المقاومة الشرسة أرهقت القائد العثماني إبراهيم باشا
الإمدادات والعتاد العسكري أسقط الدرعية رغم انتصار السعوديين في "البليدة"
أثبت التاريخ أن سلاطين العثمانيين لم يدخّروا جهدًا في السعي من أجل إسقاط الدولة السعودية الأولى، وعلى رغم هزيمتهم في مواجهتها في أكثر من معركة قادها ولاتهم الذين رجعوا يجرّون أذيال الخيبة بعد هزيمتهم على يد السعوديين، إلا أن العثمانيين استمروا على عنادهم وإرهابهم في وأد أي محاولة عربية للنهوض، ذاك مبدأٌ سار عليه سلاطينهم، لفرض استمرار استعمارهم واستنزافهم للحضارة العربية.
وأكثر من عانى من الحرب ضد السعوديين قوات والي العثمانيين في مصر محمد علي باشا، إذ إن قواته منذ نزولها إلى الجزيرة العربية واجهت مقاومة شرسة، يعود ذلك إلى إيمان السعوديين بدفاعهم عن دولتهم وأرضهم، إضافةً إلى أن القوات العثمانية عانت من البيئة الجغرافية الوعرة، وبُعد خط الإمدادات التي تأتيها من مصر.
ولإصرار الوالي العثماني محمد علي على تحقيق هدفه في إرضاء السلطان العثماني وتوسيع نطاق نفوذه إلى الجزيرة العربية، حاول أن يُغير مصير الحرب بضخ مزيد من الجنود والعتاد، والبحث عن سبل أقوى في اتصال خطوط الإمداد لقواته الغازية، لذا لجأ بدايةً إلى استبدال قائد الحملة ابنه أحمد طوسون بابنه إبراهيم باشا، الذي كان أكثر حنكة وقدرة عسكرية، كما كان أكثر وحشية، بعيدًا كل البُعد عن القيَم الإنسانية.
وبوصول إبراهيم باشا إلى الحجاز تغير -إلى حدٍ كبير- التوازن العسكري للقوات العثمانية في الجزيرة العربية، لا سيما مع وصول الإمدادات من مصر وغيرها من الولايات مما استنفره السلطان العثماني، إضافةً إلى ضخ المزيد من قوة المدافع الحربية في القتال. ومع ذلك لم تكن المعارك سهلة على الإطلاق بالنسبة للعثمانيين في مواجهتهم للدولة السعودية الأولى، يُثبت ذلك ما حدث في حصارهم الرس سنة (1817م)، وما لاقوه من مقاومة على رغم تغيير استراتيجيتهم، وحجم القوات والعتاد الذي تضاعف عما كان عليه في حملة طوسون.
أصرَّ الوالي العثماني محمد علي على إسقاط الدولة السعودية الأولى إرضاءً لسلطانه العثماني ورغبةً في مد نفوذه للجزيرة العربية.
كانت خطة إبراهيم باشا بعد إسقاطه المدينة المنورة فتح الطريق إلى القصيم والسيطرة عليها سريعًا؛ لأنها الطريق الأسرع للوصول إلى عاصمة الدولة السعودية الأولى الدرعية، التي لم يتمكن من الوصول إليها إلا بشقِّ الأنفس سنة (1818م)، بعد أن أصرَّ على تدفق الإمدادات والعتاد الذي لم ينقطع من والده منذ نزوله الأراضي السعودية. وعلى رغم هذا الدعم الكبير؛ فإن المتتبع لظروف حملة إبراهيم باشا يلحظ الخسائر الكبيرة التي ألحقها به السعوديون على رغم إسقاطه للمدن والبلدات السعودية في طريقه للدرعية، غير أن خط الإمداد كان سببًا رئيسًا في وصوله الدرعية، إضافةً إلى نهج إبراهيم باشا في الوحشية والانتقام ممن يقع في يده من الأهالي أيًا كان، ذلك أحدث حالةً من الإرهاب الحقيقي، باعتبار أن العرب لم يعتادوا مثل هذه الوحشية واللا إنسانية التي واجهوها من القوات العثمانية، التي كانت تُسقط كل كرهها وإرهابها على البسطاء من الناس قبل المقاتلين، وخير مثالٍ على ذلك ما حدث في ضرما من وحشيةٍ عثمانية وإبراهيم باشا في طريقه إلى الدرعية.
ومع اقتراب إبراهيم باشا من الدرعيَّة تحصَّنت القوات السعودية فيها، استعدادًا للدفاع عنها أمام القوات العثمانية الغازية؛ إدراكًا من السعوديين بقيادة إمامهم عبدالله بن سعود أن الدفاع عن الدرعية ملحمتهم المهمة، وأنها حصنهم الأخير، لذلك لم يكن الطريق أمام العثمانيين سهلاً، إذ استمر السعوديون في الدفاع عن الدرعية لمدة ستة أشهر تقريبًا، أعجزوا خلالها إبراهيم باشا، وأحدثوا له إشكالات عدَّة بخسارة أفضل وأشرس مقاتليه على أسوار الدرعية التي رغم الحصار أذهلت الغُزاة، وجعلت قائدهم يعاني ويخشى ألا يصل إلى مبتغاه، رغم أن الظروف كلها كانت تشير إلى أنه بوصول القوات العثمانية خلف أسوار الدرعية ستنتهي المعارك.
وخلال الحصار العثماني للدرعية؛ دارت معارك عدَّة مثل: العلب، غبيراء، سمحة النخل، السلماني، شعيب قليقل، حريق المستودع وواقعة الرفيعة. وكانت أقوى المواجهات بين الجيش السعودي الذي دافع بشراسة عن أرضه أمام الغُزاة في شعيب البليدة؛ البليدة تقع التي في المنطقة الجنوبية من مدينة الدرعية.
ويصف المؤرخ السعودي عثمان بن بشر هذه الواقعة قائلًا: “وقعت عند البليدة الشعيب المعروف في الجهة الجنوبية، وقتل فيه من أهل الدرعية عدة قتلى، وقتل من الروم مقتلة، ثم وقعت عند البليدة أيضًا حمل الروم على أهل الدرعية في متارسهم واستولوا عليها، وحصل قتال شديد من بعد الظهر إلى ما بعد العصر، ثم حمل عليهم أهل الدرعية وأخرجوهم من المحاجي، وقتلوا من الروم عدة قتلى، واستولوا على قتلاهم”.
استمرت المعارك والمواقع بين كرٍ وفَر، واستمر حصار الدرعية إلى أن حدث الصلح وسقطت الدرعية في يد قوات إبراهيم باشا التي لم تصل لمبتغاها إلا بعد أن تكبدت خسائر كبيرة، وواجهت صمودًا كبيرًا من السعوديين الذين لم يفرطوا في عاصمتهم، لولا أن موازين الحرب لم تكن متكافئة.
ستة أشهر من الصمود السعودي في الدرعية جعل القائد العثماني يشك في قدراته وجيشه الجرار.
- عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971).
- بريدجز، موجز لتاريخ الوهابي، ترجمة: عويضة الجهني (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2005).
- أمين سعيد، تاريخ الدولة السعودية (بيروت: دار الكاتب العربي، د.ت).
- عبدالرحيم عبدالرحمن، الدولة السعودية الأولى، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1987).
- عبدالفتاح أبو علية، محاضرات قي تاريخ الدولة السعودية الأولى (الرياض: دار المريخ، 1991).
- فليكس مانجان، تاريخ الدولة السعودية الأولى وحملات محمد علي على الجزيرة العربية، ترجمة: محمد خير البقاعي (الرياض: دارة الملك عبد العزيز، 2002).
ستة أشهر استنزفت القوى التركية على الأسوار
بشهادة الفرنسي "مانجان"... المرأة السعودية قهرت الرصاص العثماني في معارك الدرعيَّة سنة (1818م)
من يتتبع العداوة التي ناصب العثمانيون بها السعوديين، ومن يعي ما بذلوه من إمكانات مالية وعسكرية وبشرية، وما أصدروه من فرمانات، وما قضوه من سنوات في سبيل القضاء على الدولة السعودية الأولى؛ فإن سقوط الدرعية لن يكون مفاجئًا له، بل سيقف كثيرًا عند القوة التي كان يتمتع بها السعوديون، والشراسة التي مكنتهم من أن يقفوا بإمكاناتهم البسيطة أمام قوة إمبراطورية قضت قرونًا وتمددت شرقًا وغربًا.
من يتابع عن كثب عداوة العثمانيين للدولة السعودية الأولى، سيؤمن أن سياسة العثمانيين اقتضت وأد أي حراك عربي، وأصرت على إسقاط السعوديين تحديدًا؛ لأنهم كانوا يحملون لواء نهضة العرب المُرتقبة، التي كان الترك يخشونها قرونًا من الزمن، وكانت حتمًا ستُعيد للعرب دولتهم ومجدهم التليد، لذلك جندَّت الدولة العثمانية كل قواها العسكرية والإعلامية في زمنها ضد السعوديين، بدأتها بالتشويه المتعمد من قبل لفكر دولتهم بترويج الأكاذيب والتدليسات، ووصفها بمسميات كالوهابية بقصد عزلهم عن محيطهم العربي، وكي لا تكون قدوةً لغيرها في العالم العربي، كما اقتنع العثمانيون أن دولةً كهذه لا يمكن القضاء عليها إلا بقوة عسكرية واستنفار على أوسع نطاق، وهذا ما سبق الإشارة إليه في موضوعاتٍ سابقة من تتبع تسيير الحملات العسكرية الغازية للدولة السعودية من ولاة العثمانيين في العراق والشام ومصر، وهذه السياسة العثمانية التي بدأت مع قيام الدولة السعودية الأولى سنة (1744م) وتحديدًا بعد ذلك بسنتين بأول موقف عدائي دعائي ترجمته بحملاتها الفاشلة التي بدأتها من العراق.
ومن خلال الاطلاع على التفاعل العثماني مع الدولة السعودية الأولى، نلحظ أنهم اعتبروا مسلمي الدرعية أخطر عليهم من أوروبا التي تخالفهم الدين والملَّة، لذلك مارس العثمانيون في تلك الفترة أمام الأوروبيين السلام وتبادلوا معهم المصالح والمبعوثين الدبلوماسيين. ما يعني أن السلطان العثماني وولاته كانوا يخشون الدرعية الأبيَّة التي كانت تقع في قلب الصحراء ويجهلها الترك، وبالقرب من بحرِ الرمالِ المخيف بهيبته كسكانه، أكثر من خوفهم من أوروبا بكل دولها.
أوروبا بدولها وقواتها لم تربك العرش العثماني كما فعل السعوديون.
وهذا ما يُفسر استخدام العثمانيين المفرط المتوحش غير الإنساني للقوة العسكرية ضد الدرعية في معركتهم الأخيرة مع السعوديين، ليثبت أن الدولة العثمانية حاربت السعوديين بالإرهاب أكثر مما حاربتهم بقوة عسكرية، ومن غير أن يعير الترك وولاتهم الشرف والشجاعة والشهامة أي وزنٍ على أرض المعركة، لذلك قتلوا الأطفال والنساء والرجال العُزل بلا رحمة، وخانوا بلا مرؤة، واجترؤوا على الدماء المعصومة والمدنيين الأبرياء بكل لؤم، ومن دون أن يرف لهم جفن.
قتل العثمانيون الأبرياء ومنعوا الناس من الطعام والماء سعيًا في إرهاب السعوديين.
كل ذلك لأن ملحمة السعوديين الكبرى ضدهم كانت أكبر مما يتخيلون، وأقوى مما يتوقعون، بدءًا من لحظة وصول غزاتهم من العراق ثم من مصر، وبدءًا من ينبع مرورًا بالمدينة النبوية حيث معارك وادي الصفراء، ثم الطائف وتربة، ووادي بسل والقنفذة والباحة وعسير، وأخيرًا عاصمة الدولة السعودية الأولى الدرعية.
ولعل أخطر ما فعلته الدولة العثمانية وفشلت فيه في الوقت نفسه؛ محاولتها استئصال فكر الدولة السعودية الأولى وهويتها من وسط الجزيرة العربية حتى لا تقوم لها قائمة بعد جرائمهم في الدرعية، لذلك لم يبق العثمانيون مخطوطةً ولا كتابًا إلا وصادروه، ولا عالمًا إلا قتلوه أو رحّلوه عن وطنه، سعيًا منهم إلى أن تبقى البلاد السعودية خرابًا، بلا ذاكرة معرفية تعيد بعث الدولة وتؤسس لها من جديد.
لم يعِ العثمانيون أن الدولة السعودية قامت في صدور الناس ورسمت لها وطنًا حدوده قلوب السعوديين، الذين تعلقوا بأئمتهم وفكرهم، يدلِّل على ذلك أنه ما إن خرجت جيوشهم من طرقات الدرعية وساحاتها حتى عاد السعوديون إلى سيرتهم الأولى ينشرون تعاليم الإسلام الصحيحة ويقيمون المدارس والحلقات، وما هي إلا بضع سنوات حتى انطلقت الدولة السعودية الثانية.
قبل أن تداهمها البربرية التركية العثمانية وتدمر أسوارها وتحرقها؛ كانت الدرعية زينة مدائن الدولة السعودية الأولى وعاصمتها، بعدما تحولت إلى نقطة التقاء العلم بالسياسة في جزيرة العرب، التي لم تعرف دولة موحدة منذ فترةٍ مبكرة من التاريخ الإسلامي، لتأتي الدرعية موقظة مجد العرب وسلطانهم من جديد، بعد أن تاهت الهوية قرونًا.
لقد كانت أولى أولويات السعوديين في عاصمتهم الدرعية وبلدانهم كافة أن يعم الأمن والأمان وتبسط الأرزاق وينتشر العدل والعلم، حتى يشعر السكان بأثر الدولة في حياتهم ومعاشهم، ولذلك يقول المؤرخ السعودي عثمان بن بشر في وصفه لحال الدرعية: “كان الداخل في موسمها، لا يفقد أحدًا من أهل الآفاق من اليمن وتهامة والحجاز وعمان والبحرين وبادية الشام والعراق وأناس من حاضرتهم، إلى غير ذلك من أهل الآفاق مما يطول عده، هذا داخل فيها وهذا خارج منها، وهذا مستوطن فيها”.
وعلى الرغم من المعارك الكبرى التي خاضتها الجيوش السعودية في أقاليم عدة دفاعًا عن دولتها ضد الغُزاة العثمانيين القادمين من الحاميات العثمانية في الأقطار العربية بأوامر من إسطنبول، بدءًا من الأحساء ثم الحجاز ثم أقاليم تهامة والطائف وعسير، إلا أن تلك المقاومة الشرسة من السعوديين للجيش العثماني أُنهكت بسبب الأسلحة المتقدمة التي استخدمتها الدولة العثمانية والإمدادات والإمكانات الكبرى التي سخرّتها إسطنبول لجيوشها بهدف القضاء على السعوديين في بلادهم، وقد أثر ذلك في سقوط البلدات السعودية واحدة تلو الأخرى حتى وصلت قوات إبراهيم باشا إلى مدينة الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى وأطبقت الحصار عليها في (1818م).
استمر الحصار القاسي عدة أشهر عانت فيه الدرعية وأهلها من الجوع ونقص العلاج والمياه، بسبب الاستخدام الإرهابي للقوة في حق الأهالي خلال محاولات اقتحامها، وحين اخترق الغُزاة العثمانيون أسوار الدرعية كان ذلك إيذانًا بسقوط الدولة السعودية الأولى، إذ لم تتمكن قوات السعوديين من صد الهجوم الأخير بالرغم من شجاعة المدافعين والمدنيين من الناس في الدرعية ممن التحموا في كتلة واحدة ضد الإرهاب العثماني.
اضطر المدافعون إلى التراجع ومع استمرار الضغط على المدينة انتقل الإمام عبد الله بن سعود من باب سمحان إلى حي الطريف وتحصّن فيه بعد أن استولت قوات إبراهيم باشا على جنوب الدرعية، ووجد الإمام عبدالله أن الاستمرار في القتال سيؤدي إلى كارثة إنسانية لأبناء شعبه أمام جيش ودولة لا تقيم للدين والقيم اعتبارًا، ليعلن رحمه الله في ذي القعدة سنة (1233هـ) بعد ستة أشهر من حصار الدرعية طلبه الصلح والأمان للدرعية وأهلها مقابل تسليم نفسه، استسلم الإمام عبدالله مع جنوده فداءً للأبرياء من أبناء شعبه، حيث أُخذ إلى القاهرة ومنها فيما بعد إلى إسطنبول عاصمة العثمانيين حيث غدر به سلاطينهم وخانوا عهدهم بقتله شهيدًا رغم وعودهم بخلاف ذلك.
سلَّم الإمام عبدالله بن سعود نفسه لقوات إبراهيم باشا فداءً للأبرياء من شعبه.
إسقاط العثمانيين للدرعية لم يكن عملاً عسكريًا فحسب، بل كان إجهاضًا للمشروع النهضوي والإصلاحي الذي قادته الدولة السعودية الأولى منذ قيامها حتى سقوطها، لذلك سعى إبراهيم باشا بعد إسقاط الدولة وعند مغادرته الدرعية على حمل كل ما وجده فيها من الكتب والرسائل العلمية والدينية، وعند وصوله مدينة حريملاء انتقى منها عشرة أحمال وأحرق الباقي، ولم يبق أثرًا للوثائق والرسائل والكتب التي كانت تحويها خزائن الدرعية.
سرق إبراهيم باشا الكتب ودمر المكتبات وأحرقها مع الوثائق والمراسلات التي وقعت عليها أيديهم بعد سقوط الدرعية.
كما كشفت المراسلات بين الوالي العثماني محمد علي باشا وابنه على أن المعارك بين إبراهيم باشا وأهل الدرعية بدأت فور وصوله إليها سنة (1818م)، حيث قام بحفرِ المتاريس مقابل متاريس الإمام عبدالله بن سعود، وقد وصف إبراهيم باشا خطة الإمام عبدالله العسكرية على النحو التالي: “بما أن الدرعية كائنة بين جبلين فقد قسم عبدالله بن سعود رجاله، على الجبال وأطراف مضيق الدرعية وفي داخل الحدائق – أي المزارع – المختلفة، وبقية أعوانه في داخل الأسوار والأبراج وقوى متاريسه تقوية جدية على وجه لا تنفذ فيها القذائف”، مشيرًا إلى أن الإمام بادر بإطلاق النار من أسلحته دفاعًا عن بلدته.
وخلال اشتداد معارك الدرعية ومرابطة الرجال على الأسوار، فقد كان للنساء دور مهم، وقد أشار الفرنسي فليكس مانجان الذي كان مقيمًا في بلاط محمد علي باشا والمطلع على مراسلات الجنود وإبراهيم لذلك ما نصه: “علم الإمام عبد الله بغياب إبراهيم باشا عن معسكره فأصدر الأوامر لرجاله بضرب كل خطوط الأتراك، وقد استمرت المعركة بعنف وصلابة، كما استمرت نيران البنادق والأسلحة ساعات عدة، وكانت درجة الحرارة مرتفعة جدًا، وقد رأينا نساء الدولة السعودية يحملن جِراراً مليئة بالماء ويمررن أمام طلقات البنادق بكل شجاعة ليسقين المدافعين من الجنود”.
بعد 6 أشهر من القتال والحصار المتواصل لم يستطع إبراهيم باشا أن يحسم معركته ضد الدرعية إلا بعد وصول إمدادات ضخمة أرسلها إليه والده محمد علي باشا، ليبدأ إبراهيم بالاستعداد للهجوم الأخير، وبدأ بجمع مدافعه حول جهات الدرعية الأربع وحشد خيالته وجنوده عند الجهة الجنوبية من الدرعية، بينما ركز مدافعه على الجهة الشمالية أكثر من غيرها. ويصف ابن بشر ذلك قائلاً: “عند الفجر اتجه الخيالة والجنود إلى مشيرفة في الجهة الجنوبية وفيها نخل الإمام سعود الكبير بن عبد العزيز فوجدوا المكان خاليًا فدخلوه واستولوا عليه، ثم ابتدأ الهجوم العام من جميع الجهات ليشغلوا أهل الدرعية عن استيلائهم على مشيرفة”. ويكمل ابن بشر: “فاشتد القتال بين الجانبين ولم يلبث أن خرجت خيالة وجنود إبراهيم باشا على أهل الدرعية من جهة مشيرفة ففاجأوا أهل الدرعية وحصل منهم الارتباك ثم الانهزام فتركوا مواقعهم وتفرقوا، كل أهل نزلة قصدوا منازلهم وتوزعوا على الأحياء واعتصموا فيها ومنهم سعد بن الإمام عبد الله بن سعود الكبير تحصّن في قصر غصيبة ومعه خمسمائة من أعوانه. أما الإمام عبد الله بن سعود الكبير فقد كان في سمحان عند بوابتها حينذاك مع مجموعة من أهل الدرعية يقاتلون عنها، فلما علم بهذا التطور انتقل من سمحان إلى قصره في الطريف وتحصّن فيه، فاستولى جنود إبراهيم باشا على سمحان وأخذوا يرمون أصحاب البيوت بالمدافع. فخرج عليهم أهل السهل بين الجبلين وعلى رأسهم الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي وابنه الشيخ سليمان مستميتين في طرد قوات إبراهيم باشا واستمر قتالهم في الشوارع وأمام الدور حتى الليل، واستطاعوا زحزحة قوات إبراهيم باشا من مكانها بعد أن سقط العديد من القتلى وأرادوا الصلح مع إبراهيم باشا على البلد كلها فأبى إلا على السهل فقط. فعاد القتال بين الجانبين وركز إبراهيم باشا مدافعه على الطريق حيث يعتصم الإمام عبد الله بن سعود الكبير، فتهدمت جوانب من القصر، فخرج الإمام عبد الله مدافعه منه ونقلها إلى مسجد الطريف وأخذ يرمي عدوه منه ومعه مجموعة من أهل الدرعية، واستمروا على ذلك يومين في قتال عنيف، ثم حصل تناقص في أتباع الإمام عبد الله حيث وقعت كافة الحصون في اليوم الثاني من الهجوم ولم يبق غيره”.
ويضيف ابن بشر “فلما رأى الإمام عبد الله ذلك بذل نفسه وفدى بها عن النساء والولدان والأموال، فأرسل إلى الباشا وطلب المصالحة، فأمره أن يخرج إليه، فخرج إليه وتصالحا على أن يركب إلى السلطان وانعقد الصلح على ذلك”.
- عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971م).
- فليكس مانجان، تاريخ الدولة السعودية الأولى وحملات محمد علي على الجزيرة العربية، ترجمة: محمد خير البقاعي (الرياض: دارة الملك عبد العزيز، 2002م).
- عبدالرحيم عبدالرحمن، الدولة السعودية الأولى، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1987م).
- عبدالفتاح أبو علية، محاضرات قي تاريخ الدولة السعودية الأولى (الرياض: دار المريخ، 1991).
- فاطمة القحطاني، حملة إبراهيم باشا على الدرعية وسقوطها (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2009).
- حمد العنقري، مكتبات الدولة السعودية الأولى المخطوطة: دراسة تحليلية لعوامل انتقالها واندثارها بعد سقوط الدرعية (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2009).
في صورةٍ تاريخية سوداء تشهد على جرائمهم
العثمانيون خانوا الإسلام في "الدرعية"
إن المتتبع والقارئ للتاريخ الإسلامي، وعلى اطلاعٍ بأسلوب المواجهات العسكرية التي قادتها الجيوش الإسلامية على حالتها المعتادة فيما حدث تاريخيًّا من مواجهات، إذ حرص المسلمون على تطبيق مجموعة من الضوابط الأخلاقية والقيميِّة التي لم تحد عنها إلا بعض التنظيمات وأصحاب الضَّلال، خصوصًا أولئك الذين أصروا على الفهم المتشدد لنصوص التشريع الإسلامي، وحرَّفوها عن سياقها ولووا أعناق النصوص بما يخدم نهجهم المتشدد وطرحهم التكفيري والدموي.
ومن الآثار العطرة التي تمسّك بها المسلمون في حروبهم، ما جاء في وصية الخليفة الراشد أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- ليزيد بن أبي سفيان عندما أرسله إلى الشام حيث أوصاه قائلاً: “وإنكم ستجدون أقوامًا قد حبسوا أنفسهم في هذه الصوامع، فاتركوهم وما حبسوا أنفسهم له، ولا تقتلوا كبيرًا هرمًا ولا امرأةً ولا وليدًا، ولا تخربوا عمرانًا ولا تقطعوا شجرةً إلا لنفع، ولا تعقرن بهيمةً إلا لنفع، ولا تحرقن نخلاً ولا تغرقنه، ولا تغدر ولا تُمثل ولا تجبن ولا تغلل”.
من منطلق أدب الحرب في الإسلام في مواجهة الكفار والمشركين، كيف سيكون الحال إذا كانت حربًا ضد مسلمٍ مدافعٍ عن أرضه ووطنه، ومؤمنًا بعقيدته. هذا ما لم تُعر له الدولة العثمانية وزنًا في حربها ضد الدولة السعودية الأولى، هذه الدولة التركية التي جعلت من الدين والإسلام شعارًا أكثر منه ممارسة حياتية ومنهجًا تسير عليه، ففي الوقت الذي ادعت فيه أنها تُمثل الخلافة الإسلامية وهي بعيدةٌ كل البُعد عنها كانت تتعامل مع المسلمين أنفسهم بأقسى أنواع الظلم والإرهاب والتشفي، وتقوم بما لا يُشابه سوى أفعال البرابرة وأبناء عمومة الترك من المغول، حيث أثبت العثمانيون أنهم لا يعيرون آداب الإسلام أي وزن، خاصةً ما يخص الحروب والتقيد بما أمر به الإسلام فيها أيًّا كانت أسباب الحرب وظروفها، ومع من.
في هذا السياق، جاءت مقدمات إرهاب العثمانيين في الدرعية من خلال هجوم قوات إبراهيم باشا عليها من أربع جهات فيما يشبه استراتيجية “فكي الكماشة” ودك الأسوار بطلقات المدافع وهو ما واجهته جيوش الدرعية بشجاعة واستبسال منقطع النظير، في موقف يصفه المؤرخ السعودي ابن بشر بالقول: “ونهضوا على الروم من كل جانب كأنهم الأسود وقاتلوا قتالا يشيب من هوله المولود، فأظلمت الهجيرة كأنها الليل وصريخ السيوف في الرؤوس كأنه صهيل الخيل”.
ورغم المقاومة الشرسة التي أبدتها جيوش السعوديين، إلا أن طول الحصار الذي استمر قرابة ستة أشهر، انتهى بسقوط عاصمة الدولة السعودية الأولى بعدما قدَّم الإمام عبدالله بن سعود أن يفتدي بنفسه حياة الرعايا السعوديين، وهو ما قبله منه إبراهيم باشا شريطة إرساله إلى مصر لينظر في أمره الوالي العثماني فيها محمد علي.
وارتباطا بما بدأناه عن آداب الحرب؛ فإن ما قامت به القوات العثمانية يُعد جرائم حرب في المفهوم الحديث والمعاصر، التي لا يمكن أن يقوم بها سوى المجرمين، ولا تعترف بها الإنسانية، ولا يمكن أن تصدر عن بشر، فكيف إن صدرت من دولة تدعي أنها تمثل الإسلام والمسلمين.
ومما وصفته كتب التاريخ أن جنود إبراهيم باشا قاموا باستباحة الدرعية في مظهر مُفجع يصفه ابن بشر بالقول: “ثم أمر على العساكر أن يهدموا دورها وقصورها وأن يقطعوا نخيلها وأشجارها ولا يرحموا صغيرها ولا كبيرها…وأشعلوا فيها النيران وأخرجوا جميع من كان فيها من السكان، فتركوها خالية المساكن كأن لم يكن فيها بالقديم ساكن”.
بالمفهوم الحديث والمعاصر يُصنَّف الإرهاب العثماني في الدرعية ضمن جرائم الحرب.
وفي السياق نفسه تم رصد صور لتدمير الدرعية من طرف العثمانيين، فنجد الإنجليزي بريدجز يصف إحدى هذه المشاهد فيقول: “لحقت قوات من المشاة الأتراك بالهاربين إلى داخل حقول المدينة حيث أسروهم وقتلوهم مباشرة، وأخذ الجنود رؤوس المقتولين وآذانهم وحملوها إلى قائدهم لأجل الحصول على الثمن المرصود لها”.
لقد تمت استباحة الدرعية بنحوٍ وحشيٍّ وانتقاميٍّ رغم استسلام إمام الدولة السعودية الأولى مقابل الأمان لأهلها، وهو ما يقطع بأن الهدف لم يكن الانتصار العسكري فقط، وإنما مسح كل أثر للدولة السعودية، هذا الهدف يُضاف إليه رغبة الأتراك في عدم تخصيص أية حامية عسكرية للدرعية وتحويلها إلى أثر مجرد بعد عين، وهو ما يؤكد عليه البريطاني جورج سادلير بالقول: “لقد وصلتني أنباء عن تدمير الدرعية بالكامل، ويبدو لي أن القصد من التدمير لم يكن فقط إنهاء السلطة الوهابية، بل أيضا عدم تخصيص قوات عسكرية لحمايتها، ولذا كان لا بد من هدمها كما فعل”.
البريطاني سادلير نقل قناعاته عن جرائم الأتراك في الدرعية بأنها لم تكن مجرد إسقاط دولة.
إجمالا يمكن القول بأن تدمير الدرعية جسَّد صورة تاريخية سوداء ما زالت تنطق بجرائم العثمانيين في المنطقة العربية، ولا تزال أرضها تسرد حكاية بطولات أئمة الدولة السعودية الذين استرخصوا أنفسهم لحفظ دماء المسلمين، وأسسوا لتطهير الأرض من المستعمر العثماني لتظل مصدر إلهام لمن جاؤوا بعدهم وساروا على نهجهم إلى أن تمكنوا سنة (1932م) من تأسيس دولة قوية على يد المغفور له المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، واستطاعت دولته أن تحجز لها مكانًا في عالم لا يقيم وزنًا واعتبارًا إلا للكبار كالسعوديين.
ومن ثم لم يبق من التاريخ للعثمانيين إلا العار والصفحات السوداء، التي طمسها السعوديون بشجاعتهم وقوتهم ووطنهم، الذين انتصروا على الغُزاة وطهروا أرضهم منهم، على الرغم من الإرهاب العسكري والفكري الذي استخدمته الدولة العثمانية ضدهم، بالآلة العسكرية المتطورة في زمنها والقوات الجرارة التي بعثت بها إلى الجزيرة العربية، والحملة الممنهجة التي حاولت من خلالها تشويه صورة السعوديين البيضاء.
- محمد الواقدي، فتوح الشام (بيروت: دار الكتب العلمية، 1997م).
- عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971).
- بريدجز، موجز لتاريخ الوهابي، ترجمة: عويضة الجهني (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2005م).
- جورج سادلير، رحلة إلى الجزيرة العربية، ترجمة: عيسى أمين (بيروت: المؤسسة العربية، 2000م).
- عبدالرحيم عبدالرحمن، الدولة السعودية الأولى، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1987م).
- عبدالفتاح أبو علية، محاضرات قي تاريخ الدولة السعودية الأولى (الرياض: دار المريخ، 1991م).