العسيريون سنة (1834م)
استدرجوا غزاة العثمانيين فهزموهم بتبادل الأدوار...
من مُحَاصَرين إلى مُحاصِرِين
تعد منطقة عسير (جنوب المملكة العربية السعودية) من المناطق الجغرافية الجبلية الوعرة؛ حيث الجبال الشاهقة والوديان السحيقة، ومنها مدينة أبها التي تقع على قمة جبال شاهقة، لذلك تعد عسير -بوجه عام- منطقة محصنة بالطبيعة، ويصعب على المحتل الأجنبي أن يسيطر عليها، لا سيما أن سكانها لا يركنون إلى المحتل، ولا يقبلون الخضوع إلى حكم الأجنبي، لذا شهد تاريخ عسير العديد من الحملات العسكرية لإخضاعها، وقد قوبلت بمقاومة شديدة وعنيفة من سكان عسير.
حتى الجبال حاربت المحتل العثماني مع أهالي عسير.
وتعد حملة العثمانيين بقيادة أحمد باشا يَكَن من أشهر تلك الحملات العسكرية سنة (1834)، وقد كان الهدف منها إخضاع الثائرين من الأهالي على العثمانيين، خاصةً أن حركتهم ضد العثمانيين أرْخَت بظلالها على وجود العثمانيين في الحجاز، لذا سعت الحملة لقمع الأهالي، وتأكيد نفوذ الاحتلال العثماني في المنطقة، وتأتي أهمية الحملة بالنسبة للعثمانيين بأن عسير تقع على الطريق بين الحجاز واليمن، ومن أجل تأكيد الوجود العثماني في كل من الحجاز واليمن اتجهت الحملة إلى عسير، وعملت على اقتحام مدينة أبها.
وكانت الحملة تسعى للقمع والتنكيل بالأهالي، لذا جاءت بقوات وعتاد كبير، وهذا ما دعا المؤرخ السعودي محمد بن عبد الله آل زلفة لوصف هذه الحملة قائلاً: “في عام 1834 تعرضت أبها لأكبر حملة غزو تتعرض لها في القرن التاسع عشر”.
ولأن أهل مكة أدرى بشعابها، لجأ أهالي أبها إلى حيلة عسكرية للاستفادة من البيئة الجبلية الوعرة لصالحهم، وهي الانسحاب وإخلاء المدينة من أهلها قدر الإمكان، واستغلال طوبوغرافية المنطقة الوعرة في حصار قوات أحمد باشا يَكَن داخل المدينة نفسها، ثم البدء في منع وصول الامدادات والتموين للقوات المُحاصرة لأطول فترة ممكنة لإجبار القوات الغازية في المدينة في نهاية الأمر على الاستسلام.
بدأ الانسحاب من حي المفاتحة الذي يقع فيه قصر الإمارة بأبها بعد أن أحرقوا القصر؛ إذ فَضَّلوا حرقه على أن يكون مقرًّا للقوات الغازية. بينما اتخذت قوات أحمد باشا يكن من حي “مناظر” وهو أكبر أحياء المدينة وأقدمها مكانًا لتجمعها ومقرًا للقيادة العسكرية.
طُبقت الخطة ونجحت مساعي أهالي أبها فيما سعوا إلى تحقيقه على أرض المعركة، إذ حاصروا الغزاة العثمانيين وشددوا حصارهم فترةً ليست بالقصيرة؛ ذلك جعل القائد العثماني أحمد باشا يدرك صعوبة استمرار الوضع على هذا النحو، لا سيما مع قرب نفاد مؤنة جيشه وذخيرته، وصعوبة وصول المدد من خارج أبها خصوصًا من الحجاز، ومن هنا لجأ أحمد باشا إلى التفاوض مع أهل أبها والخروج من المدينة، بل وإقليم عسير كله. فكان ذلك وتم توقيع “اتفاقية مناظر” في 26 سبتمبر (1834). وبمقتضى هذه الاتفاقية تطهرت عسير من سلطة الغزاة العثمانيين بعد أن تم الاعتراف بحدودها الثابتة.
عقد العثمانيون اتفاقية "مناظر" التي كسرت الشوكة التركية مع أهالي أبها باستقلالٍ تام.
وتشير المصادر التاريخية إلى معاناة أهل أبها أثناء هذه الحملة من جراء الحرب وتطور الحصار، فضلاً عن حرق عدة أحياء سكنية بأكملها. وعن آثار تلك الاتفاقية على مستقبل عسير آنذاك، إذ يقول محمد آل زلفة: “نعمت عسير في ضوء هذه الاتفاقية حوالي أربعين سنة من الاستقلال… وأصبحت بما تملكه من قوة مصدر القلق الوحيد للوجود العثماني في كل من الحجاز واليمن”.
- هاشم النعمي، تاريخ عسير في الماضي والحاضر (الرياض: الأمانة العامة للاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس المملكة العربية السعودية، 1999م).
- موريس تاميزيه، رحلة في بلاد العرب، الحملة المصرية على عسير 1249هـ- 1834م، ترجمة: محمد بن عبد الله آل زلفة، ط2 (الرياض: دار بلاد العرب، 2017م).
- محمد بن عبد الله آل زلفة: وقفات مع فصول من تاريخ أبها، محاضرة في نادي أبها الأدبي.
حتى وصول نجدة خورشيد باشا لنصرته
لشهرين، "إسماعيل" محاصرٌ من قِبَل الإمام فيصل
لم ييأس العثمانيون من شن الحملات على الدولة السعودية الثانية، حتى بعد أن طردهم منها الإمام تركي بن عبدالله، إذ لا زالت بعد ذلك هاجسًا مؤرقًا لهم، خاصةً أنهم مع كل حملة -حتى لو انتصروا فيها- يعودون محملين بخسائر تفوق توقعاتهم جراء شراسة المقاومة السعودية على أرض الجزيرة العربية.
ومن حملاتهم الشرسة التي كانوا يأملون بها إنهاء المقاومة السعودية؛ حملة إسماعيل بك في عهد الإمام فيصل بن تركي (توفي: 1865) ثاني أئمة الدولة السعودية الثانية، التي جُرِّدت سنة (1837) بهدف إسقاط حكم الإمام، وإحلال بديل له في المنطقة بخلق حالة من النزاع الداخلي على السلطة. وهذا الأسلوب العثماني الجديد جاء نتيجة الإيمان التام بأن أهالي الجزيرة العربية لن يرغبوا بالحكم الأجنبي، ولن يخضعوا للغزاة، على رغم ما قدمت الأرض من شهداء في سبيل الحرية، لذا ارتأوا أن البديل المناسب في خلق كيان سياسي محلي موالٍ لهم، يتواءم معه الأهالي، وفي الوقت نفسه يعلن ولاءه الكامل للاحتلال.
ومما لم يعتد عليه المحتل أن المقاومة المحلية أصبحت أكثر معرفةً وخبرةً مما كانت عليه من قبل، لذا تكبد الغُزاة خسائر فادحة في كثير من البلدات النجدية من لحظة المواجهة الأولى مع السعوديين، وكان الإمام فيصل بن تركي قد انتهج أسلوبًا جيدًا في إعداد المقاومة، خاصةً بعد انتصارات “الحلوة” على إسماعيل بك، لذلك بدأ يدعو إلى النفير العام بين الأهالي، وانضمت إليه القوات من البلدات، والعسكر في الخرج، وبالقرب من الرياض تواجه مع القوات العثمانية في موقعة (المصانع) القريبة من الرياض وهزمهم، وطارد الهاربين وحاصرهم في منفوحة ثم الرياض التي سقطت في أيدي الغُزاة مدة شهرين، مستخدمًا المدافع التي غنمها أهالي “الحلوة” في حربهم مع العثمانيين، وحفر الأنفاق تحت الأسوار خلال الحصار، كذلك استخدم السلالم محاولة لاختراق دفاعات الأعداء.
لم ينتصروا إلا بالتكاثر والآلة العسكرية المتطورة.
لكن تراجع الإمام فيصل عن حصاره على رغم تفوقه؛ لمواجهة بعض المتحالفين مع الغُزاة الذي بدأوا يهاجمون معسكر الإمام أثناء حصاره، ذلك الأمر دعا الإمام فيصل إلى الانسحاب إلى منفوحة.
ولسوء الحال الذي وصلت إليه الحامية العثمانية في الرياض، جاءت حملة مُساندة بقيادة خورشيد باشا وبتعيينه بمنصب حكمدار الدرعية، ودخلوا في مفاوضات مع الإمام تجنبًا للاصطدام به وتكبد المزيد من الخسائر، خاصةً أن كثيرًا من القبائل رفضت التعاون مع الغُزاة، ومنعت عنهم تأجير الجمال لنقل عتادهم ومؤنتهم.
حاولت حامية الرياض الغازية بقيادة إسماعيل أن تتفاوض مع الإمام فيصل كسبًا للوقت إلى حين مجيء القوات الداعمة مع خورشيد، وحتى لا يخسروا الرياض في ظل حصارها. وبعد تنفيذ هذه الحيلة تمكن إسماعيل حين وصل إليه خورشيد باشا من التعافي في مقاومة الإمام، ذلك الأمر قلب الموازين وأصبحت كفة الغُزاة راجحة، وعلى ضوء ذلك تمكنوا من أخذ الإمام فيصل إلى القاهرة ليمكث فيها خلال الفترة ما بين (1838) و(1842) قبل أن يعود إلى فترةِ حكمه الثانية للدولة السعودية.
- عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط3 (الرياض: وزارة المعارف، 1974).
- منير العجلاني، تاريخ البلاد العربية السعودية عهد الإمام فيصل بن تركي (بيروت: دار النفائس، 1994).
- محمد السلمان، الأحوال السياسية في القصيم في عهد الدولة السعودية الثانية (عنيزة: مطابع الوطنية، 1988).
- دلال السعيد، علاقات الدولة السعودية الثانية بمشيخات الخليج خلال الفترة الثانية من حكم الإمام فيصل بن تركي، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى (1988).
- عبدالله العثيمين، تاريخ المملكة العربية السعودية (الرياض: مكتبة العبيكان، 1997).
- عايض الروقي، حروب محمد علي في الشام وأثرها في شبه الجزيرة العربية (مكة المكرمة: جامعة أم القرى، 1994).
في ملحمة "حلوة" نجد مع العثمانيين
الموت فيها "ولا نجسٌ يدنسّها"
في الرياض عام (1837) كان العثماني إسماعيل باشا الذي أُوكل إليه القضاء على السعوديين والإمام تركي بن عبدالله قبل اثني عشر عامًا (1825) يجوب مجلسه غضبًا وغيظًا، وهو القائد المزهو بقوة دولته وامتدادها الجغرافي وإسقاط الدولة السعودية الأولى، ويلوح بالبطش والقتل، وكان الصمت والاستغراب يُحيطان بمستشاريه وكبار جيشه، ويخيم على مقر القوات التركية الغازية للجزيرة العربية لتغيير إمامها ولإعادتها إلى الاحتلال العثماني، وذلك من خلال تعيين حاكم جديد لمنطقة نجد يتبع السلطنة العثمانية، ويخضع لها في كل تحركاته وشؤون حكمه.
ارتفع صوت القائد العثماني وسط جنود حملته بكبرياء وعنجهية بعد أن قُرِئ له رد أهالي الفرع (الاسم القديم لحوطة بني تميم جنوب الرياض) برفض الخضوع للجيش التركي والتبعية له ولسلطته ولعاصمته، فهاهم يصرخون في وجه التُّرك: “إن كان الأمر للترك فنحن لهم محاربون!” في إعلان صريح عن عدم الخضوع لكل ما هو تركي غريب على أرض نجد وسمائها.
هذا الرد الشجاع من بلدة صغيرة في وجه جيش قوامه (7000) جنديٍّ يجعلهم يزمجرون غضبًا، وهذا ما أودى بإسماعيل باشا إلى حالة من عدم الاتزان وقلة التدبير وزيادة التوحش، إذ تشرّب أوامر قيادته بإخضاع عرب الجزيرة العربية محاولاً إذلالهم وإهانتهم، وإعادة جريمة حرب الدرعية التي ليست من الإنسانية في شيء، فأمر الباشا على وجه السرعة الحدادين والصّناع بعمل الفؤوس و(الفواريع)، وأمر الجيش بالاستعداد لغزو أهل تلك الناحية، ثم أرسل إلى الأقاليم النجدية التي احتلها عنوةً يستلحقهم في جيشه لاجتثاث من يصفهم بالأشقياء العصاة، للتنكيل بهم واستحلال أموالهم وبلادهم.
في الجهة الأخرى، كانت مجالس حوطة بني تميم تناقش وتتداول بين كبارها الاستعداد ورد العدوان الذي يخطط له القائد العثماني وحماية الأرض والعرض، خاصةً أن ذاكرتهم لا تزال تحتفظ بكثير من قصص ظلم الأتراك ووقائعهم وجسارتهم على المحرمات، وفتكهم بمن ينالون، ونقضهم العهود والمواثيق، وأشدها إيلامًا ما تحدث به النازحون إلى بلدتهم من أهل الدرعية الناجين من الغزاة الظالمين؛ لذا كان القول السائد الذي يتردد على ألسنة فتيان الفرع: “الموت فيها ولا نجس يدنِّسها”.
حزم أهل حوطة بني تميم أمرهم، وأجمعوا على الترتيب والتخطيط للمواجهة المرتقبة، فبدأوا بإرسال “السُّبُور” العيون، يتتبعون أخبار الغزاة ويرصدون تحركاتهم وأعدادهم وعتادهم الحديث من المدافع والبنادق، وكانت المعلومات الواردة تتحدث عن مئات المقاتلين المدججين بالسلاح يقطعون المسافات والتضاريس متجهين إلى حوطة بني تميم (160 كيلاً عن الرياض) يتزايدون ولا ينقصون، كلّما مرّوا ببلدةٍ في طريقهم أمروا أهلها لينضموا إليهم ويخرجوا للقتال، لكن الأهالي في وادي الفرع استعانوا بالله العلي القدير، ثم رسموا خطة المواجهة المحكمة.
في الثامن والعشرين من ربيع الأول عام (1253هـ) الموافق (1837م) أمر إسماعيل باشا قواته بالتحرك قاصدًا حوطة بني تميم، سار يومه كاملاً من الرياض وبات ليلته عند مياه “الجزعة”، وفي اليوم التالي وصل إلى “الحاير” وأقام فيه يومًا واحدًا ثم توجه إلى “السلمية” وبات فيها، ثم توجه منها إلى “الدلم” وأقام فيها عشرة أيام يتزود مع جيشه بالقمح والشعير، ثم توجه إلى”زميقة” وأقام فيها يومًا واحدًا ثم أتى المياه المسماة “خفس دغرة” وأقام فيها ليلة واحدة، ثم عقد عزمه وتوجه إلى الحوطة، بعد أن أشار عليه أحدهم بغزو الحلوة أولاً .
وقبل وصول الغزاة بأيام قرر أهالي الحلوة بعدما علموا أنهم المستهدفون بالتحديد من قبل الجيش الغاشم، وبعد ما سمعوا كثيراً عما يقترفه جيش العثمانيين من جرائم وسوء، قرروا أن يُخفوا نساءهم وأبناءهم ومن ليس له قدرة على حمل السلاح والمواجهة في شعيب “مُطْعِم” الملاذ الآمن الذي لن يصل إليه أي مسلحٍ تركي وفي الرجال البواسل رمق، وبذلك تكون بساتين الحلوة وواديها ميدان المعركة المنتظر، ثم عمدوا إلى الآبار و”القلبان” مصادر مياه الشرب الوحيدة في المنطقة، فألقوا فيها عسبان النخل والتِّبِن حتى لا يستفيد منها الغزاة، وأبقى أبطال الحلوة لهم موردًا مائياً معروفا اسمه “عُسَيْلان” يشربون منه وحدهم، ولا يستطيع الغزاة أن يصلوا إليه، ثم وضعوا المتاريس في سفوح الجبال التي يتوقعون أن ينزل منها الغزاة البغاة المعتدون، ووزعوا المهام بعد أن أحكموا خطة الكرّ والفرّ والاستدراج، وحفروا خندقهم، مستعينين بالله ثم بعدالة قضيتهم في الوقوف ضد المحتل الغاشم.
وفي السادس عشر من ربيع الثاني من العام نفسه، وصل إسماعيل باشا بقواته التركية الغاشمة إلى الحوطة، وتجنب النزول من واديها في مقصده إلى الحلوة، فجعلها جانبًا وأكمل المسير إلى الحلوة، وكان تعداد أبطالها يومئذ مئتي رجل، ومعهم إخوانهم من بلدتي القويع والعطيان ولسان حالهم يقول:
أقبلت جحافل الأتراك يغشاهم الكبر والخيلاء والزهو بعددهم وعتادهم، وفي الرابعة فجرًا، كان الأتراك قد نصبوا مدفعيْن على رأس الجبل المُطِلّ على الحلوة، والجنود يحيطون بهما، ضربوا مباني الحلوة وأحياءها الآمنة بالقنابل، وبدأت معركة شديدة الضراوة أظهر فيها السعوديون بسالةً وصبرًا وثباتًا أذهل الأتراك بادئ الأمر، استخدم فيها الأبطال كل ما يعرفونه من أساليب الحرب، فاستدرجوا الأتراك وانسحبوا إلى سفح الجبل ووصلوا إلى باطن الوادي، لكن الأتراك ومن معهم لم يندفعوا إلى باطن الوادي، عاد الأبطال مرة أخرى إلى متاريسهم واستأنفوا المعركة من جديد، وحين التحم الصفّان، تراجع أهل الحلوة إلى الوادي ليستدرجوا الغزاة من جديد، فابتلع العثمانيون الطعم هذه المرة، واندفعوا للمطاردة في الوادي وداخل البساتين في معركة حامية الوطيس، أشبه بحرب الشوارع والممرات، واشتد الأمر وأهل الحلوة في قتال عظيم معهم من طلوع الشمس إلى ما بعد الظهر.
قدِم أبطال الحوطة إلى الميدان باذلين أنفسهم نصرةً لجيرانهم أهل الحلوة بصد الأعداء ومحاربتهم بكل قوة، فالمصير واحدٌ والوطن واحد. دخل قسم من أهالي الحوطة ميدان المعركة مشاركين إخوانهم التصدي للمعتدين، بينما تسلل قسم آخر وصعدوا الجبل وعيونهم على المدفع التركي الشرس الذي يلقي قذائفه على بلدة الحلوة ملحقًا الأضرار بها وبأبطالها، لتدور معركة شديدة بينهم وبين الأتراك المدافعين عن المدفع، يستميت الأتراك دفاعًا عن مدفعهم، أما المهاجمون من أهل الحوطة فكان همهم الاستيلاء على المدفع ليخلصوا إخوانهم من ضرباته، وبالفعل استطاعوا أن يلقوا بالمدفعيْن من أعلى الجبل، وبينما كانت المواجهة في أشد أوقاتها، انهزم الجيش التركي وقتل منهم الكثير على أرض المعركة الوطنية الشريفة، وتفرق الباقون هاربين على الجِمَال، وقسم كبير منهم هرب ناحية الصحراء ليهلك هناك في (أم العظام) كما تذكر بعض الروايات الشفهية، فيلتحق أهل نعام والحريق نازلين مع الجبل الشمالي بإخوانهم في المعركة، فتشتد عزيمة الأبطال بنصرة إخوانهم، وتقوى عزائمهم، ليلاحقوا فلول العسكر.
قتلوا 36% من الغُزاة الأتراك.
دفنوا قتلى الأعداء بأخلاق النبلاء.
رأى إسماعيل باشا بعينه جنوده يتساقطون ويتناثرون ويلوذون بالفرار، أيقن أن الهزيمة شنعاء والفضيحة نكراء، فركب حصانه مع بقية رفقته القليلة، ولاذ بالفرار، محملاً بالخزي والعار. وقد ذكر القائد العثماني المهزوم في تقريره العسكري الذي أرسله إلى قائده في المدينة المنورة مقتل (2488) خيّالًا وجنديًا، ولم يتبق منهم إلا (1688).
أشرقت على الحلوة شمس جديدة ويوم جديد معززة بالانتصار والعزة والكرامة، وذاع صيتها بين البلدان بطرد الجيش التركي الحديث وإلحاق الذل به، ودحر مخططه الإجرامي، كيف لا؟! وهي حاضنة الخطوات الأولى لتأسيس الدولة السعودية الثانية بقيادة الإمام تركي بن عبدالله، فقد قدمت أُنموذجًا للولاء الوطني والدفاع عن الأرض.
- عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط3 (الرياض: وزارة المعارف، 1974).
- محمد بن بليهد، صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار، ط3، (الرياض: مرار للطباعة، 1998).
- خالد الفرج، الخبر والعيان في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن الشقير (الرياض: مكتبة العبيكان، 2000).
- عبدالله البسام، علماء نجد خلال ثمانية قرون، ط2 (الرياض: دار العاصمة، 1999).
- خليفة المسعود، “خالد بن سعود وعبدالله بن ثنيان بين التأييد المحلي والدعم العثماني“، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، جامعة الكويت، مجلد 24، ع. 93، (2005).