العثمانيون والصفويون

أقاموا المجازر ضد الشعب الكردي

ارتبطت سياسة المرابطة على الثغور منذ بداية الفتوح الإسلامية مع القوى المحيطة بالعالم الإسلامي، بشعارات عقائدية وسياسية جمعت كافة التيارات الفكرية والدينية التي اخترقت نسيج المجتمع الإسلامي، على اختلاف الطبقات والمجتمعات ومذاهب الناس ومواقعهم الاجتماعية، تلك الخلفية التي ضمت أهدافًا سلمية، اتخذها من جاء بعد حقبة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، في تحقيق مقاصد غير سامية تلوّنت بألوان الشرعية الزائفة بغرض امتلاك البلاد والعباد دون وجه حق، باعتبار أنهم ينهضون بأدوار عامة تساهم في صون الأمة الإسلامية.

تلك الأهداف التي حرّفها العثمانيون للمسلمين، وأوهموا أنفسهم ومن حولهم بأن لهم حق امتلاك كل ما يجاور حدودهم بفضل نفوذهم الفكري والسياسي، حيث حاولوا حتى نجحوا في السيطرة على المكونات الاجتماعية، لممارسة أدوار تحمي نظامهم الفاشي أمام المدنيين، وأيضا كي تقنع دول أوروبا الكبرى، بمشاريعهم الاستيطانية التي احتلوا بها دول المسلمين لنحو خمسة قرون.

وبقدر ما تتكيف وتثار النعرة العصبية للعرق يصبح التجبر ضد الأعراق الأخرى أمرًا لا مفر منه، وبتعبير آخر “الخصوصية السياسية” التي اتخذتها الدولة العثمانية لتمجيد نسل سلاطينهم وتقديس أسرتهم، وأنها هي المخولة لقيادة العالم الإسلامي وما جاوره، حيث وجدوا أنفسهم منخرطين ضمن مسار سياسي للنشوء والمحافظة على الهيمنة العالمية لدولتهم.

تاريخٌ طويل من المجازر التي ارتكبها العثمانيون في حق بعض القوميات التي كانت ضمن حدود استعمارهم، ولم تكن مجازرهم ضد العرق الكردي حديثة بارتكابها في القرن التاسع عشر باعتبارها الأشهر والأقرب للذاكرة الحيَّة، ولكنها ابتدأت منذ مطلع القرن السادس عشر، فمنذ ذلك الحين وضح جليًّا استغلال الترك للكرد.

إذ استغل العثمانيون اتفاقهم مع الأكراد مذهبيًّا لدفعهم إلى مواجهة المد الصفوي، وجعلوهم ورقة يجازفون بها في علاقتهم مع الصفويين، فسليم الأول سلك مسالك متنوعة لفرض هيمنته على الكرد، منها بدء العلاقة وإظهار طيب النوايا حينما فوّض القائد الكردي الشهير إدريس البدليسي؛ لتوحيد الكرد، ولم يطلب من الأكراد ضرائب؛ لأنها البداية، وترك لهم حرية تكوين جيوشهم.

لكن حب الانتقام والدموية التي اشتهر بها سليم الأول ظهرت بعد انتصاره على الصفويين، لذلك عمد إلى قتل عدد كبير من جنود الإنكشارية لامتناعهم عن المشاركة في قتال جهات وأطراف شرق الدولة العثمانية، بسبب أن أهلها على مذهب أهل السنة (الأكراد)، ذلك حينما أغار سليم الأول على قلعة كوماش، وإمارة ذي القادر الفارسية، وقتها أمر بقتل قاضي العسكر جعفر جلبي لأنه كان من أكبر الداعمين لتجنب المشاركة الدموية في القتال لتلك الجهات. وبعد سلسلة من الإرهاب العثماني على يد سليم الأول، عمد إلى بث الرعب والقتل المبين لجموع غفيرة من الأكراد، بهدف إخضاع الأكراد تمامًا لسلطته وإدخال أراضيهم في حدود دولته، ومنها ماردين وأوروفة والرقة والموصل وديار بكر، بجانب كافة قبائل الكرد دون استثناء على أن يبقى الحكم تحت رؤساء القبائل، ولم تكن تلك الطاعة إلا قهرًا لحقن دمائهم من شر سليم الأول.

سليم الأول قتل جزءًا كبيرًا من جنوده حين امتنعوا عن إقامة المذابح ضد الأكراد.

تحولت كردستان إلى ساحة حرب دموية بين العثمانيين والصفويين، وفي عام (1550) تعرضت الحواضر الكردية إلى دمارٍ شامل نتيجة الصراع المرير بين قوتين متناحرتين، بينما كانت الحقيقة أن كلاً منهما كان يستولي على قسم من الأراضي المعمورة بساكنيها من الأكراد.

خلال الفترة (1514-1566)، حتى نهاية حياة سليمان القانوني، تعرض الكرد لعقوبات جزئية نالت بعض أمرائهم، فقد كان للاتفاق الشامل الكردي-التركي في جالديران صدى كبيرًا خلال سنوات حكم القانوني، وتأثيره واضطهاده الكبيرين، ومن ضمن أعماله خرق الاتفاق حين عزل أميرًا كرديًّا وعيّن محله آخرًا من غير ورثته في مد بدليس.

وفي عهد مراد الثالث بعد سنة (1574) تحولت الديار الكردية إلى هدف مستمر للغارات الصفوية عامًا بعد آخر، خاصةً خلال الهدنة بين الصفويين والعثمانيين. خلال ذلك تراجعت الحياة العامة في كل مناحيها في الأراضي الكردية، ومنها توقف العمران جراء الحملات المتتالية، ومقتل عدد كبير من الكرد في كل حملة بمجازر تاريخية تغافل عنها كثير من المؤرخين.

غض العثمانيون الطرف كثيرًا عن اجتياح الصفويين أراضي الأكراد، وتخلوا عن مسؤوليتهم التي يدعونها في الدفاع عن كردستان أمام الصفويين، ففي أثناء الهجمات الصفوية كان جنود الدولة العثمانية يختفون، ولا يظهرون إلا حينما يقرر السلطان العثماني الانتقام من الأكراد بإرسال كتائبه بغرض التأديب وردع المتمردين فقط.

في وقت صعب، أهمل العثمانيون الأكراد فوقعوا بأيدي الصفويين.

تعرض الأكراد لعددٍ كبير من المجازر التي قامت بها الدولة الصفوية ضدهم، منها ما حدث في قلعة دمدم ومجزرة البراد وستين، وقعت الأولى في زمن السلطان العثماني أحمد الأول، حيث استغاث الأكراد دون جدوى، وتكرر الحال في مذبحة دمدم الأولى، ثم مجزرة دمدم الثانية، ففي عام (1618) دخل الطرفان العثماني والصفوي في بازار حول الكرد، الذين يفترض أن سنّيتهم تضمن لهم أفضلية لدى بني عثمان. ويعلق محمد أمين زكي في “خلاصة تاريخ الكرد وكردستان” على ذلك بالقول: “وأخيرًا في ديسمبر 1618 انعقد الصلح للمرة الثانية بين الدولتين، وفي أثناء مذكرات الصلح عمد الشاه عباس إلى نقل 15 ألف أسرة كردية وإجلائها إلى بلاد خراسان للاستعانة بهم على التركمان ومنعهم من التسلط على الحدود الإيرانية في الشرق الشمالي”. وهذا القسم من إيران، أي خراسان، على حدود تركمانستان وقرغيزستان، مأهول بالكرد بكثافة إلى اليوم”.

دفع أمراء الكرد وشعبهم ثمن الحرية في محاولاتهم الوقوف في وجه جيش يفوقهم في العدة والعتاد، فضلاً على أن الاتفاق الكردي-التركي الموهوم نتجت عنه آثارٌ سيئةٌ،  قيّدت به الدولة العثمانية بطريقة صارمة نمو أي إمارة كردية مركزية لمنعهم من تكوين جيشٍ مستقلٍ للدفاع عن أنفسهم أو العمل على تأسيس الإدارة لمرافق إماراتهم الممنوحة لهم ظاهريًّا بأنهم أمراء عليها، ونتج عنه بقاء حدود الإمارات الكردية  شبه المستقلة محدودة في إمكانياتها، ولا تتوحد تحت راية غير راية بني عثمان، بينما كانت الضرائب ترهق كواهل الأمراء والمواطنين، دون امتلاك حق التخفيف وليس الرفض.

  1. حياة مناور الرشيدي، الإرساليات التنصيرية الأمريكية في الدولة العثمانية، (القاهرة: دار الراية للنشر، 2015م).

 

  1. عبدالحميد الثاني، مذكراتي السياسية، ط2 (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1979م).

 

  1. محمد حسين خلف تبريزي، فرهنك فارسي برهان قاطع (طهران: انتشارات نيما، 1379هـ).

 

  1. محمد فريد بك المحامي، تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي (بيروت: دار النفائس، 1983م).

 

  1. محمد مختار باشا، التوفيقات الإلهامية في مقارنة التواريخ الهجرية (القاهرة: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980م).

 

  1. عبدالعزيز الشناوي، الدولة العثمانية (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1986م).

 

  1. علي تتر توفيق، “الشاه عباس الصفوي ومجازره بحق الكرد”، مجلة جامعة دهوك، المجلد 20، العدد 2، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، قسم التاريخ، (2017م).

عمل العثمانيون على فرض "نهاية التاريخ" في حق الأكراد

ثورات الأكراد ضد الترك بدأها ابن جنبلاط وختمها بدرخان باشا

تعددت الفصول الدرامية في الكفاح الكردي الطويل في مواجهة آلة القمع التركية، حيث تعامل الأتراك مع الشعوب الأصلية في كثيرٍ من المناطق التي احتلوها بدموية، بينما تسلطوا على رقاب الكرد وسلبوا منهم أراضيهم وحقوقهم وأرادوا طمس تاريخهم وهويتهم؛ وليجعلوا الشعب الكردي من دون تاريخ ليبنوا على أنقاضه تاريخًا جديدًا يبدأ مع دخول الاستعمار العثماني للمناطق الكردية، بما يتوافق مع نظرية “نهاية التاريخ”.

أخذت القضية الكردية بُعدًا سياسيًّا مباشرًا بعد معركة جالديران سنة (1514م)، حين تقاسم العثمانيون والصفويون الأراضي الكردية دون أدنى اعتبار للتضحيات التي قام بها الأكراد في سبيل توطيد أركان الدولة العثمانية. هذا الواقع الجديد خلق ردة فعل عكسية لدى الأكراد تجلت في اعتمادهم على أدواتهم الذاتية بعيدًا عن التعويل على التفاتة سياسية أو إنسانية من العثمانيين الذين كانوا يستغلون الأكراد حطبًا في حروبهم التوسعية، وأيضًا في فرض الأمن الداخلي لإخضاع باقي المجتمعات العرقية.

تعد المقاومة الكردية للغزو التركي من المعطيات البديهية في ظل الهمجية التي ميزت تعامل الأتراك مع الكرد وباقي المناطق التي دخلوها، حيث تحكي الروايات فصولاً درامية من الأحداث الدموية التي تورطت بها الدولة العثمانية.

يقول محمد أمين زكي في كتابه “خلاصة تاريخ الكرد وكردستان من أقدم العصور التاريخية حتى الآن”: “وفي سنة 1037م ميلادي وصلت جموع الغز (طلائع السلاجقة) إلى أطراف مراغة فنهبوا المدينة وقتلوا الناس وأسرفوا في القتل. ثم أغاروا على العشيرة الهذبانية الكردية فقتلوا منهم مقتلة عظيمة… وكان فريق من الغز قد وصلوا في إغارتهم إلى أرمينية وأحدثوا فيها مذابح عظيمة وتخريبًا شاملاً”.

على رغم أن الأكراد بعد جالديران استطاعوا انتزاع امتياز الحكم الذاتي عن الآستانة مع بقاء بعض مظاهر السيادة العثمانية البسيطة ومنها سك النقود والدعاء للسلطان والانضمام إلى الجيوش العثمانية إذا ما طُلب منهم ذلك، إلا أنهم رفضوا أن يستمروا في لعب دور الحروب بالوكالة وهو ما جر عليهم انتقام السلاطين العثمانيين من خلال ضربات عسكرية ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الأكراد، ضمن جزء بسيط من التاريخ المظلم للحكم العثماني.

رفض الكرد لعب دور الحروب بالوكالة فانتقم العثمانيون منهم بردعهم وضربهم عسكريًّا.

في السنوات الأولى من القرن السابع عشر وتحديدًا سنة (1607م) اندلعت ثورة علي بن جنبلاط في مدينة حلب، وذلك على خلفية اغتيال الصدر الأعظم العثماني لأخيه الأمير حسن، ليزحف بعدها الثوار إلى طرابلس الشام ومناطق أخرى وتمكنوا لفترة وجيزة من حكم البلاد بشكل مستقل، ليسارع بعدها ابن جنبلاط إلى عقد معاهدة مع الآرشيدوق فرديناند ملك حكومة طوسكانا.

وأمام هذا التحدي للسلطان العثماني، كلّف هذا الأخير الصدر الأعظم الشهير قويوجى مراد باشا بإخماد ثورة ابن جنبلاط ليلتقي الجمعان في سهل أورج بتاريخ 24 أكتوبر سنة (1607م)، ودارت بينهما معارك دامية قضت على نصف جيش ابن جنبلاط، وهو ما اضطره إلى التراجع والانسحاب. وعلى إثر هذه الهزيمة توجه ابن جنبلاط إلى الآستانة حيث عفا عنه السلطان أحمد الأول وعينه بكلربكيا لإيالة طمشوار. غير أن هذا العفو لم يجد هوى عند الصدر الأعظم مراد باشا السفاح الذي أرسل من يقتله في قلعة بلغراد وهو في الطريق إلى عمله.

وفي عام (1806م) اندلعت في منطقة السليمانية ثورة كبرى قادها الزعيم الكردي عبد الرحمن باشا الباباني وتمكن خلالها الأكراد من تحقيق نجاحات تكتيكية مهمة، لكنها لم تكن كافية لتحقيق الهدف السياسي الأسمى في الاستقلال عن سلطة العثمانيين. وحول هذه الثورة نجد الكاتب الصحفي أحمد تاج الدين في كتابه “الأكراد: تاريخ شعب…وقضية وطن” يقول: “… واستمرت الاشتباكات لمدة سنتين حقق فيها الأكراد انتصارات رائعة، ولكن الثورة انتهت بمقتل زعيمها في إحدى المعارك ولم يكن هناك من يتولى القيادة بعده فوئدت الثورة في مهدها وفي سنواتها الأولى”.

وفي سنة (1812م) اندلعت في السليمانية أيضًا ثورة أخرى، وهذه المرة بقيادة أحمد باشا الباباني واستطاعت تحقيق نتائج باهرة وهو ما دفع الثوار إلى محاولة الزحف على بغداد للاستيلاء عليها وهو الهدف الذي كاد يتحقق لولا أن المنيَّة وافت زعيم الثورة لتلقى مصير سابقتها.

بعدها بنحو 8 أعوام في (1820م) ثار الأكراد بشدة في منطقة الظاظا لتمتد إلى باقي المناطق الكردية واستمرت بضعة أشهر قبل أن تفشل؛ لنقص المؤونة وقلة التسليح وهو ما دفع الثوار إلى التحصن بالجبال قبل أن يقوم الأتراك بمحاصرتهم فأبادوهم عن آخرهم، وبذلك تضاف ثورة الظاظا إلى الجرائم التي تورط فيها العثمانيون بحق السكان الأصليين. وبعد عقدٍ من ذاك الزمان ثار الأكراد في منطقة سنجار سنة (1830م)، وآلت إلى المصير ذاته بالنظر إلى المقدمات نفسها التي سبقت انطلاق شرارة الثورة.

وفي تحليل لإحدى أهم الثورات الكردية التي تميزت -نسبيًّا- عن سابقاتها من خلال وجود زعامة ثورية تمثل القيادة، وأيضا حضور الشق الذاتي المتمثل في القاعدة المادية الواعية بالمهام التحررية، فإن الملاحظ من خلال ما تقدم، أن زعماء العشائر ورؤساء القبائل الكردية تبنوا -مضطرين- الخيار الثوري للتحرر؛ كونه إحدى المداخل العنيفة المشروعة لتحقيق الحلم القومي للأكراد في الاستقلال عبر السيطرة على المناطق الكردية. ويبدو أن غياب تنظيم مركزي يمثل الطليعة التحررية، وزعيمٍ حقيقيٍ يملك أدوات الضبط والربط، بمفهومها العسكري، بين القبائل والعشائر، ذلك كله ساهم في فشل هذه المحاولات لينخفض مستوى التطلعات من الاستقلال إلى الحكم الذاتي.

تولى الأمير بدرخان باشا حكم جزيرة بوتان سنة (1812م)، وكان عمره آنذاك ثمانية عشر عامًا، ورغم حداثة سنه إلا أنه كان قائدًا بارعًا حازمًا يفكر بطريقة استراتيجية، إذ حدد أهدافه السياسية الرئيسة ولخصها في نقطتين رئيستين هما: التصدي لدسائس الباب العالي، والعمل على توحيد القبائل والعشائر الكردية تحت راية واحدة. ولتحقيق هذه الأهداف، عكَف بدرخان باشا على تحليل الثورات السابقة والوقوف على أسباب هزائم الكرد أمام الغزاة العثمانيين، ليقف على أهم الأسباب المباشرة وغير المباشرة لهذه الانتكاسات الحربية.

يلخص المؤرخ بله شيركوه هذه الأسباب في كتابه “القضية الكردية…ماضي الكرد وحاضرهم” في نقطتين أساسيتين: عدم اتحاد القوى الكردية في الثورات حول الهدف الأسمى وهو الوحدة، ونقص مصانع الأسلحة والذخائر والاعتماد على الدعم الخارجي.

خسائر الأكراد المتتالية أمام العثمانيين لعدم اتحادهم ونقص أسلحتهم وذخيرتهم.

وانطلاقا من مركز القيادة في بوتان، التي كانت مستقلة عمليًّا عن الدولة العثمانية، انطلق بدرخان في توحيد القبائل الكردية تحت راية واحدة، وهو ما نجح فيه نجاحًا باهرًا حيث انضوى تحت لوائه معظم رموز الأكراد، ومنهم مصطفى بك ودرويش بك ومحمود بك بالإضافة إلى زعيم حكارى نور الله بك وزعيم خيزان خالد بك وشريف بك من زعماء لواء موشى وغيرهم. كما عمل بدرخان لتحقيق الاكتفاء العسكري الذاتي من الذخيرة والعتاد من خلال إنشاء معمل للذخيرة والبنادق في مدينة “الجزيرة”.

ورغم النجاحات الباهرة التي حققها الأكراد في مواجهة العثمانيين إلا أن بعض الأخطاء التكتيكية وعدم أخذ الحسابات الإقليمية بعين الاعتبار، بالإضافة إلى الخيانات الداخلية ودسائس الباب العالي، كلها عوامل عجلت بوأد حلم الأكراد في تأسيس وطن مستقل لهم، حيث إن الإجراءات الزجرية التي قادها بدرخان ضد النساطرة المسيحيين الذين رفضوا دفع الضرائب كان خطأً استراتيجيًّا استغله السلطان العثماني للحصول على الضوء الأخضر من الأوروبيين لذبح الثورة الكردية واستدامة مشكلتهم السياسية وقضيتهم الوجودية إلى الأبد.  

1) محمد أمين زكي، خلاصة تاريخ الكرد وكردستان من أقدم العصور التاريخية حتى الآن، ترجمة: محمد علي عوني، ط2 (بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 2005).

 

2)  أحمد تاج الدين، الأكراد: تاريخ شعب…وقضية وطن، (القاهرة: الدار الثقافية للنشر، 2001).

 

3)   بله شيركوه، القضية الكردية…ماضي الكرد وحاضرهم، (القاهرة: مطبعة السعادة، 1930).

تشغيل الفيديو

تاريخ من العداء والدماء

أشهر الإمارات الكردية التي قاومت الاحتلال العثماني

تاريخ الأكراد في ظل الدولة العثمانية تاريخ مليء بالمآسي، لذا ورثت الجمهورية التركية عبء هذا التاريخ، في الوقت الذي لم ينس فيه الأكراد وقائعه ذوات المآسي.

وأكثر مأساة عانى منها الأكراد؛ أنهم شعروا بأن أراضيهم تمثل إمارات حدود فاصلة بين قوتين عثمانية وصفوية تنازعتا أراضيهم، وكانوا وقودًا لهما. وأصبحت الأراضي الكردية منطقة عبور والتقاء بين جيوش الصفويين والعثمانيين، وكم كانت كردستان مسرحًا لمعارك عديدة بينهما، تكبدت خلالها كردستان الخسائر الجمة على المستويين البشري والاقتصادي.

تلقت كردستان ضربات اقتصادية وبشرية؛ نظرًا لموقعها الجغرافي، ووقوعها بين قوتين متجبرتين.

ومع مرور الزمان وتبدل الأحوال لم يحترم السلاطين العثمانيون حالة الاستقلال الذاتي التي تمتعت بها الإمارات الكردية؛ إذ بدأ الصدام بين العثمانيين والكُرد منذ عصر مراد الرابع. وانتهكت الجيوش العثمانية الوضع الخاص لهذه الإمارات، وهنا نرى الكثير من التضارب في الآراء حول هذا الأمر بين المصادر الكردية والمصادر العثمانية؛ إذ نظرت المصادر الكردية إلى ذلك على أنه بمنزلة مذبحة للكُرد، بينما وصفت المصادر العثمانية ذلك الأمر على أنه كان بمنزلة حملات تأديبية للأمراء الكُرد، وإخضاع كل الولايات إلى سلطة الدولة المركزية. ويزداد الأمر سوءًا في القرن التاسع عشر مع ضعف الدولة العثمانية، وأزماتها الاقتصادية، وهزائمها في حروبها الخارجية، وسقوط بعض ولاياتها في أيدي أعدائها، من هنا تتخلى الدولة العثمانية عن سياسة اللامركزية التي اتسمت بها الإدارة العثمانية لفتراتٍ طويلة، وتتبنى الدولة سياسة المركزية، مما يعني الصدام المباشر مع رعاياها. يُضاف إلى ذلك أن هذا القرن كان يعد عصر القوميات، من هنا حدث الصدام الكبير بين القومية التركية والقومية الكردية، مثلما حدث من صدام بين القومية التركية والقوميات الأخرى الأرمينية والعربية ومن قبلهما اليونانية.

وتشير بعض الدراسات التي أقيمت على وثائق الأرشيف العثماني إلى شكاوى الكُرد من تجاوزات الإدارة العثمانية، ولا سيما أن الكُرد في البداية استمروا في ولائهم للسلطان العثماني، خوفًا من وقوعهم في أيدي الصفويين.

وفي دراسته عن الكُرد والعشائر الكردية في الأرشيف العثماني، يرصد محمد علي أحمد شكاوى أهالي قضاء سروج من تصرفات الجيش العثماني؛ إذ يعرض لوثيقة تعود إلى عام (1845) توضح أن الجيش العثماني أخذ قرارًا بتأديب أهالي سروج لرفضهم إرسال الرجال للمشاركة في الحملة العثمانية على منطقة عربستان.

كما يعرض المؤلف لوثيقة أخرى تعود إلى عام (1898) تتحدث عن العصيان المسلح الذي قام به أهالي سروج وما حولها ضد مفرزة الجندية. كما يرصد المؤلف عمليات التهجير القسري للعشائر الكردية، الذي بدأ منذ الربع الأخير من القرن الثامن عشر، واستمر في القرن التاسع عشر. ومن هذه العمليات تهجير عشائر كردية من مناطق سكنها شمال شرق سوريا وجنوب شرق تركيا الحالية إلى أماكن النفي التي حددها الباب العالي. ويعرض المؤلف لوثيقة توضح تهجير الكُرد من منطقة مرعش إلى منطقة الرقة وما حولها.

ولم يقتصر الأمر على عمليات التهجير فحسب، وإنما شمل الصدام بين العثمانيين والكُرد على سقوط الإمارات الكردية التي كانت تتمتع بنوعٍ من الاستقلال الذاتي، وسنعرض لبعض أمثلة على سقوط هذه الإمارات.

إمارة سوران:

يفسر البعض اسم سوران بأنه يعود إلى اسم أحد اللهجات الكردية الرئيسة، وتُسمى اللهجة السورانية. وكانت إمارة سوران من أهم الإمارات الكردية؛ إذ كانت تضم الموصل وكركوك وأربيل. ويقال إن هذه الإمارات كانت تتميز بلونٍ من التسامح والانفتاح إلى درجة السماح أن تحكمها امرأة.

وكما أشرنا من قبل، فقد تخلى العثمانيون عن سياسة اللامركزية، وانتهجوا سياسة المركزية، من هنا تحرك الجيش العثماني إلى إمارة سوران، حيث شن هجومًا شرسًا عليها. ولعبت ماكينة الدعاية العثمانية على وتر الدين، وخاصةً أن أغلبية سكان الإمارة من السُنة؛ إذ استمال العثمانيون بعض العلماء الكُرد إلى جانبهم، وأصدر هؤلاء العلماء فتوى للأهالي الكُرد تُحَرِّم محاربة جيش السلطان، لأنه جيش الخليفة وليّ الأمر. ويقال إن هذه الفتوى لعبت دورًا مهمًّا في هزيمة الإمارة وسقوطها.

إمارة بوتان:

إمارة بوتان من الإمارات الكردية المهمة، وتركزت الإمارة في منطقة جزيرة بوتان في جنوب شرق الأناضول، ومعظم سكانها من المسلمين السُنة. وفي العصر العثماني -كما أشرنا من قبل- أصبحت إمارة بوتان إمارة وراثية تتمتع بالحكم الذاتي مع التبعية للباب العالي.

ويصف قبات الجافي إمارة بوتان بأنها جوهرة الإمارات الكردية، وتتميز إمارة بوتان بطول فترتها التاريخية، كما كانت آخر إمارة كردية تسقط في أيدي العثمانيين، حتى شبهها البعض بإمارة غرناطة× كونها آخر إمارة سقطت في أيدي الإسبان في الأندلس.

إمارة بوتان كانت تطمح لتكرار التجربة الخديوية في مصر.

وتحدثنا المصادر عن أحد أهم أمراء بوتان وهو الأمير بدرخان باشا، هذا الأمير الإصلاحي الذي أُعجِب كثيرًا بتجربة محمد عليّ في مصر، وأراد الاقتداء به والقيام بإصلاحات كبيرة في إمارة بوتان. كما عمل بدرخان على بلورة مشروع سياسي كردي لمستقبل الإمارة، لكن مشروعه هذا اصطدم بسياسة المركزية العثمانية. ومع ذلك استمر بدرخان في مشروعه الإصلاحي متأسيًا بتجربة محمد علي؛ حيث حرص على بناء جيش قوي، وأنشأ في بوتان مصنعًا للذخيرة، كما اهتم بتشجيع التعليم في الإمارة، بل أرسل بعثات من طلابه إلى أوربا.

وحدث الصدام المتوقع بينه وبين السلطان العثماني، عندما رفض أن يشارك في حروب السلطان الخارجية. وهنا وقعت الواقعة بينه وبين جيش السلطان، ولم يستطع الاستمرار في المقاومة، واضطر أخيرًا إلى الاستسلام.

وفي البداية تم إرسال أمير بدرخان أسيرًا إلى إسطنبول، وهناك أمر السلطان بنفيه هو وأسرته إلى جزيرة قبرص. وتفرق شمل آل بدرخان في العديد من الدول، وصل بعضهم إلى مصر ومن نسلهم أحد أشهر المخرجين المصريين “أحمد بدرخان”، وأيضًا ابنه “علي بدرخان”.

فتجبرت الدولة العثمانية على الإمارات الكردية، ونسجت تاريخًا من صراعٍ بين سياسة اللامركزية وسياسة المركزية، هذه السياسة الأخيرة التي لم تنجح في إبقاء الدولة العثمانية، بل ساهمت في صراع القوميات في الدولة العثمانية.

  1. عيسى إبراهيم قاسم: الميران في إمارة بوتان، دراسة تاريخية.
  2. قبات شيخ نواف الجافي: إمارة بوطان.
  3. محمد زكي البرواري: الكورد والدولة العثمانية.
  4. محمد عليّ أحمد: الكرد والعشائر الكردية في الأرشيف العثماني.