في درسٍ للتاريخ... لم يفهمه سلاطين العثمانيين

السعوديون بنوا الوطن في قلوبهم قبل حدودهم السياسية

لم يكن يخطر على بال سلاطين العثمانيين أن ثمة رجالاً من صحراء الجزيرة العربية يحملون في قلوبهم إيمانًا بوطنهم العربي والإسلامي، ويسعون إلى استقلاله من براثن الترك الذين جثموا على صدورهم فأورثوهم الفقر والتأخُّر قرونًا من الزمن، في الوقت الذي تركزت فيه سلطة آل عثمان في الأقاليم العربية المليئة بالثروات مثل العراق والشام ومصر، أما الجزيرة العربية فأهملوها لعقود طويلة وتركوها لولاة مجهولين أكثروا من الظلم ضد أهلها وتركوهم عرضةً للتأخر.

مارس سلاطين العثمانيين سياسةً استعلائية تجاه الجزيرة العربية، خاصة نجد والحجاز، ومع قيام الدولة السعودية الأولى في الدرعية بقيادة الإمام محمد بن سعود (1744)، وحملِهِ رايةَ الإصلاح والنهضة، شعر العثمانيون أن ما يحدث ليس مجرد حراك قبلي داخلي، بل مشروع دولة يحمل في طياته نهضة سياسية وإصلاحًا فكريًّا.

وعلى الرغم من ذلك استهان العثمانيون بالدولة السعودية الأولى بدايةً، وتوهموا أن أي قوة سياسية داخلية تستطيع بقليل من الأسلحة والدعم القضاء عليها، غير أن التاريخ أثبت خطأ اعتقادهم وتقديرهم، إذ إن جيوش الدولة السعودية الأولى تمكنَّت من صد العدوان التركي الذي تكرر من قبل قوى عدة بالوكالة، حتى استطاعت الدولة السعودية توحيد أراضٍ شاسعة من الجزيرة العربية مما حرص الأتراك على بقاء نفوذهم فيها.

شعر سلاطين الترك بالخطر لإدراكهم أن الإمام محمد بن سعود يحمل مشروع دولةٍ إصلاحية.

اصطدمت الدولة السعودية الأولى بالدولة العثمانية بنحوٍ مباشر في العراق، الإقليم العربي الأصيل الذي يملك حدودًا مباشرة مع الجزيرة العربية، ولم يكن السعوديون يُعِدُّون بلاد الرافدين إلا إقليمًا عربيًّا يقع تحت الاحتلال العثماني مثله مثل الحجاز، وهنا كان الحلم السعودي بتحرير هذا الإقليم من احتلال الترك.

بعد أن تولى الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود الدولة السعودية الأولى إثر وفاة والده الإمام المؤسس (رحمه الله) سنة (1765)؛ استأنف بناء الدولة ومدَّ نفوذه الداخلي حتى وحَّد نجد كاملةً، وتمكَّن من توحيد شرق الجزيرة العربية.

ويقول صالح الشورة في كتابه “موقف العراق العثماني من الدولة السعودية الأولى: “لقد كان موقف العثمانيين من الدولة السعودية متغيرًا بتغير الظروف والرسائل التي تصلها”، فقد رفضت في بداية الأمر الالتفات إلى ما يحدث في وسط الجزيرة، لكن مع استمرار التقدم السعودي وجدت الأستانة نفسها تخوض المعركة تلو الأخرى ضد دولة فتية في الدرعية دون أن تحقق انتصارًا يذكر عليها.

صعدت أزمة العثمانيين بقيام الدولة السعودية الأولى إلى ذروتها،  بعد أن استردَّ السعوديون الأحساء، وعلى الرغم من أنها لم تكن تحت سلطة العثمانيين إلا أن الأمر بدا مخيفًا بالنسبة إلى الأتراك، فمع وصول السعوديين إلى موانئ الخليج العربي، استثار الأمر خصومهم، خاصةً في العراق، وما لبث أن بدأ تحريض القبائل والبادية ضد الدولة السعودية، ذلك الأمر دفع السعوديين إلى شن حملات عسكرية خاطفة على جنوب العراق، ردًا على ما كان يقوم به ولاة العثمانيين من تحريض على أتباع الدولة والاعتداء عليهم وعلى قوافلهم المارة في أراضيهم.

اقتنع العثمانيون أن التحرشات القبلية والعمليات غير العسكرية الكبيرة لن تؤثر في السعوديين، فقرروا شنّ الحملات المنظمة، وجاءت ابتداءً بحملة زعيم المنتفق في العراق ثويني بن عبد الله التي وُجِهت إلى عاصمة الدولة السعودية الأولى الدرعية، ووصلت إلى إحدى أهم المناطق السعودية (القصيم) عام (1786)، لكن البسالة السعودية أفشلت الحملة العثمانية واندحرت، وهذا ما جعل السعوديين يعتبرون أن الأمر لن يقف عند هذا الحد، وأنهم مستهدفون من قبل العثمانيين عن طريق ولاة العراق وقادته.

بعد أن جاء العثماني سليم الثالث إلى السلطنة (1798-1807) كانت الدولة السعودية الملف الأكثر إرهاقًا له في الجزيرة العربية، إذ على رغم محاولاته ومحاولات من قبله إنهاءها عن طريق ولاة العراق، لم يكن الأمر مجديًا ولا ناجحًا بالنسبة لهم، خصوصًا في ظل تباطوء وتلكوء ولاة العراق، يقابله الإيمان السعودي بالوحدة والحق الشرعي في الوطن ضد الاحتلال، فكان الفشل العثماني أمام القوة السعودية يتراكم مع كل مواجهة تجري بين الطرفين.

وتؤكد الروايات التاريخية، أن ثلاثةً من ولايات العثمانيين العربية المُحتلَّة، إما شاركت أو صدرت لها الأوامر بالقضاء على الدولة السعودية الأولى: العراق، الشام التي رفض واليها التورط في قتال السعوديين خوفًا من استفزازهم وبالتالي تمددهم في الشام، ومصر عن طريق واليهم محمد علي باشا. والأخير بدوره أرسل ولديه طوسون وإبراهيم باشا، ثم اضطر للذهاب بنفسه لقيادة الحملات، ولهذا كانت الدولة السعودية الأولى مصدر قلقٍ أهان السلطنة العثمانية وسلطانها على رغم ما تمتلكه من قوةٍ وإمكانات وفكر إمبراطوري له مئات السنين أمام قوةٍ ناشئة مقارنةً بدولتهم المستعمرة. لم يستطع العثمانيون القضاء على مصدر قلقهم في الجزيرة العربية إلا بعد أن قرروا الرمي بكل قواهم للوصول إلى الدرعية عاصمة الدولة السعودية، وحصارها وقصفها والمفاوضة على قتل النساء والأطفال، وهو ما دفع آخر أئمتها عبد الله بن سعود للتسليم والخروج حفاظًا على سلامة الأهالي، الذين غدر بهم العثمانيون.

اقتنع العثمانيون بأن ليس لهم قِبلاً بالدخول في حربٍ صريحة مع الدولة السعودية الأولى، لذا لجأوا إلى الإرهاب والخيانة والغدر، معتقدين أنهم يستطيعون أن يكسروا السعوديين، الذين بنوا وطنًا في صدورهم قبل أن يضعوا له حدودًا سياسية.

ففشل العثمانيون أمام السعوديين في الأحساء عن طريق ولاتهم في العراق وقادتهم العسكريين فيها، وانتصارات الإمام سعود بن عبدالعزيز عليهم، وطلب الكيخيا علي المُذلّ الصلح مع السعوديين، يُثبت أن السعوديين تعاملوا بنُبلٍ حتى مع أعدائهم، بينما تعامل العثمانيون بكل غدرٍ وخيانة، فما أن صالحوا السعوديين في الأحساء، حتى تحركوا من جهات أُخَر لتحقيق هدفهم في القضاء على السعوديين.

ومن أوائل أشكال الغدر العثماني ضد الدولة السعودية الأولى؛ أن أول حالة اغتيال جرت في الدرعية ضد السعوديين؛ كانت باغتيال الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود (رحمه الله) عام (1803) وهو يصلي في مسجد الطريف بالدرعية عن طريق مبعوث من العراق بعد الفشل العثماني في الأحساء، بهدف بث حالة الرعب والإرهاب بين السعوديين، انتقامًا للإهانة التي تعرض لها العثمانيون من جيش السعوديين.

أول عملية إرهاب عثماني ضد السعوديين كانت باغتيال الإمام عبدالعزيز وهو يصلي في مسجد الطريف بالدرعية عام (1803).

  1. حسين بن غنام، روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام (الرياض: دار الثلوثية، 2010).

 

  1. عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971).

 

  1. عبَّاس العزاوي، تاريخ العراق بين احتلالين (بغداد: مطبعة بغداد، 1935).

 

  1. عبدالرحيم عبدالرحمن، الدولة السعودية الأولى، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1987).

 

  1. محمد الخضيري، الدولة السعودية الأولى والدولة العثمانية (الرياض: الدار الصولتية للتربية، 2000).

 

  1. أحمد الطراونة وصالح الشورة، موقف العراق العثماني من الدولة السعودية الأولى 1745–1818م، مجلة العلوم الإنسانية، الجامعة الإسلامية بغزة، السنة 25، ع. 2 (2017).

بعد أن فشلوا عن طريق ولاتهم بالعراق

تكرار الهزيمة السعودية للعثمانيين عبر ولاتهم في الشام

وجدت السلطة الصورية للدولة العثمانية أن في قيام الدولة السعودية الأولى تهديدًا صريحًا لمكانتها وقوتها المستعمرة للوطن العربي عامة والجزيرة العربية خاصة، لا سيما بعد أن استرد السعوديون الحرمين الشريفين من المستعمر العثماني، ذلك الأمر حرمهم من أهم دعاية سوَّغوا بها استعمارهم للمنطقة، وحاولوا أن يجعلوا منها مرتكزًا شرعيًّا يُسَوِّغ سياساتهم وعنفهم ضد العرب، بترويج وتأصيل فكرة الخلافة فيهم، بينما هي أبعد ما تكون عنهم، لأنهم يفتقدون أهم شرطين لها، النسب العربي والشورى.

أجمع المؤرخون أن استرداد السعوديين للحرمين الشريفين من الاستعمار العثماني شكّل ضربة للرمزية المزيفة بخلافة التُّرك، ما اعتبره العثمانيون إهانةً لهم ولمكانتهم التي أوهموا الناس بها من خلال الترويج الديني والتاريخي، وقد أكد أحد الباحثين بالقول: “أهانوا المركز الديني للسلطان العثماني بإحكام سيطرتهم على المدن المقدسة في الحجاز. وسبَّبَ فقدان مكة أقسى ضربة إلى سمعة السلطان العثماني ومكانته الدينية بوصفه حامي الحرمين”، وهذا حسب ما يدَّعون.

الواقع الجيوستراتيجي الجديد، دفع بالعثمانيين إلى اللجوء إلى المقاربة الخشنة من خلال تجريد حملات عسكرية هدفها القضاء على الدولة السعودية الأولى في مهدها، وذلك عن طريق مجموعة من المحاور كان أهمها المحور العراقي والمحور الشامي، ويبدو أن فشل الهجمات من العراق دفع بالعثمانيين إلى محاولة الالتفاف على القوات السعودية عبر بوابة الشام، إذ كلفوا ولاتهم فيها بالقيام بحملات ضد الجيوش السعودية ومحاولة القضاء عليهم.

أول بوادر صدام الدولة السعودية الأولى مع ولاة العثمانيين في الشام كان في أحد مواسم الحج حينما قرر الإمام سعود بن عبد العزيز منع أي مظهر من مظاهر السيادة العثمانية على الحرمين، وهو ما دفعه إلى أن يطلب من أمير الحج الشامي عبد الله باشا العظم “ألَّا يأتي الحج بالمحمل والطبول والزمور…إلخ”.

هذا التعبير السعودي السيادي كان كفيلاً بتفجير الوضع والمواجهة بين الطرفين لولا أن والي الشام كان في وضع ميداني ضعيف، وفي مسرح عمليات لا يمكّنه من مواجهة السعوديين الذين يفوقونه عدةً وعتادًا، وهو ما جعل الوالي العثماني يتجنب مواجهة جيوش السعوديين، ويغادر مكة بعد ثلاثة أيام دون إتمام مناسك الحج، وهو ما كلّفه منصبه بعدما أقدم السلطان العثماني -الذي شعر بالإذلال والحرج الشديدين- على عزله بالنظر إلى أن ما وقع في مكة المكرمة ومثَّل إهانة وخطبًا جللاً سرَّع بعزل عبد الله باشا العظم وتعيين كنغ يوسف باشا الذي كُلِّف بتجهيز العمليات العسكرية لإعادة احتلال المناطق التي استردها السعوديون في الجزيرة العربية.

اكتفى الوالي العثماني كنغ يوسف باشا بمناورة السعوديين؛ تفاديًا لمواجهتهم المباشرة، محاولاً إقناع العثمانيين بتحقيق رغباتهم.

تنبه الوالي العثماني الجديد إلى خطر الجيوش السعودية، فناور لتفادي المواجهة المباشرة، واكتفى بالتحريض والتشنيع على دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب مع التركيز على حروب خاطفة على الخطوط الداخلية المتاخمة بين الشام والدولة السعودية، من خلال تجريده لبعض الحملات المحدودة مستغلاً في ذلك انشغال الأئمة بجبهات أخرى، حيث بعث الإمام سعود بن عبدالعزيز رسالةً إلى كنغ يوسف باشا يشرح من خلالها أصول المعتقد ونهج الدعوة السليمة، وفي الوقت نفسه تحذير مبطن من أي هجوم على حدود الدولة السعودية.

جاء خطاب الإمام سعود إلى كنغ يوسف باشا قويًّا، إضافةً إلى سرعة تحرك الجيوش السعودية، التي وصلت عمق الأراضي الشامية، وتعامل معها الوالي العثماني بردة فعل ضعيفة، ولم يستطع طيلة سنتين تنفيذ الأهداف التي تعهد بها أمام السلطان العثماني، ما دفع السلطان إلى عزله وتعيين سليمان باشا واليًا على دمشق وطرابلس، مع توجيهه للتنسيق مع والي مصر محمد علي باشا للقضاء على جيوش الدولة السعودية الأولى واحتلال الحرمين الشريفين من جديد.

السعوديون كانوا سببًا في ارتباك الدولة العثمانية الداخلي وتعيين ولاة المناطق المُستعمرة في العالم العربي.

على الرغم من إصدار الفرمان السلطاني بتعيين سليمان باشا إلا أنه واجه مقاومة شرسة من طرف كنغ يوسف باشا، إذ لم يستطع الوالي الجديد دخول دمشق إلا بعد مواجهات قوية مع سلفه، ليعمل بعدها على تجميع السكان حوله وتدبير الأمور المالية للولاية في ظل الأزمة الخانقة التي ضربت دمشق بعدما أقدم أتباع كنغ يوسف باشا على نهب خزينة الوالي.

وبتعيين سليمان باشا واليًا على دمشق وطرابلس، وفي ظل انشغال الدولة السعودية الأولى بتوطيد أركانها تلك الفترة، خاصة مع علمهم بإمكانية تحرك محمد علي باشا نحوهم، توقفت المواجهات على الجبهة الشامية، واكتفى السعوديون بالمراسلات التي تشرح مبادئ الدعوة.

  1. عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971).

 

  1. عبدالرحيم عبدالرحمن، الدولة السعودية الأولى، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1987).

 

  1. عبد الفتاح حسن أبو علية، محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى، ط2 (الرياض: دار المريخ، 1991).

 

  1. أسامة محمد أبو نحل، “التهديد السعودي لبلاد الشام وأثره في تولي سليمان باشا ولاية دمشق”، مجلة جامعة الأزهر بغزة، سلسلة العلوم الإنسانية، المجلد 9، ع. 1 (2007).
تشغيل الفيديو

بعد أن آمن السلاطين بفشل ولاتهم في العراق والشام

لماذا استجاب محمد علي للعثمانيين لإسقاط الدولة السعودية الأولى؟

كان وصول الدولة السعودية الأولى إلى محيطها الكبير خارج حدود الجزيرة العربية في الوطني العربي بهدف نشر الإصلاح الذي قامت من أجله ومن أجل توحيد الناس بعيدًا عن الاستعمار التركي.

بعد الصدام بين الدولة السعودية الأولى والدولة العثمانية، لا سيما مع والي بغداد. كان الصدام الكبير بعد استرداد السعوديين الحجاز؛ فقد أحدث هذا الأمر هزةً عنيفة في إسطنبول، لا سيما مع تعطل قافلة الحج السوري، التي تُعدّ القافلة الرئيسة إذ تبدأ من إسطنبول وتعبر سوريا تحت إشراف وحماية والي دمشق العثماني.  

يتساءل الباحثون عن عدم قدرة والي دمشق على مواجهة السعوديين بعد استردادهم الحجاز، والدخول معهم في مواجهة حقيقية من أجل تسيير ركب الحج الرسمي الذي كان بقيادته؟

يُلقي المؤرخ الإنجليزي، هنري دودويل في كتابه “الاتحاد السياسي لمصر في عهد محمد عليّ مؤسس مصر الحديثة” بعض الأضواء على هذه النقطة المهمة والمثيرة حول عجز الدولة العثمانية من خلال والي دمشق عن التصدي لهذا الأمر الذي اعتبرته تحديًا حقيقيًّا لمكانتها في العالم الإسلامي، ويشير إلى تخاذل والي دمشق في هذا الأمر لهدف مادي، إذ إنه من المتعارف عليه تخصيص أموال الميري عن الأراضي في دمشق وطرابلس الشام للقيام بما يستلزمه إرسال ركب الحج الشامي والإنفاق على حمايته، فضلاً عن المُؤَن والزاد اللازمين. وعليه تهاون والي دمشق في تنفيذ الأوامر الصادرة له بضرورة تسيير قافلة الحج وحمايتها، ومواجهة السعوديين. ويرى دودويل أن والي دمشق قد طمع في الأموال، وأعتقد أنه يمكنه الاستيلاء على الأموال بحجة أن الركب قد مُنِعَ من دخول الحجاز.

ويشير دودويل إلى أمر مهمٍ آخر وهو أن والي دمشق لم يقم بأيِّ مجهودٍ يُذكَر لمواجهة السعوديين، وذلك يُفسر عزله من قبل العثمانيين عن ولاية دمشق وتولية غيره.

وما أشار إليه دودويل لم يكن حالة خاصة بكنغ يوسف باشا فحسب، إذ إن ذلك ينسحب على كثير من الولاة العثمانيين في العالم العربي على مرِّ التاريخ، فالولاة يأخذون الأمر كإقطاع يضاف إلى ثرواتهم، بنهبِ الثروة العربية في الولاية التي يعينون عليها، ومن ثم فإن أمر الدولة السعودية الأولى الذي أقلق سلاطين الدولة العثمانية لم يكن بالأهمية الكبرى للولاة الذين يرون أمر الولاية فيما يزيد من أموالهم.

لم يقتصر الأمر على والي دمشق فحسب؛ إذ يشير دودويل في عبارةٍ مهمة أخرى إلى تهاون الولاة العثمانيين في مواجهة هذا الأمر رغم أهميته: “كان السلطان قد ظل لسنواتٍ عديدة يُصدِر الأوامر التي لا يؤبه لها إلى كل من والي دمشق وبغداد”، ومن أهم الأوامر التي تراخى تجاهها الولاة أمر الدولة السعودية الأولى التي آمن العثمانيون أنها أهانتهم.

توجه السلطان العثماني فأمر بتدخل والي مصر محمد علي باشا، ومعالجة هذا الأمر، ويرى البعض أن السلطان قد توجه إلى محمد علي لأنه كان في بداية ولايته، ولا يستطيع رفض أوامر السلطان. ولأمرٍ آخر بمثابة ضرب عصفورين بحجرٍ واحد، هو أن مواجهة محمد عليّ للسعوديين لن تتيح للسلطان فقط فرصة استعادة الحجاز، وإنما أيضًا إرهاق محمد علي وتبديد موارده والقضاء على الجزء الأكبر من جنوده في المعارك التي يؤمن بأنها ستكون شرسة، مما كان يأمل السلطان منه بعد ذلك في القضاء على محمد عليّ نفسه.

وقطعًا فليس هناك أي شك في نوايا السلطان العثماني في ضرب من يرى فيهم أعداءه، بعضهم ببعض، كما لم يستطع محمد علي إلا تلبية أوامر السلطان وتجهيز حملة من ولايته بقيادة ابنه طوسون، هذه الحملة التى واجهت المشكلات منذ بدايتها، ثم قادها الابن الثاني لمحمد علي إبراهيم باشا.

يحاول الباحث الأمريكي فرد لوسون تقديم تفسيرات أخرى لقبول محمد عليّ أوامر السلطان وتجهيز حملة عسكرية للدولة السعودية الأولى، وينطلق في تحليله من إطارٍ محلي مصري، مع عدم رفض الإطار العثماني ورغبات السلطان التي سبق الإشارة إليها. ويرى لوسون أنه لا بُد من الأخذ في الاعتبار أن محمد علي كان يقصد من قبول الحملة ليس فقط إطاعة أوامر السلطان، ولكن أيضًا إبعاد بعض جنوده المشاغبين ضده إلى الجزيرة العربية في حربٍ متوقع أن تكون طاحنة، كما أن نجاح محمد عليّ سيرفع صيته لدى العثمانيين.

استهدف العثمانيون محمد علي بضربه بالسعوديين لإنهاك الطرفين، والتفرغ للباقي منهما.

لم يكتف لوسون بتقديم هذه التفسيرات فحسب، وإنما قدَّم تحليلاً آخر ذا طابع اقتصادي، استنادًا إلى بعض المؤرخين؛ إذ يرى أن قبول محمد علي إرسال الحملة إلى الجزيرة العربية كان أيضًا لأسباب اقتصادية، وهي استعادة النشاط التجاري عبر البحر الأحمر، هذا النشاط الذي يمثل أهمية كبرى للاقتصاد في ولايته، وتجارة الترانزيت بين الشرق والغرب، التي كانت مصر أهم محطاتها، واسترداد السعوديين الحجاز يعني إضعاف التجارة في ولايته ومصالحها الاقتصادية.

تعددت الأسباب وراء طلب السلطان العثماني من واليه على مصر محمد علي إرسال حملة لإنهاء الدولة السعودية، ويأتي على رأسها رغبة السلطان العثماني، والحفاظ على مكانته التي هزها السعوديون في العالم الإسلامي، نظرًا لأهمية قوافل الحج، كما لا يمكن تجاهل تهاون والي بغداد ووالي دمشق في مواجهة السعوديين، يُضاف إلى ذلك رغبة السلطان العثماني في تبديد قوى محمد علي في حربٍ ضروس، نظرًا لتخوفه منه. ولا يمكن استبعاد العوامل المحلية المصرية من رغبة محمد علي نفسه في التخلص من بعض جنوده المشاغبين بإرسالهم في حرب بعيدًا عن مصر، لكن البُعد الاقتصادي لا يقل أهمية عن الأسباب السابقة وهو  رغبة محمد علي في تأكيد سيطرة مصر على طريق البحر الأحمر التجاري الدولي.

الوالي العثماني في مصر تحرك ضد الدولة السعودية لأسباب اقتصادية ولمد نفوذه في الجزيرة العربية.

  1. هنري دودويل، الاتحاد السياسي لمصر في عهد محمد علي مؤسس مصر الحديثة، ترجمة: أحمد عبدالخالق وعلي شكري (القاهر: المركز القومي للترجمة، 2007).

 

  1. فرد لوسون: الأصول الاجتماعية للسياسة التوسعية لمصر في عهد محمد علي، ترجمة: عنان الشهاوي (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2005).

 

  1. محمد السوربوني، الإمبراطورية المصرية في عهد محمد علي والمسألة الشرقية، ترجمة: ناجي عطية (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2015).

 

  1. السيِّد فرج، حروب محمد علي (القاهرة: مطبعة التوكل، د.ت).