الوحدة العربية جعلت محمود الثاني يعلن الاستنفار
السعوديون أفقدوا العثمانيين مرتكزهم السياسي الذي برروا به استعمارهم للوطن العربي
شكّل ظهور الدولة السعودية الأولى (1744) في منطقة نجد مفاجأة صادمة للدولة العثمانية التي لم تكن في البداية تعطي أهمية كبيرة لا للدولة الجديدة ولا للمنطقة كلها، قبل أن تستشعر القوة السياسية الجديدة بقيادة الإمام محمد بن سعود (مؤسس الدولة السعودية الأولى)، التي أصبحت بعد ذلك تشكل تهديدًا جديًّا بحكم ارتباط وجودها السياسي بدعوة دينية نقيَّة؛ إذ وجدت لها صدى كبيرًا في الجزيرة العربية.
اتسع نفوذ الدولة السعودية الأولى خلال فترة وجيزة في الجزيرة العربية، وعملت لتوحيد أطرافها الجغرافية، وسعت إلى استرداد الحرمين الشريفين من السيطرة العثمانية إلى حاضنتها العربية الشرعية، انطلاقًا من الوحدة الجغرافية أولاً للجزيرة العربية، والرفض العربي الفطري الخضوع إلى السلطة الاستعمارية بمختلف مسمياتها، الأمر الذي أثار مخاوف ولاة العثمانيين في الحجاز، وبناءً عليه بعث واليهم على مكة مسعود بن سعيد عريضةً إلى إسطنبول (1749) يحذر فيها مما وصفه “اجتهادات للشيخ محمد بن عبد الوهاب”، وهو التحذير الذي رد عليه السلطان العثماني محمود الأول (1730-1754) بكتاب جوابي طالب فيه والي ولاية حبش ومتصرفية جدة وشيخ الحرم المكي عثمان باشا بأن يعمل بنشاط مع والي مكة المكرمة بهذا الخصوص.
أمام هذا الواقع السياسي الجديد الذي فرضه السعوديون، استشعر سلطان الدولة العثمانية خطورة الموقف، وهو ما دفعه إلى وصف الشيخ محمد بن عبد الوهاب بـــ “الملحد” واتهام الدولة السعودية بالخروج على “الخلافة” بالرغم من أن جميع الشواهد كانت تؤكد غياب أي مظهر من مظاهر السيادة السياسية على المنطقة قرابة ثلاثة قرون، وجميع المهام المرتبطة بأمور الولاية والقضاء والحسبة لم يكن للدولة العثمانية فيها حل ولا عقد، هذا بخلاف إسقاط الجريمة الاستعمارية من سلالة عرقية لا تتوفر فيها شروط الخلافة الإسلامية لا شرعيًا ولا فعليًّا.
جميع الشواهد كانت تؤكد غياب أي مظهر من مظاهر السيادة السياسية على الجزيرة العربية إبان الاحتلال العثماني خلال ثلاثة قرون.
تعامل العثمانيون مع الموقف وفق طابعهم الاستعلائي الذي عكسته الرسالة الجوابية التي أرسلها الباب العالي إلى أمير مكة جاء في إحدى فقراتها: “…بسبب تمكن (الملحد) من كسب سكان تلك المناطق إلى جانبه بكل الحيل… فإن التقاعس بخصوص هذا الشخص سيؤدي إلى ظهور الحاجة إلى قوات أكثر عددًا”.
وعطفًا على موقف العثمانيين من تحذيرات واليهم فيما يخص السعوديين وقيام دولتهم الأولى؛ فإن مجموعةً من الباحثين يرون بأن الصدام بين السعوديين والعثمانيين كان نتاجًا موضوعيًّا لطبيعة الخلاف العقدي بين دولة سلفية نقية المعتقد ودولة متصوفة مغالية، والذي شكل الأركان التي قام عليها كل كيان سياسي منهما على حدة. هذا التعارض العقدي الذي يصفه الباحث والإعلامي سلطان الأصقه بقوله: “من طبائع المتصوف المغالي فاسد المعتقد أنه يحارب من يقوم بالدعوة إلى التوحيد ومن يحيي عقيدة أهل السنة والجماعة… فمن طبائع الأمور أن تحاربها الدولة العثمانية وسلاطينها المتصوفة”.
بدايةً رأى العثمانيون بأن مواجهة الدولة السعودية الأولى تحتاج إلى مسوغات شرعية يقبلها العرب الذين كانوا على خطوط التماس مع الحدود الجديدة للدولة السعودية، ولم تجد غير مبرر “الخروج” لإضفاء طابع القدسية على هذه الحرب، بل ووصل بها الحقد على سكان نجد بأن منعوهم من أداء مناسك الحج تحت مبرر أنهم “وهابيون خوارج”، وقاموا بحبسهم والتنكيل بهم في مشهد يصفه المؤرخ عثمان بن بشر في كتابه “عنوان المجد في تاريخ نجد” عن أحداث سنة (1749): “وفيها حبس مسعود بن سعيد شريف مكة حاج نجد، ومات منهم في الحبس عدة”.
وصل حقد الدولة العثمانية على سكان نجد إلى حد منعهم من أداء مناسك الحج.
الحرمان الشريفان يعدان مركز ثقل العالم العربي والإسلامي، لذلك شكل التهديد باسترجاعهما من طرف الدولة السعودية الأولى إفقاد العثمانيين مرتكزهم الديني الذي بنوا عليه شرعية استعمارهم السياسي. هذا المعطى يفسر حالة الاستنفار التي أعلنها السلطان العثماني لوقف تمدد الدولة السعودية التي كانت تتطلع إلى جمع عرب الجزيرة تحت مظلة عربية واحدة في ظل افتقاد السلطنة العثمانية للأركان الشرعية لقيادة الأمة الإسلامية، وأيضًا في ظل السياسة العرقية التي انتهجتها إسطنبول تجاه الحجاز، والتي لم تكن بالنسبة لها إلا “صك الشرعية” الذي ترتكز عليه في مسلسل إخضاع باقي المجتمعات الإسلامية تحت مسوغات الغزو تارة، ومسوغات الفتح تارة أخرى، وهو ما لم يكن ليتأتى لها لولا الرمزية الدينية القوية للمشاعر المقدسة.
أمام هذا الواقع الجيوستراتيجي الجديد، استنفر السلطان العثماني بعض ولاته للقضاء على الدولة السعودية الأولى في مهدها من خلال توجيه مجموعة من الحملات التي لم يكتب لها النجاح بفعل قوة جيوش السعوديين التي كانت متسلحةً بعقيدة نقيَّة نابعة من روح الدين الإسلامي وهدي شريعته لترسم ملحمةً بطولية في الذود عن الدين والعرض والوطن وتنجح في رد الخطر العثماني ولو إلى حين وقتها.
- حسين بن غنام، روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام (الرياض: دار الثلوثية، 2010).
- عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971).
- عبدالرحمن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، تحقيق: عبدالرحيم عبدالرحمن (القاهرة: دار الكتب المصرية، 1997).
- عبدالرحيم عبدالرحمن، الدولة السعودية الأولى، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1987).
- صالح السعدون، “منع الحج بين الدولة العثمانية والدولة السعودية الأولى، الرياض: مجلة الدارة، ع.2، مجلد: 35 (2009).
- د. سلطان الأصقة، حلقات برنامج “العصملي”.
أثبت السعوديون ضعف الإمبراطورية التركية وهشاشتها وفساد معتقدها وبطلان سلطتها في العالم الإسلامي
بدأت علاقة العثمانيين بالجزيرة العربية بعد احتلالهم لمصر عام (1517)، ذلك بعد أن سقطت دولة المماليك واعترف الشريف بركات بن محمد بن بركات، أو بركات الثاني، بالسيادة العثمانية الجديدة، بعد حملة إرهاب ورسائل تخويف بعث بها سليم الأول إليه إن لم يقم بإعلان ولائه، والتهديد بغزو الحجاز. وظل العثمانيون لمدة ثلاثة قرون يمارسون استعمارهم بفرض سلطتهم على أجزاء حيوية فقط من الجزيرة العربية في الحجاز واليمن والأحساء، لا سيما في الحجاز التي ظل الأشراف يحكمونها حكمًا ذاتيًّا تحت اسم العثمانيين، إلى أن جاءت فترة صراع الأشراف على الحكم. فماذا كان موقف العثمانيين من أُسَر الأشراف المتنازعة على الحكم؟
تدخل العثمانيون لعزل مَن يريدون عزله من الأشراف عن طريق والي الشام، فكان الأخير ينتهز فرصة الفترة القصيرة التي يبقى فيها الحجاج بمكة فيقوم بعزل الشريف المطلوب عزله، ويُوَلي غيره، كما كان يُعَيِّن أحد الباشوات العثمانيين على جدة. والمتنافسون من الأشراف على شرافة مكة يلقون تشجيعًا من ولاة السلطان في الولايات المجاورة؛ إذ كانت أمور مكة خلال القرن الثامن عشر موضع تدخل ولاة مصر والشام واليمن، وفيها كان يتصادم نفوذ ومصالح كل هؤلاء.
يرصد لنا المؤرخ المصري السيد رجب حراز في كتابه “الدولة العثمانية وشبه الجزيرة العربية” حقيقة مهمة في علاقة الدولة العثمانية بقلب الجزيرة العربية: “إن الدولة العثمانية في أوج عظمتها لم تمتد سيطرتها إلى بعض مشيخات أو إمارات الخليج العربي أو خليج عمان، ولم تسيطر سيطرة فعلية على قلب شبه الجزيرة العربية. ومع ذلك فقد ظل العثمانيون يدعون حقوق السيادة على كل شبه الجزيرة أو ما يعرف بالمربع العربي، الذي يحده الهلال الخصيب من الشمال الشرقي والشمال الغربي، ثم البحر الأحمر من الغرب، وخليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي من الجنوب، ثم خليج عمان من الجنوب الشرقي، والخليج العربي من الشرق”.
رجب حراز: " الدولة العثمانية في أوج عظمتها لم تمتد سيطرتها إلى بعض مشيخات أو إمارات الخليج العربي أو خليج عمان، ولم تسيطر سيطرة فعلية على قلب شبه الجزيرة العربية".
وأدى هذا إلى محاولات من أشراف مكة الذين يعترفون بالسيادة العثمانية إلى غزو نجد عدة مرات، وقد بدأت غزوتهم عام (1578)، ثم عادوا لغزوها مرة أخرى بعد ثلاث سنوات. وخلال القرن السابع عشر غزا الأشراف نجد خمس مرات في سنوات (1606، 1647، 1669، 1676، 1697).
ساعد ضعف الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر نتيجة هزائمها الخارجية المتتالية، والثورات المتعددة في اليمن، وخروجها على السيادة العثمانية، فضلاً عن انسحاب العثمانيين من البحار الشرقية، إلى قوة أشراف الحجاز واعتماد العثمانيين عليهم في شؤون جزيرة العرب؛ إذ كان شريف مكة يتسلم منصبه من السلطان، ويعترف بالقاضي الذي يعينه السلطان، ويفخر بأنه خادم الدولة والسلطان.
ومع تأسيس الدولة السعودية الأولى في قلب الجزيرة العربية سنة (1744) حدث الصدام المباشر بين أشراف مكة التابعين للدولة العثمانية والسعوديين. ووصل الأمر إلى ذروته في عهد والي مكة غالب بن مساعد، الذي طعن في إسلام إمارة الدرعية، واستصدر فتوى من بعض علماء مكة بجواز محاربة الدولة السعودية، والقضاء على دعوتها، وهذا ما كان يتمناه غالب حتى يجهز حملة عسكرية للهجوم على الدولة السعودية الأولى. وخرجت حملة عام (1790) ضد السعوديين تولى قيادتها عبد العزيز بن مساعد، كان قوامها آلاف الجنود. وبالطبع سوَّغ غالب هذه الحملة بأن السعوديين خوارج على السلطان العثماني، ومن ثم لا بُد من قتالهم.
سارت الحملة إلى نجد لغزوها، وحدثت مواجهات في مناطق عدَّة، مثل قصر البسام في منطقة “السّر”، وانضم غالب بنفسه بعد ذلك إلى الحملة، حتى يطمئن السلطان العثماني على نجاح الحملة في القضاء على الدولة، وتجددت المعارك من جديد في مناطق “الشعراء” و”البرود”. لكن جيش السعوديين استطاع هزيمة جيش غالب في معركة “العدوة”. وبعد ذلك باءت كل محاولات غالب بن مساعد في إعادة الكرة من جديد بالفشل.
يقال إن غالب بن مساعد عمل من أجل استكتاب بعض علماء مكة والمدينة رسائل استنجاد إلى السلطان العثماني، من أجل تدخل العثمانيين المباشر ضد السعوديين، باعتبارهم خارجين على الدولة العثمانية، كما استغل غالب فرصة حج والي عكا أحمد باشا الجزار واشتكى له وضع السعوديين وتأثير دعوتهم على مكانة العثمانيين في الحجاز.
عاود غالب بن مساعد الهجوم من جديد على نجد، استطاع السعوديون رد هجومه، بل استطاع الإمام سعود بن عبد العزيز أن يرد عليه بهجوم على ولايته نفسها. ومنها بدأت انتصارات السعوديين على ولاة العثمانيين في الحجاز بضم الطائف حتى استرداد مكة والمدينة النبوية وبقية الحجاز من قبضة العثمانيين واستعمارهم إلى أن استصرخ العثمانيون ولاتهم حتى تحرك واليهم محمد علي باشا على مصر بعد إغراءات عدة لتجريد حملة عسكرية على الدولة السعودية بدأ التجهيز لها منذ سنة (1809م).
استنفر العثمانيون ولاتهم ودعموا الحروب العربية البينية في الجزيرة العربية.
- عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971).
- عبدالرحمن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، تحقيق: عبدالرحيم عبدالرحمن (القاهرة: دار الكتب المصرية، 1997).
- عبدالرحيم عبدالرحمن، الدولة السعودية الأولى، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1987).
- السيد رجب حراز، الدولة العثمانية وشبه جزيرة العرب (القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربية، 1970).
الدولة العثمانية أحرجت واليها على العراق بالإصرار على تكرار فشلها أمام السعوديين
شكّل تصاعد الدولة السعودية الأولى في الجزيرة العربية منذ أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، وتوسعها في أقاليمها المختلفة نهضة سياسية وثقافية وحضارية تمددت إلى أطرافها الخارجية، وهذا انعكس بدوره على نشـأة وتكوين دولة قوية سياسيًّا وعسكريًّا.
كانت الدولة العثمانية تنظر بعين الريبة والشك إلى كل ما يجري من أحداث وتطورات سياسية في شبه الجزيرة العربية. وأدرك العثمانيون ما تشكّله الدولة السعودية الأولى من خطر محدق على مستعمراتهم في الجزيرة العربية وعلى حدودها الجغرافية ونفوذها الاستعماري في المنطقة.
رأى الأتراك في توسع الدولة السعودية الأولى وانطلاقتها ونهضتها الدينية في أراضيها العربية في إقليم نجد جرأة واندفاعًا غير مقبول من وجهة النظر التركية، وأن توسعهم في شرق الجزيرة العربية وضمهم للأحساء (1795) وطرقهم لأبواب العراق فيه تهديد لمصالحهم الاستراتيجية والاقتصادية، وبالمثل بعد ضمهم الحجاز (1805) إذ كان يشكل هالة من الهيبة والمكانة الدينية للدولة العثمانية فكان استردادها من قبل الدولة السعودية الأولى ضربة قوية لتلك المكانة المزيفة وإسقاطًا للهيبة العثمانية المصطنعة في العالم الإسلامي.
أدرك العثمانيون مبكراً التهديد الذي كانت تمثله الدولة السعودية الأولى على مصالحهم في الجزيرة العربية.
لذلك أصدر السلطان العثماني محمود الأول فرمانًا همايونيًّا لتسيير الحملات العسكرية للقضاء على الدولة السعودية والحد من نشاطها وتوسعها وعدم التهاون في التعامل معها. وتمثل ذلك بتكليف والي بغداد سليمان باشا للقيام بهذه المهمة، ولو نظرنا إلى تاريخ الحملة العسكرية (1786) لوجدنا أنها كانت في فترة مبكرة نسبيًّا من بدء الحملات الموجهة لاستهداف الدولة السعودية الأولى الناشئة، وسليمان باشا بدوره كلّف ثويني بن عبد الله آل شبيب رئيس المنتفق ليقوم بتجهيز وقيادة الحملة العسكرية الموجهة ضد السعوديين، والتي يصفها المؤرخ ابن بشر بقوله: “في المحرم سار ثويني بن عبد الله بن محمد آل شبيب بالعساكر والجنود العظيم..، ومعه من العدد والعدة ما يفوت الحصر، حتى أن أحمال زهبة البنادق والمدافع وآلاتها بلغت سبع مئة حمل”.
كذلك أكد المؤرخ العراقي المعاصر للأحداث عثمان بن سند البصري بقوله عن تلك الحملة: “فسار في كتائب كالجبال ومواكب تشرق فيها النصال”، وتوجه بتلك القوات الكبيرة قاصدًا مهاجمة عاصمة الدولة السعودية “الدرعية”، فابتدأ في طريقه بالقصيم وهاجم بلداتها بجيشه الكبير وحاصرها أيامًا، ودكّها بالمدافع فلم ينجح في دخول أصغر بلداتها “التنومة” شمال الأسياح، والتي أبدت مقاومة عنيفة وصمودًا كبيرًا من أهلها أمام الحملة، ولم ينفع مع ذلك غير الصمود، إلا أن ثويني استطاع أن يخدع أهل البلدة بالأمان، ولكنه لم يفِ بوعده معهم فأخذ البلدة ونهبها وقتل جميع أهلها إلا الشريد منهم.
وتشير المصادر إلى أن عدد القتلى قد بلغ نحو مائة وسبعين رجلاً، ثم توجهت الحملة العسكرية إلى مدينة بريدة وقاتل أهلها وحاصرها بجنوده، إلا إنه رجع عنها بعدما وقع خلاف في موطنه على زعامة القبيلة حيث انتفض عليه ابن عمه فاضطر للانسحاب بجيشه.
ورغم فشل تلك الحملة العسكرية إلا أن الدولة العثمانية لم تيأس من الطلب مرة أخرى من والي بغداد سليمان باشا للزحف إلى العاصمة السعودية، إلا أن الوالي المذكور أخذ يتذرع بذرائع عديدة على عدم قدرته تسيير حملة عسكرية ضد الدولة السعودية، منها أن قواته لا تستطيع قتال السعوديين في جهات صحراوية نائية أو في أرض مجهولة وظروف مناخية قاسية والجيش يضم عناصر متباينة من العرب والأكراد، وأن الإقدام على مثل هذا الأمر غير مأمون العواقب، غير أن إلحاح السلطان العثماني أكثر من مرة على الوالي سليمان باشا بأن يجهز حملة عسكرية لمحاربة الدرعية واحتلال الأحساء بعد استرداد السعوديين لها، فأذعن الوالي سليمان باشا أخيراً لأوامر السلطان، فسيّر حملتين لاحتلال الأحساء، حيث كلف سنة (1797) ثويني بن عبدالله مرة أخرى ليقوم بتجهيز حملة عسكرية لمواجهة السعوديين ومهاجمة الدرعية واحتلال الأحساء.
امتثل ثويني لأمر سليمان باشا وانطلق يحشد الجموع للحملة ضد السعوديين فجعل من الجهراء مركزاً لتلك الحملة، واستمر يحشد قواته هناك مدة ثلاثة أشهر، وخلالها انضمت له القبائل والعشائر والعساكر الحكومية. وقد تحركت الحملة برًا وبحرًا باتجاه القطيف، إلا أن عوامل الفشل كانت تسير معها، حيث التباين الكبير في عناصرها، وخاصة بين الزعماء القبليين، الذين مال ثويني إلى بعضهم دون الآخر، لذا كانت النتيجة الغدر بثويني وقتله في موقع الاشتباك، وهذا الاغتيال كان كفيلاً باضطراب الحملة، واختلال صفوفها، واضطرت في النهاية إلى العودة من حيث أتت.
تتابعت الحملات العسكرية من جهة العراق آنذاك تنفيذًا لأوامر استانبول، فقد تلقى والي بغداد سليمان باشا الكبير، أوامر أخرى مشددة من السلطان العثماني للسير إلى جزيرة العرب، لضرب السعوديين والقضاء عليهم فجهز في سنة (1798) حملة كبيرة بقيادة نائبه علي الكيخيا ودعمه بمختلف الأسلحة والعتاد، وضمت الحملة القوى العسكرية النظامية المختلفة، والقوى العشائرية الكردية والعربية.
وقد قدر المؤرخ العراقي ياسين العمري تلك القوات بأنها بلغت حوالي عشرين ألف مقاتل. كما شاهد المقيم البريطاني في بغداد “هارفرد جونز Harvard Johns” الاستعدادات الكبيرة للحملة التي كانت تخيم خارج أسوار بغداد على الشاطئ الغربي لنهر دجلة، وبعدما استكمل علي كيخيا استعداداته غادر بغداد بجيشه الكبير؛ متوجهًا نحو البصرة، وقد اصطحب الكيخيا. وسارت الحملة حتى وصلت البصرة، وهناك انقسمت إلى قسمين القسم الأول يضم الفرسان والقوى العشائرية وقصد بهم قائد الحملة العراقية على الكيخيا الأحساء برًّا، وأما القسم الآخر يضم فريق المشاة والمدفعية والذخائر الثقيلة، حيث استأجر القائد المذكور بعض السفن التي أبحرت بها نحو ميناء العقير على شاطئ الأحساء.
تُعتبر الحملة العراقية أولى المحاولات العثمانية لكسر الدولة السعودية الأولى.
الحملة العسكرية بقسميها البري والبحري واصلت مسيرتها حتى دخلت الأحساء بعد الكثير من المعاناة والمتاعب، وما كاد علي الكيخيا أن يقترب من الأحساء حتى قامت الحملة بمهاجمة الحصون السعودية وفرضت الحصار عليها مدة ثلاثة شهور، إلا إن الحاميات السعودية استطاعت الصمود بقوة أمام هجمات الحملة العنيفة. وكان لهذا الصمود أثره السيئ في نفسية جنود وعساكر الحملة، حيث يشير إلى ذلك المؤرخ رسول الكركوكلي بقوله: “ولما كانت القوات الحكومية تعسكر في واد غير ذي زرع. فقد نجم عن ذلك هزال الجمال، وقعودها عن حمل الأثقال، وهلك منها ما يقرب من تسعة آلاف بعير، وتناقصت الذخائر والمعدات، وراح الجنود يفكرون في مصيرهم والهلاك الذي ينتظرهم، وذهبوا إلى رؤسائهم يلحون عليهم بضرورة الإسراع في العودة لعدم وجود فائدة من بقائهم هناك”، وعادت الحملة العراقية من الأحساء بعد عدة أشهر من دون أن تحقق فيها أي انتصار أو هدف يذكر، وكانت نتيجتها الوحيدة هي عقد هدنة وصلح بين ولاة بغداد والدولة السعودية الأولى.
- وثيقة رقم: (H.H.No,6701)، أرشيف رئاسة مجلس الوزراء، إسطنبول.
- عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971).
- بريدجز، موجز لتاريخ الوهابي، ترجمة: عويضة الجهني (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2005).
- رسول الكركوكلي، دوحة الوزراء في تاريخ وقائع بغداد الزوراء، ترجمة: موسى كاظم نورس (بيروت: دار الكتاب العربي، 1963).
- ياسين بن خير الله العمري، الدر المكنون في المآثر الماضية من القرون، نسخة المتحف البريطاني، لندن، برقم:(IOR . Add. 123312) .
- عثمان بن سند، مطالع السعود بطيب أخبار الوالي داود، تحقيق: عماد عبدالسلام وسهيلة القيسي (الموصل: دار الحكمة، 1991).
- عبدالرحيم عبدالرحمن، الدولة السعودية الأولى، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1987).