فاجأوا الأتراك وأجبروهم على الفرار

"القنفذة".. الملحمة السعودية التي هزمت الغطرسة العثمانية

أجمعت المصادر التاريخية على أن الدولة السعودية الأولى استطاعت الوقوف والصمود أمام الأطماع التوسعية للدولة العثمانية المُستعمرة، رغم الفوارق الهائلة في الأعداد والعتاد، حيث نجح السعوديون في تسطير ملاحم عظيمة لا تزال ماثلة في ذاكرة التاريخ بقوة. فتلك الدولة التي نشأت من حدود إمارة نجدية إلى دولة في خلال زمن قياسي؛ هزَّت أركان الإمبراطورية التي ظلت قرونًا من الزمن تفرض حكمها الجائر وسلطتها القومية التركية.

واستكمالا للسرد التاريخي للمعارك التي خاضتها قوات الدولة السعودية الأولى مع القوات العثمانية الغازية، سنتطرق إلى إحدى هذه الملاحم بمنطق التحليل التكتيكي الذي قاد القوات السعودية إلى هزيمة إحدى أقوى الإمبراطوريات في العالم بفضل العقيدة التي قاتلت بها الجيوش السعودية، والتي ساهمت في رد العدوان التركي على المنطقة، ومنها معركة القنفذة سنة (1814) التي هُزم فيها محمد علي باشا على أيدي السعوديين الذين كلفوه خسائر مادية وبشرية كبيرة جدًا.

استخدم السعوديون فيها استراتيجية المفاجأة التي أذهلت جنود الوالي العثماني.

كانت القنفذة تُمثل محورًا جيواستراتيجيًّا مهمًّا بوقوعها على ساحل البحر الأحمر، وفي منتصف الطريق بين مكة وجنوب الجزيرة العربية، فهي تحقق مجموعة من الشروط التي تغري كل قائد عسكري بإخضاعها لقوته، لذلك يقول المؤرخ البريطاني جيرالد دي غوري عن أهمية موقع القنفذة لدى جيوش العثمانيين: “وكان موقع القنفذة يبدو كأنه جيِّدًا بالنسبة لإدارة المعارك منه بالتنسيق مع الحامية الموجودة في الطائف وحيث إن المكان يمكن تزويده بسهولة بالتموين والرجال”.

وتجدر الإشارة إلى أن قوات الوالي العثماني تمكنت في البداية من إخضاع المدينة الساحلية بطريقةٍ وصفها المؤرخ السعودي ابن بشر بقوله: “فسيّر  في البحر (يقصد محمد علي) أكثر من أربعين سفينة وبندروا عند القنفذة وعساكر لهم في البر، وكان في القنفذة عسكر من عسير نحو خمسمائة مقاتل، فحصرهم الروم (يقصد الترك) ورموهم بالمدافع والقنابر، فلم يزالوا محاصرين لهم حتى أخرجوهم بالأمان واستولوا عليها”.

إن سقوط القنفذة لم يكن ناتجًا عن قوة جند والي مصر العثماني، وإنما لعدم توقّع القائد السعودي في عسير وتهامة طامي بن شعيب هذا الهجوم عن طريق البحر، إذ كان منشغلاً بتسيير معظم جنوده في اتجاه الحجاز قبل أن يبلغه نبأ استيلاء الأتراك على القنفذة، ليعقب راجعًا إليها ومعه ما يزيد عن ثمانية آلاف مقاتل عاقدين العزم على استرجاعها قبل أن يستقر بها الأتراك وقبل وصول التعزيزات العسكرية التي أمر بها محمد علي باشا، وقد رأى في إخضاع القنفذة مقدمة لإخضاع جنوب الجزيرة العربية كاملاً وضمه إلى ولايته.

استمر وجود قوات محمد علي في القنفذة إلى ما يقارب شهرا قبل أن تصل طلائع جيش طامي بن شعيب التي استطاعت أن تتقدم عبر مجموعة من المسالك وتنجح في الاستفادة من وقع المفاجأة التي منحتهم امتيازًا استراتيجيًّا جعل الجيوش العثمانية في وضع دفاعي مهزوز أفقدها القدرة على تنظيم صفوفها والدفاع عن تواجدها في المدينة.

وعلى هذا المستوى، يمكن القول بأن عامل المفاجأة كان مفتاحًا لحسم مجموعة من المعارك التاريخية وهو ما جعل جميع المنظرين الاستراتيجيين يؤكدون على أهميته، وهنا يقول المُنظِّر الاستراتيجي البريطاني ليدل هارت: “الهجوم غير المباشر يقوم على فكرة تحطيم توازن الخصم باستخدام طرق مختلفة كالمفاجأة الناجمة عن اختيار اتجاه الصدمة”.

فرّ الأتراك إلى السفن هاربين من جسارة الجنود السعوديين.

ويمكن رصد وقع المفاجأة التي أحدثتها القوات السعودية في صفوف قوات محمد علي بالإحالة إلى وصف جيرالد دي غوري لحالة الهلع التي كانت عليها الجيوش التركية بالقول: “هربوا باتجاه المدينة فانتشروا بشكل مرعب هنا وهناك ومن دون محاولة أي مقاومة… ومن هول المفاجأة كان معظم جنوده يركضون حتى مياه البحر باتجاه السفن الراسية في الميناء”.

شكّلت معركة القنفذة انتصارًا باهرًا أبرز فيه السعوديون دهاءً كبيرًا في فن إدارة العمليات الحربية من خلال سرعة التحرك والالتفاف، كما سهل انضباط العناصر العسكرية، المتشبعة بعقيدة قتالية عالية على القيادة، عملية الضبط والربط وعدم تسرُّب أي معلومة من معسكرهم حتى وصولهم إلى القنفذة حيث طردوا العدو العثماني في معركة حاسمة قال عنها ابن بشر: “فنازلهم فيها ووقع قتال شديد فنصر الله طامي ومن معه وهزموهم وقتلوا منهم رجالا كثيرة وأخذوا المحطة ومن فيها…”.

  1. عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971).
  2. جيرالد دي غوري، حكام مكة (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2000).
  3. ليدل هارت، الاستراتيجية وتاريخها في العالم (بيروت: دار الطليعة، 1967).

لجأ الغُزاة فيها لقطع أشجار النخيل

"الرَّس"... البلدة السعودية التي فجَّرت الأتراك ببارودهم

لاقت قوات الوالي العثماني محمد علي معاناة كبيرة في بداية حملاتها العسكرية المتتالية على الدولة السعودية الأولى، يعود ذلك إلى وعورة البيئة الجغرافية التي تتحرك فيها القوات، فضلاً على أن الحرب كانت مع الدولة السعودية الأولى التي آمن شعبها بها، فقاوم الاحتلال بشراسة، ناهيك عن أن أهالي الأرض أعلم بطبيعة المسرح الجغرافي الذي تدور عليه المعارك، كما أن الجيوش العثمانية الغازية من مصر كانت تعاني -إضافةً إلى قوة الدولة التي يحاربونها ومجتمعها- صعوبة وصول الإمدادات العسكرية والمؤن والعتاد. لذلك كان الأمر صعبًا للغاية على أحمد طوسون بن محمد علي الذي قاد طلائع الغُزاة العثمانيين على الدولة السعودية الأولى.

وبناءً على هذا أدرك الوالي العثماني محمد علي أن الحرب لن تكون سهلة، وأن ابنه أحمد طوسون لم يكن القائد الأمثل لقيادة هذه الحملة، من هنا دفع بابنه (المُتبنى) إبراهيم باشا ومعه الكثير من المدد إلى قيادة حملة الحجاز.

ولم تتغير خطة إبراهيم باشا كثيرًا؛ إذ كان الهدف دائمًا هو التجمع في المدينة والتحرك منها عبر القصيم إلى نجد، وهو الطريق الأسرع للوصول إلى العاصمة السعودية الدرعية. وبالفعل تحركت قوات إبراهيم باشا إلى القصيم، واستطاع إسقاط بعض البلدان في طريق زحفه عبر القصيم، إلى أن اصطدم بمقاومة بلدة الرس التي رفضت الاعتراف بسلطة إبراهيم باشا، واستمرت في مقاومته بشراسة.

ومما تورده المصادر التاريخية أن إبراهيم باشا اضطر إلى محاصرة الرس وقطع النخيل حولها ليجبر أهلها على الاستسلام، لكن أهل الرس استمروا في القتال، لذلك اضطر إبراهيم باشا إلى حصار الرس لعدة أشهر. وتشير المصادر إلى قصة شهيرة ترتبط بحصار الرس ومحاولة إبراهيم باشا حفر نفق أسفل السور وزرع البارود فيه، حتى يتمكن من هدم السور والدخول إلى الرس، حيث اكتشف أهل الرس هذا الأمر، فلجأوا إلى خطة مضادة بحفر نفق موازي للنفق السابق ثم إطلاق قط وإشعال النار  في ذيله من أجل تفجير البارود الموجود في النفق الآخر، وبالتالي سقوط جنود إبراهيم باشا قتلى من جراء ذلك.

استمر إبراهيم باشا في حصار الرس أشهرًا عدَّة، لم يستطع خلالها فت عضد المقاومة الشرسة، ولم يحصل على أي نتيجة إيجابية، فلم يكن أمامه سوى المفاوضات لإنهاء هذا الوضع المعقد الذي وقع فيه أمام أسوار الرس، إذ تشير المصادر إلى أنه جرى الاتفاق على رفع الحصار عن الرس، كما نُصَّ على عدم دخول قوات إبراهيم باشا إلى المدينة حفاظًا عليها من السلب والنهب.

أربعة أشهر من الحصار أفقده فيها أهالي الرس أفضل محاربيه بشهادة النمساوي ألويس موزيل.

حاول إبراهيم باشا أن يُحيِّد الرس في غزوه الدولة السعودية، خاصةً وهو في طريقه إلى الدرعية، وهو الأمر الذي فكر فيه بعد أن أعجزته الرس عن إسقاطها، في الوقت الذي كان يعلم فيه أن القصيم تمثل موقعًا استراتيجيًّا بالنسبة له في مهمته، وإن كان قد تمكن من إسقاط بعض بلدان القصيم، إلا أنه لم يكن يضمن حياد الأهالي بينه وبين الدولة السعودية، على اعتبار أنهم سعوديون بكامل ولاءهم وعواطفهم.

يؤكد ذلك ما حدث له في الرس التي أفقدته جزءًا كبيرًا من قواته خلال الحصار، ما دعاه إلى أن يسعى إلى الصلح رغم أنه يعي في حقيقة الأمر أن ذلك يؤكد هزيمته أمام هذه البلدة السعودية، خاصةً أن أهلها كانوا على استعداد بأن يقدموا مزيدًا من المقاومة، ذلك الذي لم يكن يرغبه إبراهيم في ظل تراجع معنويات جنوده الذين كانوا يفقدون يومًا بعد آخر عددًا من قواتهم، لا سيما أن الطريق طويل إلى الدرعية، وإذا كانت هذه مقاومة بلدة واحدة فإن ذلك ينبئ عن الهزيمة لا محالة إذا ما استمر على تلك الحال.

سعى إبراهيم باشا إلى إجبار الأهالي على الصلح حتى لا يكتمل عقد هزيمته أمام الرس.

حظيت معركة الرس باهتمامٍ كبير في المصادر التاريخية؛ لأنها بصمودها هزمت القوات العثمانية وانتصرت عليها انتصارًا كبيرًا، وعلى قائدها إبراهيم باشا الذي لم يستطع دخول الرس، بل فقد المئات من جنوده. لذلك يُشير النمساوي ألويس موزيل (1868-1944) إلى أن ما حدث نهاية شهر أكتوبر من عام (1817) من صلح بين الرس وقوات إبراهيم باشا هو إقرار واعتراف من القائد العثماني بالمقاومة الشديدة التي واجهها ويصفه بقوله: “واجه مقاومة شديدة أفقدته أفضل محاربيه”. لذلك يُعد الصلح هزيمةً بكل المقاييس بالنسبة للعثمانيين في الرس.

  1. عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971).
  2. أمين سعيد، تاريخ الدولة السعودية (بيروت: دار الكاتب العربي، د.ت).
  3. ألويس موزيل، آل سعود، ترجمة: سعيد السعيد (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2003).
تشغيل الفيديو

نقضوا مواثيق الأمان وقتلوا العُزَّل

جرائم العثمانيين في "ضِرما" الخالدة

لم يكتف الوالي العثماني في مصر محمد علي وقواته الغازية بإسقاط الحجاز في عصر الدولة السعودية الأولى؛ بل قرر أن يقضي على الدولة السعودية نهائيًّا، ولتحقيق ذلك أرسل حملة يقودها ابنه إبراهيم باشا بعد فشل ابنه أحمد طوسون، وقد جاءت الحملة الجديدة بأكثر من ثمانية آلاف جندي من عناصر وقوميات مختلفة مرتزقة، كما تضمّنت بعض الضباط الفرنسيين، وعددًا من الأطباء الإيطاليين.

وصلت أفواج الغُزاة في حملتهم الثانية إلى الحجاز في أكتوبر سنة (1816)، وفي أثناء ذلك حين علم الإمام عبد الله بن سعود (آخر أئمة الدولة السعودية الأولى) بأنباء وصول حملة إبراهيم باشا وتحركها إلى نجد؛ جمع قواته واتجه لصد الغُزاة، وقبل أن يتوغل إبراهيم في القصيم اشتبك مع قواته في عدة مواجهات عسكرية.

ومع المقاومة التي أبداها السعوديون لقوات العثمانيين المدعومة والمتصلة بخطوط إمدادها، لم يكن الطريق إلى العاصمة السعودية الدرعية سهلًا كما كان يظن إبراهيم باشا وجيشه، فقد كانت الجبهات السعودية تُدافع بكل قوة وشراسة، كعنيزة والرس وشقراء وغيرها من البلدان، وكانت المواجهة الأولى لتلك القوات الغازية في بلدة الرس، التي أبدت صمودًا عزيزًا لأربعة أشهر تقريبًا، تكبدت خلالها القوات الغازية ما يزيد على ألفي وأربعمائة قتيل، وبعد تحييدها بالصلح سقطت معظم بلدات القصيم، حيث اتجه إبراهيم باشا نحو إقليم الوشم.

تراجع الإمام عبد الله بن سعود تكتيكيًّا إلى الدرعية، ليحصّنها ويدافع عنها، أما إبراهيم باشا فقد تقدّم إلى شقراء في طريقه إلى الدرعية، فحاصرها وضرب أسوارها بالمدافع، مما أدى إلى تهدّم بعض الجهات من السور، وانتهى الأمر بعقد الصلح بعدما قطع من نخيلها النصف أو يزيد.

ويذكر المؤرخ السعودي ابن بشر في تاريخه عن الإمام عبدالله أنه: “أمر سعود بن عبد الله بن محمد بن سعود في عدّة رجال معه من أهل الدرعية وغيرهم، أمر الجميع أن يسيروا إلى بلدة ضرما ويدخلوها ليصيروا عونًا لأهلها وردءًا لهم، فساروا إليها ودخلوها”.

وهذا الأمر من الإمام استشعارٌ منه بخطورة الوضع بعد سقوط معظم إقليم الوشم وأهمية بلدة ضرما كخط دفاع أول للعاصمة الدرعية، التي تقع بالقرب من سفح جبل طويق الغربي، وتبعد عن الدرعية قرابة ستين ميلًا إلى الغرب منها، ولذلك قام الإمام عبد الله بإرسال الدعم العسكري لها. يقول المؤرخ الفرنسي فليكس مانجان مشيرًا إلى ذلك: “وقبل أن يتوجّه إبراهيم باشا إلى الدرعية رأى أنه من المناسب الاستيلاء على ضرما، وكان قد تلقى تأكيدات بأنه سيجد فيها مؤنًا وفيرة”.

كما يقول المؤرخ السعودي محمد الفاخري عن إبراهيم باشا في ضرما: “ثم سار ونزل ضرما فحاربها واستباحها عنوةً، فقتل الباشا من أهلها في البيوت والسكك والمساجد، قيل قتل من أهلها اثنتا عشر مائة، ومن فيها من غيرهم خمسين، ونهب البلد كلها ثم ساق من فيها من النساء والذرية إلى الدرعية وهم نحو ثلاثة آلاف أو أكثر”.

ويبدو أن الفاخري من هول الأخبار لم يسعه إلا القول “فالحمد لله على كل حال”. بينما نجد أن “ابن بشر” يستفيض في ذكر ما وقع لأهل ضرما مع الجيش التركي البربري الغازي فيقول: “ثم إن الباشا وعساكر الترك لما وصلوا قرب بلد ضرما ركب عدد من خيل وفاضوا على البلد وقاسوها، وعرفوا منزلهم ومنزل قبوسهم ومدافعهم وقنابرهم، ثم رجعوا إلى مخيمهم  فلما كان صبيحة أربعة عشر من ربيع الثاني أقبل الباشا على البلد، ونزل شرقها قرب قصور المزاحميات بينها وبين البلد، وحطوا ثقلهم وخيامهم، ثم سارت العساكر بالقبوس والمدافع والقنابر ونزلوا بها شمال البلد قرب السور، فثار الحرب بين الترك وبين أهلها وحقق الباشا عليهم الرمي المتتابع وحربهم حربا لم ير مثله، وثبّت الله أهل البلد فلم يعبؤا به، وطلب منهم المصالحة فأبوا عليه ولم يعطوه الدنية”. ويضيف: “كانت هذه البلد ليس في تلك النواحي أقوى منها بعد الدرعية رجالًا وأموالًا وعددًا وعدة ولكن الله يفعل ما يريد، فحشدت عليهم عساكر الترك وثلموا السور بالقبوس والمدافع فلم يحصلوا على طائل، ثم حشدوا الترك عليهم أيضًا وقربوا القبوس من السور وحربوها حربًا عظيمًا هائلاً، ذُكر لي أنهم عدوا فيما بين المغرب والعشاء الآخر خمسة آلاف وسبعمائة رمية ما بين قبوس ومدفع وقنبر فهدموا ما والاهم من السور”.

صمد السعوديين أمام مدافع العثمانيين وقنابلهم حتى هدموا الأسوار.

ويكمل ابن بشر قوله: “ثم إن الباشا ساق الترك عليهم وأهل البلد ثابتون فيه فحمل عليهم الترك حملة واحدة فثبتوا لهم وجالدوهم جلاد صدق وقتلوا منهم نحو خمسمائة رجل وردوهم إلى باشاهم وبنوا بعض ما انهدم من السور، فلما رأى الباشا صبرهم وصدق جلادهم أمر على بعض القبوس وصرفها إلى جنوب البلد. وكان الحرب والضرب والرمي متتابع على أهل البلد من الترك في الموضع الأول وجميع أهل النجدة من أهل البلد والمرابطة قبالتهم عند السور المهدوم في وجه القبوس والقنابر”.

ويمضي ابن بشر في وصف تلك الحالة التي مرّت بها بلدة ضرما، وما وقع على الأهالي من ظلم وتعسف واعتداء ووحشية مفرطة يندى لها جبين الإنسانية من الأتراك فنراه يقول: “ودخلت الترك البلد من كل جهة وأخذوها عنوة وقتلوا أهلها في الأسواق والسكك والبيوت، وكان أهل البلد قد جالدوهم في وسطها إلى ارتفاع الشمس وقتلوا من الترك قتلى كُثُر ولكن خدعهم الترك بالأمان، ذُكر لي أنهم يأتون أهل البيت والعصابة المجتمعة فيقولون لهم أمان ويأخذون سلاحهم ويقتلونهم ونهبوا جميع ما احتوت عليه البلد من الأموال والأمتاع والسلاح واللباس والمواشي والخيل وغير ذلك .. وهرب رجال من أهل البلد وغيرهم على وجوههم في البرية فبين ناج ومقتول وبقيت البلد خالية من أهلها.. “.

لم يلتزم العثمانيون بأي عهد قطعوه للسعوديين فقتلوهم بعد أن منحوهم الأمان.

ويتفق مع ما ذكره ابن بشر الفرنسي فليكس مانجان الذي نقل لنا صورة المشهد المأساوي الذي عاشته ضرما وأهلها من الإجرام العثماني حيث يقول: “إن إبراهيم باشا المنتصر، الذي واجهته مقاومة لم يتوقعها، أمر الجنود بالقضاء على أهل المدينة قضاء مبرمًا، وطلب منهم ألا يبقوا على أحد، وقد نفّذ الجنود أمر قائدهم في الحال، وما كاد الأتراك المتلهفون للسلب والنهب، يهزمون آخر المدافعين عن المدينة حتى دخلوها، ونفذّوا إرادة قائدهم بسرعة تفوق سرعتهم لو طلب منهم القيام بالهجوم. فانقضّوا على الأهالي، يطلقون النار عليهم بغزارة، ودخلوا المنازل وقضوا على أهلها، وقد أنجزوا ذلك خلال أقل من ساعتين ولم يبق إلا بضع مئات من النساء والأطفال، الذين أبقت رأفة الجنود حياتهم، كان هؤلاء الضحايا المساكين يرون أمام أعينهم جثث آبائهم، وإخوتهم، وأزواجهم وقد اختلط بعضها ببعض.. كانت الدماء تسيل في الطرقات التي كانت تغص بالموتى، ذلك كان العقاب الذي أوقعه إبراهيم باشا بسكان ضرما الذين أرادوا الوقوف بوجهه..”.

من ينظر إلى تلك المشاهد التي صوّرها المؤرخون المعاصرون لمعركة ضرما الخالدة، يُدرك معنى الصمود والاستبسال من أجل الوطن والدفاع عنه، ويدرك مدى الخبث واللؤم الذي أظهره العثمانيون الغُزاة، الذين افتقدوا لبديهيات الإنسانية ومعاني الرحمة.

  1. بريدجز، موجز لتاريخ الوهابي، ترجمة: عويضة الجهني (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2005).
  2. خليفة المسعود، موقف القوى المناوئة من الدولة السعودية الثانية 1234-1282ه/1818-1866م دراسة تاريخية وثائقية (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2005).
  3. عبدالرحيم عبدالرحمن، الدولة السعودية الأولى، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1987).
  4. عبدالفتاح أبو علية، محاضرات قي تاريخ الدولة السعودية الأولى (الرياض: دار المريخ، 1991).
  5. عبدالله الصالح العثيمين، تاريخ المملكة العربية السعودية، ط12 (الرياض: مكتبة العبيكان ،2003). 
  6. عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971).
  7. فليكس مانجان، تاريخ الدولة السعودية الأولى وحملات محمد علي على الجزيرة العربية، ترجمة: محمد خير البقاعي (الرياض: دارة الملك عبد العزيز، 2002).
  8. محمد بن عمر الفاخري، تاريخ الفاخري، تحقيق: عبد الله الشبل (الرياض: الأمانة العامة للاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس المملكة، 1999).