربطته علاقة قوية مع فريحة هانم إذ وجدت فيه آغا طيبًا، وأثناء عملية البحث التي كُلف بها كل العاملين بالقصر، وجد خير الدين آغا الميدالية لكن بداخلها صورة حسن بك حبيبها السابق، هكذا يعيش الحب رغمًا عن ظلم سلاطين الترك.

احتفظت فريحة هانم بصورة حبيبها رغم حب السلطان لها.

لكن الأزمة باتت أصعب وشكوك السلطان بأن هناك من صفعه تأكدت، وهنا تتدخل فريحة هانم وتعقد صفقة مع خير الدين آغا باستبدال الميدالية بأخرى ليس عليها صورة حسن بك وهو ما حدث وجرى ترتيب العثور على الميدالية مرة أخرى حتى يظهر الأمر صدفة أمام العاملين بالقصر.

ونجحت الخطة التي نفذها خير الدين آغا وصدق السلطان عبد العزيز الأول الأمر حتى اعتذر لفريحة هانم وحاول استرضاءها بكل الطرق ووعدها بضرب كل أعدائها بشدة طالبا منها تقرير العقوبة التي تريدها.

فما كشفه خير الدين آغا في مذكراته ليس أكثر من نموذج للحياة داخل القصور العثمانية، سلطان مُصاب بالشك الجنوني، جارية لا تحب سلطانها وتحيك المؤامراة للنجاة بنفسها بعد أن حُرمت من حبيبها وسجنت في قصور بني عثمان، وآغاوات يٌستخدمون في تنفيذ المؤامرات، وهذا النموذج تكرر كثيرًا باختلاف الأسماء والتفاصيل لكن الأكيد أن الكراهية سادت قصور بني عثمان والخداع كان مذهب من في القصر أما الرعايا فليسوا في الحسبان مطلقًا.

تحالفت فريحة هانم مع خير الدين آغا لخداع السلطان عبد العزيز.

  1. مذكرات خير الدين آغا (رئيس الآغوات في عهد السلطان عبدالحميد الثاني)، أسرار الحرم في البلاط العثماني (بيروت: مكتبة السائح، 2016).