بعد أن نقض القانوني عهود والده معهم

ضرب العثمانيون الوحدة الكُرديَّة بسياسة:

فَرِّق تسُد

شكلت الجغرافيا والتاريخ موطن الأكراد وصبغت ملامحه السياسية عبر التاريخ، فموقع استيطان الأكراد وتضاريسه الجبلية وعدم محدودية المكان وسعة انتشارهم وتوزعهم جغرافيًّا أسهم بدور كبير في جعلهم على مفترق طرق في العلاقة مع الدول الكبرى المحيطة بهم.

ولعل تموضع كردستان في المنطقة الواقعة بين الدولة الصفوية والدولة العثمانية أدخل الأكراد في أتون معترك الصراع العالمي أو بالأحرى جعلهم بين فَكَّي كماشة لا مهرب ولا مناص منها، فعلى سبيل المثال: عندما أصبحت الدولة الصفوية مصدر تهديد للدولة العثمانية منذ القرن الخامس عشر الميلادي، كان موطن الأكراد ساحة للصراع العسكري بين الدولتين. فتشير المصادر التاريخية إلى أن الدولة العثمانية أعلنت الحرب على الدولة الصفوية إثر توسعها على حساب دولة الخروف الأبيض الآق قويونلو التركمانية” وما تبع ذلك من مكتسبات وتوسع في المناطق الكردية التي اعتبرها الشاه إسماعيل الصفوي (1501-1524) مجالاً حيويًّا لدولته، فخضعت له عدة إمارات كردية مثل إمارة “حكاري” وغيرها من الإمارات الكردية، وسلم إدارتها للقزلباش عوضًا عن الأكراد، وأجبرهم على ترك المذهب السني واعتناق المذهب الإثنى عشري، وذلك في إطار سياسة مذهبية شاملة تم اتباعها في عموم الأراضي التي سيطر عليها الصفويون، واستخدمت في سبيل ذلك القمع والوحشية المفرطة وإرهاب السكان، وتسخير الإمكانيات المادية والعسكرية للإمارات الكردية لمصلحة الدولة الصفوية، وفي إطار تلك السياسات التوسعية الصفوية في كردستان وآسيا الصغرى أدرك العثمانيون خطورة التوسع الصفوي في حدود دولتهم الشرقية. ولذلك كانت الحرب بين الدولتين.

استخدم العثمانيون سياسة الخديعة مع الكُرد وعملوا على إخضاعهم.

بعدما أمن السلطان سليم الأول (1512-1520) جانب أوروبا من الناحية العسكرية، أعلن الحرب ضد الدولة الصفوية وزحف بجيشه سنة (1514) إلى الأناضول الشرقية، حتى وصل إلى مدينة “جرميك” وهناك أودع  للأمير الكردي مصطفى بك عددًا من قادة الجناح الأيسر لجيشه، ومصطفى بك المذكور أصبح فيما بعد وزيرًا في الدولة العثمانية، وحاول الطرفان العثماني والصفوي استمالة الأمراء الأكراد إلى جانبهم، إلا أن جهود الشيخ إدريس البدليسي قد أثمرت بأن أقنع عددًا من أمراء الإمارات الكردية بأنهم لن يفقدوا استقلالهم إذا ما خضعوا للعثمانيين، فمال معظمهم إلى المعسكر العثماني. هناك التقى الجيشان العثماني والصفوي في (23-8-1514) في سهل جالديران في الشمال الشرقي من بحيرة “وان”، وانتهت المعركة بهزيمة الصفويين هزيمة منكرة، وكان للأكراد دور كبير بمشاركتهم في تلك المعركة، حيث شارك حوالي ستة عشر أميرًا من الأمراء الأكراد، وقد استمر خضوع الإمارات الكردية للدولة العثمانية حتى عهد السلطان سليمان القانوني (1520-1566) وحافظت تلك الإمارات على استقلالها الذاتي وتعيين القائمين والمتصرفين والإداريين عليها من الأكراد ذاتهم. ويذكر المؤرخ الكردي الأمير شرف خان البدليسي في كتابه “الشرفنامة” بأن الإمارات الكردية في العصر العثماني كانت تحكم نفسها بنفسها فالضفة اليسرى من نهر الفرات الغربي وجميع مناطق الضفة الشرقية من نهر “مراد صو” أحد فروع الفرات كانت تحت حكم الإمارات الكردية. وكان الأكراد يقدمون الطاعة والهدايا للسلطان ويقومون بالأعمال التي يطلبها السلاطين منهم ويقدمون الجيوش الاحتياطية عندما يكونون بحاجة إليها.

ورغم استقلال تلك الإمارات وارتباطها بالسلطات العثمانية إلا أنها كانت تقوم بحركات ثورية ضد العثمانيين. وكانت تنجح السلطات العثمانية في حملاتها العسكرية ضد الثوار الأكراد بإيجاد بعض العملاء لضرب الأكراد فيما بينهم من خلال اتباع سياسة فَرِّق تسد. وهي سياسة ناجعة استخدمها القانوني مع بعض الإمارات الكردية للحد من طموحاتهم وحركاتهم المضادة للسلطات العثمانية، فعلى سبيل المثال لا الحصر ما فعله مع أحد أمراء بابان الكردية، إذ ظهر له منافسٌ مدعومٌ من العثمانيين بعد فترة بسيطة من تنصيبه في الإمارة. ونتج عن تلك السياسة أن عين القانوني أول والٍ تركي في عهده على كردستان، ليقضي على حكم الأمراء الأكراد وعلى إماراتهم المختلفة بعدما كانوا يتوارثون إدارة إماراتهم أبًا عن جد.

حين احتاج العثمانيون الأكراد منحوهم الاستقلال ثم انقلبوا عليهم.

  1. إبراهيم الداقوقي، أكراد تركيا، ط2 (إربيل: منشورات ئاراس ، 2008).

 

  1. أحمد عبد الرحيم مصطفى، في أصول التاريخ العثماني (القاهرة: دار الشروق، 1982).

 

  1. باسيلي نيكيتين، الكرد دراسة سوسيولوجية وتاريخية، ترجمة: نوري طالباني، ط2 (بيروت: دار الساقي، 2001).

 

  1. سعدي عثمان هروتي، كردستان والإمبراطورية العثمانية دراسة في نفوذ سياسة الهيمنة العثمانية (إربيل: مؤسسة مو كرياني للبحوث والنشر، 2008).

 

  1. كاميران عبد الصمد الدوسكي، كردستان في العهد العثماني (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2006).

مراد الثالث كرر خيانتهم مع الصفويين

استخدم العثمانيون مع الكُرد سياسة

"وخز الإبر"

انتهك الأتراك العثمانيون حقوق الشعب الكردي، ولم يقف هذا الانتهاك عند احتلال أراضيهم واستغلالهم في تقوية دولتهم ثم الانقلاب عليهم والتنكيل بهم، بل تعدى إلى درجة التضحية بحلفاء الأمس وتركهم لوحدهم يواجهون آلة الإرهاب الصفوية، خصوصًا في عهد العثماني مراد الثالث. ولعل الجغرافيا وضعت الشعب الكردي بين قوتين استعماريتين حولت أرضهم إلى مسرح عمليات حربية أسوأ نتائجها تدمير العديد من المدن والقرى الكردية.

وعبّر عماد عبد السلام رؤوف في كتابه “دراسات وثائقية في تاريخ الكرد الحديث وحضارتهم” عن الفترة المهمة في تاريخ العلاقات الثلاثية بين العثمانيين والصفويين والأكراد بقوله: “فهذه المرحلة المبكرة من تاريخ بابان، ظلت بعيدة عن تسجيل المؤرخين واهتمام الكتاب والرحالين، ولولا ما نقرؤه في الشرفنامه لطوى النسيان مرحلة تاريخية تقدر بنحو ثلاثة قرون في أقل تقدير”.

وبالرجوع إلى الوثائق التاريخية المعتمدة، نجد أن العثمانيين والأكراد دخلوا في تحالفات براجماتية فرضتها السياقات الجيوستراتيجية للمرحلة وذلك بغرض دفع هجمات الصفويين من جهة، وأيضا رغبة سلاطين آل عثمان في تقوية الجبهة الداخلية في ظل تمرد التركمان ورفضهم الخضوع لمنطق الدولة من جهة أخرى. وقد استطاع العثمانيون حسم حربهم ضد الصفويين في معركة جالديران سنة (1514) بفضل المساندة القوية للأكراد الذين حاربوا إلى جانبهم، غير أن هؤلاء تنكروا إلى كل هذه التضحيات وقسّموا كردستان بينهم وبين الصفويين.

تعاطى العثمانيون ببرود مع محنة الأكراد في مواجهة وحشية الصفويين.

من جانب آخر، رأى الأكراد في العثمانيين خير حليف ضد أطماع تركمان الآق قوينلو (الخروف الأبيض، السنة) وأيضا القرة قوينلو (الخروف الأسود، الشيعة)، اللذان كانا يتحكمان في مساحات مهمة من أراضي كردستان، بل عبر زعيم الآق قوينلو، آنذاك حسن الطويل عن رغبته في تتريك جميع القبائل الكردية وتوحيد التركمان تحت مظلة سياسية واحدة عاصمتها ديار بكر. 

في هذا السياق، كان من حسنات التنسيق العثماني/الكردي اقتناع سلاطين الدولة العثمانية بالسماح للأكراد بتسيير شؤونهم بنوع من الاستقلالية عن الإدارة المركزية، وهو ما كان يمثل أنموذجًا متقدمًا للحكم الذاتي الذي سيظل مطلبًا ثابتًا للأكراد إلى يومنا هذا، وهو المطلب الذي يواجه، منذ عقود طويلة، برفض قاطع من حكام أنقرة الذين يريدون إخضاع الكرد بقوة الحديد والنار، بعيدًا عن أي انفتاح أو رغبة لتلبية مطالب الأكراد المشروعة بالنظر إلى خصوصية الشخصية والثقافة الكرديتين.

ويمكن القول بأن حالة “السلام الهش” التي ميزت تعامل بعض سلاطين الأتراك مع الأكراد ستعرف نهايتها مع تولي السلطان العثماني مراد الثالث للحكم سنة (1574)، وهو ما شكل قطيعة مع مرحلة التعايش العثماني/الكردي رغم الأهمية الاستراتيجية لمنطقة كردستان. وهنا نجد أوليا جلبي يقول في كتابه “رحلة إلى مصر والسودان والحبشة” ما نصه: “وأهل الولايات يسمون الحاكم منهم الخان… ولولا وجود كردستان كسد بين آل عثمان والفرس لما تحقق الاستقرار لآل عثمان لأن الفرس خصم عتي شجاع”.

الجدير بالذكر أن سياسة السلطان مراد الثالث جاءت لتكمل فصول المعاناة التي عاشها الأكراد، قبل ذلك، في مواجهة دموية إسماعيل الصفوي الذي نكل بالأكراد وكان يرى فيهم عدوًا عقديًا لا يؤمن جانبه. وحول هذه النقطة يقول محمد أمين زكي في كتابه “خلاصة تاريخ الكرد وكردستان من أقدم العصور التاريخية حتى الآن”: “وكان عهد الشاه إسماعيل وسيره في الكرد، مثل عهد تراكمة الآق قوينلية عهد ظلم وعدوان شديدين، لأن الكرد كانوا من أهل السنة فكان لا يأمن جانبهم ولا يثق بهم، بخلاف التركمان الذين كانوا من غلاة الشيعة والرافضة فلهذا لم يكن يدع فرصة من غير أن ينتهزها ويلحق فيها بالأكراد أذى كبيرًا”.

في مقابل ذلك، يبدو أن العثمانيين تخوفوا من تحقيق الأكراد استقلاليةً مطلقة عن إسطنبول في ظل الأوضاع السياسية التي كانت تتجه نحو “لا مركزية” موَسَّعة في تعامل الأكراد مع حكم سلاطين آل عثمان، خاصة أن الأكراد أثبتوا كفاءة قتالية عالية في حروب العثمانيين وعلى رأسها حروب ضم جزيرة قبرص، حيث تشير الروايات إلى أنهم كانوا يشكلون مركز ثقل الجيش العثماني. هذا الطرح يؤكده عماد عبد السلام بالقول: “إن وجود والي شهرزور بين أكبر قادة هذه الحملة يدل على أن الأمراء الكرد ومقاتليهم كانوا يعملون تحت إمرته، وأنهم كانوا مركز الثقل الرئيس ليس في فتح الجزيرة (يقصد جزيرة قبرص)، وإنما في المحافظة عليها حينما أصبح واليًا عليها دون سائر القادة الآخرين”.

هذه العلاقة الملتبسة بين المركز والمحيط يصفها محمد أمين قائلاً: “والخلاصة أن جميع الأكراد دخلوا حكم العثمانيين طواعية ورضى… فنالت هذه التدابير والأنظمة التي ترمي إلى تقدم البلاد في ظل الإمارات الكردية والإدارات المحلية المشمولة بالسيادة العثمانية”.

على المستوى الجيوستراتيجي، تزامنت فترة حكم مراد الثالث بتدهور الوضع الأمني داخل حدود الدولة الصفوية، خصوصًا مع تغول القزلباش وتحكمهم في ناصية القرار السياسي الصفوي. هذا المعطى دفع بالعثمانيين إلى تحريض الأكراد على شن هجمات على الأراضي الصفوية رغبة منهم في تقليص حدود الجار العدو وتوسيع حدودهم. هذا الطرح يؤكده عباس إسماعيل صباغ في كتابه “تاريخ العلاقات العثمانية الإيرانية” حيث يقول: “وفي غمرة هذه الاضطرابات، قام خسرو باشا وحرض الأكراد للهجوم على أراضي الدولة الصفوية”.

غير أن تشجيع الأتراك للأكراد للهجوم على الصفويين دفع بهؤلاء إلى الرد على هذه الهجمات والتنكيل بالأكراد في مجموعة من المعارك من بينها تلك التي خاضها الصفويون لاسترجاع منطقة كَيلان سنة (1591)، كونها أحد أهم مناطق إنتاج الحرير، دون أن يحرك العثمانيون ساكنًا، حيث اكتفى مراد الثالث بمراسلة الشاه عباس للعفو عن الخان أحمد حاكم كيلان، وهو الطلب الذي رفض الشاه الصفوي الذي فطن لمطامع العثمانيين في منطقة كيلان.

وتماشيًا مع ما ذُكر، غض العثمانيون في عهد مراد الثالث الطرف عن الهجمات الصفوية التي استهدفت الأراضي الكردية، وذلك بغرض تحقيق هدفين استراتيجيين. الأول إنهاك الأكراد في مواجهة الصفويين وتحميلهم مسؤولية الدفاع عن أراضيهم باعتبار أن مسؤولية الدفاع “ذاتية”، ومن ثم فإن العثمانيين غير ملزمين -في نظرهم- بالدفاع عنهم وعن حدود ولاياتهم. والهدف الثاني هو استغلال هذا التحرك الصفوي، الضعيف مقارنة بقوة الأتراك العثمانيين في ذلك الوقت، ومن ثم إجبارهم على توقيع معاهدة لرسم الحدود بين الطرفين بما يخدم الأهداف التوسعية للدولة العثمانية.

ضحى الترك بأصدقائهم الكرد وتركوهم ضحية ينكل بهم بقوة وقسوة.

يبدو أن الاستراتيجية العثمانية نجحت في توسيع حدودها على حساب القبائل والعشائر الكردية من خلال اتفاقيات تقسيم الأكراد بين القوتين الإمبرياليتين، وهو ما أجبر أحلام الأكراد على المحافظة على مناطق تدار وفق النموذج السياسي للحكم الذاتي. وحول هذه النقطة يقول محمد أمين في المرجع نفسه “وفي سنة (998ه/1589م) زحف سنان باشا جغالة زاده من بغداد على إيران واجتاحها حتى همدان، مما اضطر الشاه عباس إلى انتداب الميرزا حيدر للسفر إلى الأستانة وطلب الصلح مع العثمانيين، لوضع حد للحروب الطويلة التي دارت معاركها بين الطرفين عدة سنين، فعقدت معاهدة صلح في نوروز سنة (998ه/1590م) فكان من مقتضاها خضوع ولايات آذربيجان، شيروان، كرجستان، لرستان، شهرزور، للدولة العثمانية وإلغاء مذهب الشيعة والقضاء عليه في جميع البلدان”.

إجمالا يمكن القول بأن مراد الثالث تقاطع مع امتياز الحكم الذاتي الذي كان ممنوحًا للأكراد، ومنع عليهم التوسع على حساب الأراضي التركية مع تحريكهم لإنهاك الصفويين من خلال معارك متقطعة فيما يشبه استراتيجية “الوخز بالإبر”، ليستفيد، بعد ذلك، من ردة فعل الصفويين الذين دمروا المناطق الكردية وأعطوا بذلك مسوِّغا للسلطان العثماني للتدخل وإجبار الصفويين على التفاوض وفق شروطه ومن أهمها رفع يدهم عن التركمان الشيعة الذين أخضعهم بالقوة للحكم المركزي التركي بعدما كانوا يشكلون تهديدًا جديًّا على الأمن القومي العثماني. وبذلك استطاع مراد الثالث ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد: إضعاف الأكراد، إخضاع التركمان وفرض شروطه الامتيازية على الصفويين.

قسّم العثمانيون كردستان مع الصفويين متناسين ملاحم الكرد في جالديران.

  1. أوليا جلبي، رحلة إلى مصر والسودان والحبشة، ترجمة: حسين مجيب المصري (القاهرة: دار الآفاق العربية، د.ت).

 

  1. عباس إسماعيل، تاريخ العلاقات العثمانية الإيرانية: الحرب والسلام بين العثمانيين والصفويين (بيروت: دار النفائس، 1999م).

 

  1. عماد عبد السلام رؤوف، دراسات وثائقية في تاريخ الكرد الحديث وحضارتهم (دمشق: دار الزمان للطباعة والنشر والتوزيع، 2012م).

 

  1. محمد أمين زكي، خلاصة تاريخ الكرد وكردستان من أقدم العصور التاريخية حتى الآن، ترجمة: محمد علي عوني، ط2 (بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 2005).
تشغيل الفيديو

بشهادة مؤرخ عثماني: تفننوا في التمثيل بالقتلى

المذبحة العثمانية ضد الكُرد:

بدليس الكبرى

المؤرخ العثماني أوليا جلبي المولود (1611) في إسطنبول، يعدُّ رحّالةً مستكشفًا عثمانيًّا سافر مستقلًا في مهمات مع الجيوش والبعثات العثمانية على مدار أربعين عامًا، ابتدأها عام (1630) من مسقط رأسه، حيث دوّن مشاهداته في رحلاته في كتابه المعروف “سياحت نامه” كتاب الرحلات بالعربية. وقد وصف جلبي واحدة من أكثر المذابح وحشيةً في التاريخ الإنساني، وهي مذبحة “بدليس” التي ارتكبت في حق الشعب الكردي.

تعمد الترك تشويه الأمة الكردية وإلصاق تهم الهمجية والتخلف بها، إذ وصفوها بأنها أمة أقل شأنا من العرق التركي الذي يعتبرونه الأعلى مكانة من غيره من الأمم. لذلك وصف أوليا جلبي الكرد بالأمة الكافرة في كثير من روايته عنهم بالرغم من أنه زار بلادهم وعاش في نواحيها وأعجب بها وبما فيها من تنوع وتحضر.

ولعل من حسن الحظ التاريخي أن يكون الرحالة أوليا جلبي شاهد عيان على الجريمة المروعة التي ارتكبها السلطان مراد الرابع، انطلاقًا من غيرته وحقده على سكان مدينة بدليس الكردية، وهي مدينة تقع في الجهة الشرقية من حدود الدولة العثمانية، حيث بقيت بدليس متسامحة طوال تاريخها، ومن ذلك سماح الكرد للأرمن بمجاورتهم في المدينة، وبناء عدد من الأديرة، بل تحولت بدليس خلال القرن الخامس عشر مركزًا لإنتاج المخطوطات الأرمنية.

سجل جلبي وقائع المجزرة في كتابه “سياحتنامة” سنة (1655)، ووصف تلك الجريمة التي تكشف طغيان السلاطين العثمانيين وإدارتهم للبلاد الإسلامية التي صادف حظها العاثر أن تقع تحت احتلال الترك، فمارسوا مع شعوبها أنواع الانحراف الأخلاقي والعنف السياسي والأمني، انطلاقًا من غرورهم وعنجهيتهم.

دوَّن جلبي مشاهداته وقصصه عبر رحلاته العثمانية، موثقًا الأشياء التي شاهدها بينما يتنقل من منطقة إلى أخرى ومن مدينة إلى أخرى ومن قلعة إلى أخرى، إذ شخّص وسجل جميع المعلومات الدقيقة حول تراث وفلكلور الشعب الكردي وحضارته إبان الحكم العثماني، ليكتشف البعض المكتنز من التراث الكردي، تراثهم المفقود، ليكون الشاهد المنحاز للعثمانيين، متوصلاً إلى معلومات كافية لم يؤرخها أي تركي آخر أو أي رحالة عثماني في تلك الحقبة الزمنية، كما أورد ذلك الباحث فتح الله حسيني.

تؤكد الروايات أن مجزرة بدليس بدأت حين كان السلطان مراد الرابع عائدًا باتجاه ديار بكر الكردية ليتلقى التهاني بعد احتلاله مدينة بغداد سنة (1639)، لكن أمير بدليس عبدال خان منعته الظروف من التوجه للتهنئة، فغضب السلطان وأمر قائده العسكري أحمد باشا قائلاً له: “يجب أن تأخذ بثأري وتنتقم من يوسف زعيم عشيرة المزورية ومن عبدال خان البدليسي”. ليقتل فورًا نحو 700 كردي ويجلب القائد يوسف أسيرًا بعدما عذبوه ومن ثم أعدموه. ثم انتقل الجيش العثماني إلى جبل سنجار ليقتل ما يزيد عن 10 آلاف شخص، ولم يكتف العثمانيون بذلك بل استولوا على معظم أرزاق الكرد واعتبروها غنائم، بينما أكد العثمانيون طغيانهم بتلك الجريمة مؤسسين بحرًا من العداء مع الكرد، وتحولت ديار بكر إلى جبال من الجماجم والآذان المقطوعة، وهي سياسة وعادة تركية يقومون بها ضد كل من يحاربونهم تنكيلًا بهم وترويعًا لغيرهم.

تفاصيل مروعة راح ضحيتها أكثر من 10 آلاف كردي.

ارتكبت المجزرة بعد تعذر تهنئة الحاكم الكردي للسلطان العثماني بعد احتلاله بغداد سنة (1639).

وبحسب الباحث حسين جمو الذي قال: “يمكن العثور على الروح العنجهية في رسائل أحمد باشا للأمير الكردي، التي جمعها وعلق عليها الباحث بوار نور الدين في كتاب خصّه عن هذه الواقعة بالتحديد. ومن بين الجمل التي هدد بها الباشا العثماني: “عهدًا أن أقوم بمعاقبة عبدال خان وتأديبه إلى أن يصبح هو وأولاده عبيدًا للعثمانيين”.

ويصف الباحث رشيد فندي في ترجمته لكتاب رحلة أوليا جلبي في كردستان، إن العلاقة بين مراد الرابع وبين الأكراد في مدينة بدليس وقائدها عبدال خان بالغيرة التي ملأت قلب السلطان واستولت عليه نار الحقد الأسود، على الرغم من أن عبدال خان دفع ولديه وهما يحملان القرآن بين أيديهم لعل السلطان يتراجع عن خطته للإبادة التي أضمرها في نفسه. وقعت المعركة وأوليا جلبي يشاهد عجائبها وأهوالها، فكتب: “أما جنودنا فمن كثرة ما قطعوا من الرقاب بلغ حدًّا لن تسعها سلالهم، فقطعوا الأنوف والآذان والرؤوس، وكان كل منهم يطمح في جلب 20 أذناً و10 أنوف، فأحدهم كان معه 40 أذناً  و20 أنفًا. إن الشخص الذي يأتي بسلال أكثر مليئة برؤوس مقطوعة سيحصل على هدايا أكبر بينما بيعت أملاك الأمير الكردي في مزاد علني ونهب الجنود ما استطاعوا إليه سبيلاً”.

تعمد الترك تشويه الأمة الكردية وإلصاق تهم الهمجية والتخلف بها.

  1. أوليا جلبي، رحلة إلى كوردستان 1065هـ/1655م، ترجمة: رشيد فندي (دهوك: مطبعة خاني، 2008).

 

  1. عماد عبد السلام رؤوف، دراسات وثائقية في تاريخ الكرد الحديث وحضارتهم (دمشق: دار الزمان للطباعة والنشر والتوزيع، 2012م).

 

  1. محمد أمين زكي، خلاصة تاريخ الكرد وكردستان من أقدم العصور التاريخية حتى الآن، ترجمة: محمد علي عوني، ط2 (بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 2005).