في مواجهة البربرية العثمانية

رجالٌ ونساءٌ وأطفال... سعوديون هزموا الغُزاة وحققوا بطولاتٍ دونها التاريخ

مهما حاول المؤرخون تصوير ما وقع من العثمانيين واجتياحهم للجزيرة العربية في عصر الدولة السعودية الأولى لن يصفوا حجم الجريمة التي اقترفها التُّرك حينها من قتل، وتشفٍ، وتمثيلٍ بالقتلى، ومحاولة إيغال في الإرهاب. وبقدر وحشية العثمانيين وجرمهم صُدموا بأبطالٍ لم يتوقعوا مواجهتهم حين قرروا إرسال حملاتهم وعساكرهم وعتادهم، بطولات السعوديين دونتها المصادر التاريخية التي عاصرت الجرائم التركية في حينها، ووصفت كيف كانت مواجهتهم بمواقف بطولية من قبل الأهالي ضد أولئك الغزاة الهمج في حملاتهم على السعوديين.

وقائمة البطولات السعودية طويلة مما دونته كتب التاريخ، ومما يُذكر أنه حين هاجمت الحملة التركية بقيادة مصطفى بك بلدة تربة سنة (1813) تصدّت له البلدة برجالها من قبيلة البقوم، حيث يصف البريطاني هارفرد جونز التصدي بقوله: “لقد أبدت قبيلة البقوم خلال المعارك عملاً مميزًا حيث تزعمتها امرأة تدعى غالية وكانت أرملة لواحد من شيوخ تلك القبيلة، وكان أحد أسباب نفوذ الأرملة غالية أن مضافتها كانت مفتوحة لكل السعوديين المخلصين”.

وتشير المصادر التاريخية إلى أن غالية أعدّت العدة وأنفقت الأموال في سبيل دعوة القبائل للانضمام إليها لمواجهة الغزاة المعتدين، وجعلت من بيتها مقرًا للقيادة العامة، ومن تلك التدابير قيام الأهالي من البقوم بإنشاء بعض البروج على سور بلدتهم. ويذكر بريدجز أيضًا عن ردة فعل الترك بعد مقاومة البقوم لهم بقوله: “لقد أضاف العسكر الجهلاء المؤمنون بالخرافات إلى إنجازات غالية الأخرى السحر والشعوذة، وكانت القصص التي يرددونها حول هذا الموضوع لا تتناسب في سخافتها بأي حال مع القوة التي تتمتع بها تلك المرأة، وعلى كل حال لم تكن تلك القصص بدون أثر في الأتراك المؤمنين بالخرافات، ولذلك لم يكن من المحتمل أن تزيد من ثقتهم بأنفسهم، ويمكن أن تعد هذه القصص من العوامل التي أسهمت في هزيمة طوسون”.

وجسدت هزيمة مصطفى بك في تربة أمام غالية البقمية ضربةً قاسية لسمعة الوالي العثماني محمد علي وابنه طوسون، لذلك كان حَنِقًا من أن امرأة استطاعت هزيمة أحد ضباطه، وبينما كانت شهرة غالية قد ذاعت في كل البلاد، عاد مصطفى بك مثقلاً بعار الهزيمة، وأسهم العساكر الأتراك العائدون من المعركة في رفع ذكر غالية ونشر قصص شجاعتها وبسالتها وبطولتها في الحرب والمواجهة أمام الأعداء.

بطولات السعوديين لم تتوقف عند بلدة بعينها، ففي شقراء ظهرت بسالة الأهالي حين حاصرهم إبراهيم باشا مدة أسبوع، ضاربًا أسوارها بالمدافع ما أدى إلى تهدّم بعض الجهات من السور، وانتهى الأمر بعقد الصلح بين أهلها وإبراهيم باشا بعدما قطع من نخيلها النصف أو يزيد. ويذكر ابن بشر في تاريخه ما نصه: “وفي آخر ذي الحجة أمر حمد بن يحيى بن غيهب أمير شقراء وناحية الوشم على أهل شقراء أن يحفروا خندق بلدهم وكانوا قد بدأوا في حفره أشد القيام، واستعانوا فيه بالنساء والولدان لحمل الماء الطعام حتى جعلوه خندقًا عميقًا واسعًا وبنوا على شفيره جدارًا من جهة السور ثم ألزمهم كل رجل غني يشتري من الحنطة بعدد معلوم من الريالات خوفًا أن يطول عليهم الحصار فاشتروا من الطعام شيئًا كثيرًا، ثم أمر على النخيل التي تلي الخندق والقلعة أن تشذب عسبانها ولا يبقى إلا خوافيها..”.

تحدّى الأهالي في البلدان السعودية القوات التركية وقادتها، وأجبروهم في مواقع عدَّة على القبول بالصلح رغم ما يمتلكونه من عساكر وعتاد.

أظهر السعوديون في شقراء دفاعهم المستميت عن وطنهم وحبهم في الذود عنه بالمال والأملاك والحلال، حتى ضربوا بذلك أروع الأمثلة في التفاني في الدفاع سواء من الرجال أو النساء أو الأولاد، ورسموا لوحةً أرخصوا فيها أرواحهم لوطنهم.

ولا يُنْسَى ولا يُمْحَى من الذاكرة الموقف البطولي المشرف لأهالي بلدة ضرما الذين قاوموا بثبات نادر وواجهوا بكل ما ملكوه من قوة وسلاح وإمكانات جيش الترك الغازي، وقد وصف ذلك المؤرخ السعودي عمر الفاخري حملة إبراهيم باشا بقوله: “ثم سار ونزل ضرما لأربعة عشر من ربيع الثاني فحاربها واستباحها عنوة، فقتل الباشا من أهلها في البيوت والسكك والمساجد، قيل قتل من أهلها اثنتا عشر مائة، ومن فيها من غيرهم خمسين، ونهب البلد كلها ثم ساق من فيها من النساء والذرية إلى الدرعية وهم نحو ثلاثة آلاف أو أكثر”.

ومن جهة أخرى استفاض ابن بشر في ذكر ما وقع لأهل ضرما من جيش الترك البربري بقوله: “ثم سارت العساكر بالقبوس والمدافع والقنابر ونزلوا بها شمال البلد قرب السور، فثار الحرب بين الترك وبين أهلها وحقق الباشا عليهم الرمي المتتابع وحربهم حربًا لم ير مثله وثبت الله أهل البلد، فلم يعبأوا به، وطلب منهم المصالحة فأبوا عليه ولم يعطوه الدنية”. ويضيف “كانت هذه البلد ليس في تلك النواحي أقوى منها بعد الدرعية رجالًا وأموالًا وعددًا وعدة ولكن الله يفعل ما يريد، فحشدت عليهم عساكر الترك وثلموا السور بالقبوس والمدافع فلم يحصلوا على طائل، ثم حشدوا الترك عليهم أيضًا وقربوا القبوس من السور وحربوها حربًا عظيمًا هائلًا، ثم إن الباشا ساق الترك عليهم وأهل البلد ثابتون فيه فحمل عليهم الترك حملة واحدة فثبتوا لهم وجالدوهم جلاد صدق وقتلوا منهم نحو خمسمائة رجل وردوهم إلى باشتهم وبنوا بعض ما انهدم من السور، فلما رأى الباشا صبرهم وصدق جلادهم أمر على بعض القبوس وصرفها إلى جنوب البلد، وكان الحرب والضرب والرمي متتابع على أهل البلد من الترك في الموضع الأول وجميع أهل النجدة من أهل البلد والمرابطة قبالتهم”.

ويتابع ابن بشر بالقول: “ودخلت الترك البلد من كل جهة وأخذوها عنوة وقتلوا أهلها في الأسواق والسكك والبيوت، وكان أهل البلد قد جالدوهم في وسطها إلى ارتفاع الشمس وقتلوا من الترك قتلى كُثُر ولكن خدعهم الترك بالأمان، وذُكر لي أنهم يأتون أهل البيت والعصابة المجتمعة فيقولون لهم أمان ويأخذون سلاحهم ويقتلونهم، ونهبوا جميع ما احتوت عليه البلد من الأموال والأمتاع والسلاح واللباس والمواشي والخيل وغير ذلك، وهرب رجال من أهل البلد وغيرهم على وجوههم في البرية فبين ناجٍ ومقتولٍ، وبقيت البلد خالية من أهلها.. “.

يتفق ابن بشر مع ما قاله المؤرخ الفرنسي فليكس مانجان، الذي نقل لنا صورة المشهد المأساوي التي عاشته ضرما وأهلها من الإجرام التركي البربري حيث يقول: “إن إبراهيم باشا المنتصر، الذي واجهته مقاومة لم يتوقعها، أمر الجنود بالقضاء على أهل المدينة قضاء مبرماً، وطلب منهم ألا يبقوا على أحد، وقد نفذ الجنود أمر قائدهم في الحال. وما كاد الأتراك المتلهفون للسلب والنهب، يهزمون آخر المدافعين عن المدينة حتى دخلوها، ونفذوا إرادة قائدهم بسرعة تفوق سرعتهم لو طلب منهم القيام بالهجوم، فانقضوا على الأهالي، يطلقون النار عليهم بغزارة، ودخلوا المنازل وقضوا على أهلها، وقد أنجزوا ذلك خلال أقل من ساعتين ولم يبق إلا بضع مئات من النساء والأطفال، الذين أبقت رأفة الجنود حياتهم، وكان هؤلاء الضحايا المساكين يرون أمام أعينهم جثث آبائهم، وإخوتهم، وأزواجهم وقد اختلط بعضها ببعض، كانت الدماء تسيل في الطرقات، ذلك كان العقاب الذي أوقعه إبراهيم باشا بسكان ضرما الذين أرادوا الوقوف بوجهه..”.

وجاءت الدرعية عاصمة الدولة السعودية لتصوّر لنا فصلاً من فصول البطولة والملحمة الخالدة في الدفاع عن الوطن، حين صمدت الدرعية أمام حصار إبراهيم باشا منذ شهر جمادى الأولى من سنة 1233هـ/1818م، وبرز أهالي الدرعية وقيادتها وأظهروا البطولة في المقاومة والمجالدة للغزاة، فيشهد لهم بذلك باب سمحان، وحي الطريف، والبجيري وغيرها، فسطّرت بقيادتها دروسًا في قوة التحمل والصبر في مواجهة القوات التركية الهمجية التي لا تراعي النفس والبشر، ويأتيها المدد من الداخل والخارج بينما تعاني الدرعية الحصار الجائر.

خالف السعوديون توقعات الغُزاة التُّرك في المواجهات العسكرية... ومن هول ما رأوه من بطولة سعودية سوَّغوا هزائمهم بالخرافة.

 ولا شك أن هذه الحالة صورةٌ من صور الأزمة الأخلاقية التي عاشها جيش الترك الهمجي في حربه ضد السعوديين، والتي وصفها ابن بشر بقوله: “وفرَّق عساكره تجاه جموع أهل الدرعية.. وقعت الحرب بينهم، واضطرمت نارها، وطار في السماء شرها وشرارها، فتخالفت القنابر، والقبوس، والمدافع، وصار مطرها فوق تلك الجموع متتابعًا، فاشتد بينهم القتال، وتصادمت الأبطال، والحرب بين الترك وأهل الدرعية سجال”.

وهذا جزء يسير من شراسة تلك المعارك وقوتها التي واجهتها الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى، ووقف أمامها الأبطال من آل سعود بقيادة الإمام عبدالله بن سعود بن عبدالعزيز وبقية أهالي الدرعية وأعيانها والرجال البواسل من البلدان النجدية، ولتنتهي مرحليًّا حقبة مهمة من تاريخ السعوديين في مواجهة الغزاة المجرمين.

  1. جوهان بوركهارت، مواد لتاريخ الوهابيين، ترجمة: عبدالله الصالح العثيمين (الرياض: د.ن، 1985).

 

  1. دلال الحربي، غالية البقمية حياتها ودورها في مقاومة حملة محمد علي باشا على تربة (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2013).

 

  1. عبدالرحيم عبدالرحمن، الدولة السعودية الأولى 1158-1233ه/1745-1818م، ط 6 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي ، 1998).

 

  1. عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971).

 

  1. فليكس مانجان، تاريخ الدولة السعودية الأولى وحملات محمد علي على الجزيرة العربية، ترجمة: محمد خير البقاعي (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2003).

 

  1. محمد بن عمر الفاخري: تاريخ الفاخري، تحقيق: عبد الله بن يوسف الشبل، مكتبة العبيكان، الرياض، 1999م.

 

  1. هارفرد بريدجز، موجز لتاريخ الوهابي، ترجمة: عويضة الجهني (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز 2005).

خلال كفاحهم للمحتل العثماني

أثبت السعوديون تاريخيًّا أن: منطق القوة لا يمكن أن يهزم قوة المنطق

شهد مطلع القرن التاسع عشر تطورات سريعة متلاحقة، وجاء ذلك بعد أن قامت الدولة السعودية الأولى، وانتشار دعوتها في معظم أجزاء الجزيرة العربية. وبدأ الصدام الحقيقي عندما بدأ السعوديون التمدد في أرجاء وطنهم، مسيطرين على الجزيرة العربية مستردين الحرمين الشريفين من الاحتلال العثماني، كذلك وصولهم إلى حدود ولاة العثمانيين في العراق والشام.

 هنا أحس العثمانيون أن الصراع لم يعد صراعًا سياسيًّا مجردًا للسيطرة على الجزيرة العربية، إنما هو صراع فكري أيديولوجي؛ إذ أراد السعوديون نشر الوعي ضد ما كان العثمانيون يؤصلونه من خرافات وخزعبلات في المناطق التي احتلوها من الجزيرة العربية والعالم العربي بشكلٍ عام، كما أن السعوديين كسروا الدعاية الكبرى للعثمانيين في ادعائهم لمنصب الخلافة، والتأكيد عمليًّا على أن هذا المنصب لا ينطبق على سلاطينهم التُّرك.

من هنا بدأت المعارك الحامية بين السعوديين والعثمانيين، وبدأت حملات الترك الفاشلة من خلال بعث ولاتهم في الأقطار العربية التي أصبحت حدودها على تماسٍ مع الدولة السعودية الأولى، فمن فشلِ والي العثمانيين في العراق إلى تقاعس واليهم في الشام عن المواجهة؛ أمرت الدولة العثمانية واليها على مصر محمد عليّ بمواجهة السعوديين.

وبدايةً عانى طوسون باشا ابن محمد عليّ في مواجهة قوات الدولة السعودية الأولى، واستمرت معاناته منذ أن نزلت قواته سواحل الحجاز وقدمت من الشمال الغربي برًّا، لذلك أراد محمد علي أن يُحدِث تغييرًا بإرسال ابنه الآخر إبراهيم باشا، الذي كان أكثر إلحاحًا وجُرمًا وعنفًا من طوسون، والذي ألحَّ على والده والدولة العثمانية بإرسال المزيد من المقاتلين والعتاد والمدافع، الأمر الذي مكنه من إسقاط عاصمة الدولة السعودية الأولى الدرعية عام (1818م) بعد أن رأى مقاومة السعوديين الشرسة من أصغر بلدة إلى أكبر مدينة، وخسر خلالها أشرس رجاله وأقربهم إلى قلبه وخسر الآلاف من المقاتلين الذين كان أغلبهم من المأجورين المرتزقة بعد معارك حامية.

تمسك السعوديون بوطنهم رغم سقوط الدرعية سنة (1818م)... لذلك تعجب المؤرخون من سرعة قيام الدولة السعودية الثانية خلال سبع سنوات في (1825م).

هذه المعارك ترتبت عليها العديد من النتائج الاجتماعية والثقافية والاقتصادية؛ من زيادة الوعي وتشكُّل مفهوم الوطن في أرواح الناس إلى إيمانهم بحقيقة نقاء دعوتهم وخلوها من الخرافة المدعومة من التُرك، وما ترتب على حروب الغُزاة من خسائر اقتصادية جمة، وجرائمهم في حق الناس، التي تمثلت بالقتل والتمثيل والإرهاب، ومحاولة إحداث المجاعة بحرق أشجار النخيل التي شاعت آنذاك باعتبارها أحد أساليب جيش إبراهيم باشا التي طبقها في كل بلدة تسقط في يديه، ولأن النخيل من أهم الثروات الاقتصادية الكبرى في الجزيرة العربية حينها، كما تأثرت طرق القوافل سواءً في الحج أو التجارة بشدة، حيث إن هذه القوافل كانت رافدًا مهمًّا من روافد الاقتصاد لسكان الدولة السعودية الأولى.

ويصف المؤرخ عثمان بن بشر الأوضاع المضطربة في أعقاب سقوط الدولة السعودية الأولى وعاصمتها الدرعية قائلاً: “كانت هذه السنة، كثر فيها الاختلاف والاضطراب، ونهب الأموال، وقتل الرجال”، ويؤكد على المتغيرات السياسية المترتبة على ذلك قائلاً: “وتقدم أناس وتأخر آخرون وذلك بحكمة الله سبحانه وتعالى، وقد انحل فيها نظام الجماعة والسمع والطاعة”. كما يشير إلى انعكاس كل ذلك على الأوضاع الدينية والعدلية قائلاً: “وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لا يستطيع أحد أن ينهى عن منكر أو يأمر بطاعة”، ويوضح حالة الفراغ السياسي، وما ترتب عليها من انعدام الأمن وأوضاع الناس “وسُلّ سيف الفتنة بين الأنام، وصار الرجل في جوف بيته لا ينام، وتعذرت الأسفار بين البلدان وتطاير شرر الفتن في الأوطان”.

ما أحدثه العثمانيون من فوضى بعد سقوط الدولة السعودية الأولى (1818م) كان أقصى طموحات ثقافتهم في التشفي والتدمير ومحاربة الناس بأرزاقهم وقطع نخيلهم.

ويقف المؤرخون عند قضية وملاحظةٍ مهمة وهي سرعة قيام الدولة السعودية الثانية بعد سقوط الدولة السعودية الأولى، ويسوغون ذلك بقوة ما زرعه السعوديون من معانٍ وطنيةٍ واستنادهم إلى الإيمان بقوة وطنهم ومعتقدهم؛ ليعطوا درسًا للتاريخ بأن منطق القوة لا يمكن أن يهزم قوة المنطق؛ إذ ربما تُوَجَّه ضربات قوية لها مثلما حدث مع سقوط الدرعية وحتى مع الإمساك بالإمام عبدالله بن سعود وخيرة أتباعه وإرسالهم إلى إسطنبول بعد الاستسلام حقنًا للدماء إلا أن الدولة التي بناها السعوديون سرعان ما عادت من جديد.

  1. أمين سعيد، تاريخ الدولة السعودية (بيروت: دار الكاتب العربي، د.ت).

 

  1. ألويس موزيل، آل سعود، ترجمة: سعيد السعيد (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2003).

 

  1. بريدجز، موجز لتاريخ الوهابي، ترجمة: عويضة الجهني (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2005م).

 

  1. جورج سادلير، رحلة إلى الجزيرة العربية، ترجمة: عيسى أمين (بيروت: المؤسسة العربية، 2000م).

 

  1. عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971م).
Play Video

بعد أن هدموا وقتلوا وسرقوا وأحرقوا سنة (1818م)

العثمانيون بسقوط الدرعيَّة يحاكون اجتياح المغول لبغداد سنة (1258م)

ما حدث في بغداد إثر الاجتياح المغولي وهدم الخلافة العباسية سنة (1258م)، تكرر حرفيًّا باجتياح العثمانيين للدرعية سنة (1818م)، بالهمجيَّةِ نفسها محاولين استئصال الفكر وبث الرعب والخوف في نفوس الناس، لذلك كان أقسى سقوط للعثمانيين حينها بأنهم حاولوا طمس الفكر والذاكرة العلمية التي نمت في ظلِّ الدولة السعودية بمحاولة تدمير النتاج العلمي للعلماء وسرقة ما يقدرون على حمله وحرق ما يصعب عليهم نقله، فكما أحرق المغول مكتبات بغداد وألقوا بها في دجلة والفرات حتى غدا لون مائهما مختلطًا بالحبر فعل العثمانيون ذلك بعد أن سرقوا وأحرقوا ما وقعت عليه أيديهم من تراثٍ علمي في المكتبات، ودور العلماء، ومحاولة قتله بقتل العلماء، متوهمين أنهم سيقضون على الوطن الذي نما وتقوَّى وقام بقيام الدولة السعودية الأولى بمنهجها وسياستها ونهضتها العلمية.

لم يكن هدف العثمانيين عندما سيّروا حملاتهم لإسقاط الدرعية عام (1818م) سياسيًّا بالدرجة الأولى فحسب، بل أعمق من ذلك وهو استئصال فكر الدولة والوطن من نفوس الناس ومن فكرهم، وطمس هويتهم وتراثهم بكل أنواعه، وتدمير عمرانهم وإرثهم الإنساني الذي بناه وورَّثه إنسان الجزيرة العربية منذ الأزل للإنسان السعودي الناهض، الذي أرهق وجوده وقوته الاحتلال التركي العثماني.

جاءت الحملات العثمانية مختالةً بقوتها، مستعليةً بهجين ثقافتها التركية، تنظر إلى الجزيرة العربية نظرة المتكبر المستعلي، محاوِلةً إحداث تغيير منهجي في شكل الجزيرة العربية بحسب أطماعها الاستعمارية المستنزفة للثقافة العربية، ودفعها لتبني الشكل العثماني للحياة. ولم يكن العثمانيون يقنعون أن جزيرة العرب عصيةً على الغُزاة منذ فجر التاريخ، معتزةً متفاخرةً بثقافتها وإنسانها لآلاف السنين من تاريخ البشرية بعمقها وأصالتها، وهذا ما لم يكن يفهمه أصحاب الدولة المستعمرة، الذين لا يفهمون من الحضارةِ إلا التسلق على ثقافات الآخرين. لم يستوعب العثمانيون أن الجزيرة العربية كونها مهد الإسلام وموطن الرسالة فإنها تُعدُّ عماده ومخزنه العلمي، ومع ذلك رأى الغُزاة العثمانيون أنه لزامًا عليهم تدميرها على من فيها ومنع أي حركة ثقافة نهضوية تظهر منها.

ما لم يفهمه العثمانيون جيدًا أن الدولة السعودية الأولى جاءت بنهضة الإنسان ثقافيًّا وسياسيًّا، وأسست للوطن على رغم طول الفترة التي تاه فيها وسادها الغموض قبل السعوديين لقرون، وكان الترك سببًا رئيسًا فيها منذ توليهم دواوين العباسيين مطلع القرن الثالث الهجري حين منعوا العرب من ديوان الجند والعطاء. لذلك اعتقد العثمانيون أن إرسال جيوشهم ومدافعهم ومرتزقتهم وهدم الدرعية واحتلال الجزيرة وقبل ذلك كله تدمير التراث الديني والفكري زعموا أن كل ذلك سيحقق لهم مزيدًا من المكاسب في استمرار استعمارهم والقضاء على أي ارتداد وطني آخر.

تعمّد العثمانيون القضاء على أي إرث إنساني ثقافي للدرعية.

الدرعية…

الحاضنة الثقافية والإنسانية في الجزيرة العربية

كانت الدرعية مصدر إشعاعٍ وإلهامٍ للجزيرة العربية، وهي تُشكل نواة الدولة السعودية الأولى، فاهتم أئمتها ببناء البشر والحجر علميًّا وثقافيًّا، ويقدر الباحثون عدد المؤلفات والوثائق والمخطوطات التي هُرِّبت بعد سقوط الدرعية إلى المدينة المنورة وآلت إلى مكتبة “المحمودية” ما يزيد على 900 كتاب ومخطوط ووثيقة، وهذا رقم كبير جدًّا قياسًا بتلك الفترة التاريخية، ودليل على ازدهار الحركة العلمية، بل إن ذلك يعد جزءًا يسيرًا من التراث العلمي والسياسي الذي فُقد للأسف بسبب الجريمة العثمانية.

900 كتاب مخطوط ووثيقة، ذلك ما نجا من التدمير العثماني بعد سقوط الدولة السعودية الأولى.

التراث الإنساني

يقول الباحث حمد العنقري عن النشاط العلمي خلال إرهاصات نشأة الدولة السعودية الأولى: “كان من مظاهر نشاط العلماء خلال تلك الفترة، عنايتهم بجمع الكتب ونسخها، وإتاحة الاستفادة منها لطلبة العلم وعامة الناس.  وكان للنسّاخ حينذاك دور مهم يماثل دور الناشرين في هذا العصر أو أكثر، لأن نسخ الكتب كان له أعظم الأثر في نشرها، وتعدد نسخها المتداولة بين الناس، ولإدراك عدد من العلماء أهمية مهنة نسخ الكتب في نشر العلم، لكونها مصدر رزق جيد، فقد حرصوا على احتراف هذه المهنة، وتوريثها أبناءهم وتلاميذهم من بعدهم. من أشهر المكتبات الشخصية قبل قيام الدعوة مكتبة الشيخ أحمد بن يحيى بن عطوة، ومكتبة الشيخ عبدالله بن محمد بن ذهلان، ومكتبة الشيخ عبدالله بن إبراهيم بن سيف التي اطلع عليها الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ومكتبة آل إسماعيل، ومكتبة الشيخ إبراهيم بن سليمان بن علي، وغيرها من المكتبات التي شكّلت مصدرًا مهمًّا لطلبة العلم، بجانب دورها في تنشيط الحركة الثقافية.

ونتيجة لقيام الدولة السعودية بقيادة الإمام محمد بن سعود، وحرصه على نشر الدعوة السلفية، وتوافر القوة العسكرية لهذه الدولة الناشئة والرخاء المادي، زاد الحرص على العلم، وتوافد طلبة العلم على الدرعية للدراسة على علمائها، والاستفادة منهم، وقاموا بنسخ الكتب، وتدوين شروح شيوخهم وتعليقاتهم على حواشيها، وعند مغادرتهم الدرعية ينقل هؤلاء الطلبة كتبهم وما نسخوه إلى بلدانهم.

وقد استمرت حركة النهضة العلمية في نجد، ونسخِ الكتب واقتنائِها، حتى سقوط الدرعية في سنة 1233ه – 1818م على يد إبراهيم باشا. فقد كان من نتيجة ذلك الحدث توقف النشاط العلمي ولو لفترة قصيرة، والقضاء على كثير من الإنجازات العلمية التي حفلت بها الفترة السابقة، كما نتج عن سقوط الدرعية، تدمير خزانات الكتب آنذاك، وانتقال نسخ كثيرة من المخطوطات إلى خارج حدود نجد، أو فقدانها، أو تلفها”.

 

الحرب العثمانية على البشر والحجر

كانت الحرب العثمانية استئصالية، وما مرت على بلد ولا تجمع سكاني إلا وتعمّدت سرقته وتدميره خاصة التراث البشري ومصادر رزقهم من مزروعات وآبار، ونهب وتدمير جميع الممتلكات، كالمنازل والقصور، والأمتعة، والكتب.

وكان أشد ما وقع من جيش الأتراك العثمانيين من تدمير، ما حصل في الدرعية وضرما وثرمداء وشقراء وبلدان القصيم والخرج وغيرها من المدن، ورغم أن إبراهيم باشا قد عاهد الإمام عبدالله بن سعود بالمحافظة على سلامة الدرعية، إلا أنه لم يف بوعده وهدمها، كما أشار المؤرخ عثمان بن بشر إلى أن العثمانيين سيّروا العديد من الحملات من أجل إكمال القضاء على نجد بعد سقوط الدرعية لفرض سلطتهم وسيطرتهم على المنطقة، وكان منها حملة حسين بك، التي دمرت بلدة حريملاء، وأحرقت الكتب في مكتبة الشيخ عبد العزيز بن سليمان بن عبدالوهاب وصادرت بعضها الآخر.

رحالة ومؤرخون وكتب وثقت الجريمة

وثّق الرحالة البريطاني جورج سادلير، الذي زار الدرعية بعد هدمها، الجرائم المروعة التي ارتكبها الجيش العثماني، حيث ذكر أن قوات إبراهيم باشا نقلت مجموعة هائلة من الكتب إلى المدينة المنورة للاحتفال بالنصر والبهجة به، كما ذكر المؤرخ عثمان بن عبد الله بن بشر مصادرة حملة حسين بك بعض مكتبة الشيخ عبدالعزيز بن سليمان بن عبد الوهاب، وإحراق بعضها الآخر.

أما المؤرخ السوري منير العجلاني فأشار إلى أن قوات محمد علي سرقت ما وجدته في بيوت الأمراء والعلماء في نجد، وكذلك يشير بعض المؤرخين إلى أن الشاعر محمد بن عبدالعزيز أبو نهية الذي عاد إلى الدرعية ورأى خرابها وثق تلك الجريمة في نص مهم لا يمكن تجاوزه، وعلى الأرجح أن ذلك النص كان بين عام 1235-1236هـ، قال في بعض أبياته:

أسهرت وكل العالمين هجيع

تغريد ورقٍ بالغصون سجيع

ينوح إلى طال الغناء هز رأسه

من الشوق يطرب كل قلب وليع

حرمني لذيذ النوم تغريد صوته

أجبته بدمعٍ بالخد بديع

سايلتها يالورق بسك من الغناء

عساك تلعي ياحمام فجيع

تبكي على ولفٍ وتلقى سواته

ما انته بسواتي يا حمام وجيع

التراث العمراني الذي دمره المغول الجدد

تميزت الدرعية بنمط عمراني كان سائدًا في العمارة النجدية المحلية، يستلهم الحضارة الإسلامية ويوظفها، وهي التي نشأت على وادي حنيفة وخاصة حي البجيري وحي الطريف، المرتبطين ببعضهما يفصل بينهما وادي حنيفة بعرض 200 متر، وتلك الأشكال والتصميمات والرسومات الشائعة فيها، وعندما دكت مدافع الهمجية التركية أسوار الدرعية وقصور أمرائها ومبانيها ومساجدها ومآذنها حرص التركي على طمس المعالم العمرانية وتسويتها بالأرض، وحرق المزارع وردم الآبار ومصادر المياه، بهدف استئصال إنسان الدرعية وكل ما يربطه بدولته السعودية، وتحويلها إلى خرائب يهجرها سكانها وأهلها، لكن أهداف الترك فشلت سريعًا مع عودة الدولة السعودية الثانية وحملها اللواء من جديد ومن الدرعية إلى الرياض هذه المرة.

هدم العثمانيون قصور الدرعية المميزة بالتصميمات المعمارية الفريدة لإجبار أهلها على عدم الرجوع إليها.

  1. بيتر هاريغان وآخرون، البجيري قلب الدعوة، مراجعة وصياغة: فهد السماري وناصر الجهيمي (الرياض: الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، 2015).

 

  1. جورج سادلير، رحلة إلى الجزيرة العربية، ترجمة: عيسى أمين (بيروت: المؤسسة العربية، 2000م).

 

  1. حمد العنقري، مكتبات الدولة السعودية الأولى المخطوطة: دراسة تحليلية لعوامل انتقالها واندثارها بعد سقوط الدرعية (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2009م).

 

  1. سعد الحافي، “الشعر شاهد على تدمير العثمانيين للدرعية: الشاعر محمد بن عبدالعزيز أبو نهية”، مجلة مدارات ونقوش، ع.6 (د.ت). رابط موقعها على الإنترنت: https://jbhsc.ae/

 

  1. عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971م).