في هزيمة مُذلَّة للعثمانيين

"وادي الصفراء"... انتصر السعوديون فيها على الجيش المُدرب، والمسلح بالتكتيك العسكري

تُعد معركة وادي الصفراء عام (1812م) من المعارك الأولى المهمة في تاريخ الدولة السعودية الأولى، وبالنسبة للحدود الجُغرافية للمعركة فإن وادي الصفراء يقع في الطريق ما بين ميناء ينبع على البحر الأحمر والمدينة المنورة، وترجع أهمية هذه المعركة إلى أنها كانت أول انتصار سعودي على أول حملة عثمانية بواليهم على مصر محمد علي باشا، إذ كانت أوامر السلطان العثماني بضرورة مواجهة السعوديين بعد استردادهم الحجاز، كما أن هذه المعركة مهمةً في نظر السعوديين؛ لأنها سجلت أول انتصار لهم على حملة عسكرية نظامية مدعومة بكل القوى العثمانية، يقودها ابن الوالي العثماني محمد علي نفسه: أحمد طوسون. آمن الوالي العثماني أن هذه المعركة تُعَدُّ أول اختبار حقيقي لجيشه في بيئةٍ جغرافيةٍ وعِرة، وأنها أيضًا كانت أول مواجهة حقيقية مع الجيش السعودي الذي ارتد صدى بطولاته في بلاط السلطان وولاته وتسامعت به دول العالم.

كانت أول اختبار حقيقي للقوات العثمانية أمام جيوش الدولة السعودية الأولى.

جهزَّ العثمانيون حملتهم من مصر في (1811) بقيادة أحمد طوسون لجيشٍ وصل عدده إلى 8000 جنديٍ، 6000 من المُشاة و2000 من الخيَّالة، إضافةً إلى العتاد العسكري الذي يُعدُّ متطورًا في زمن تقوده المدفعية القوية. وبحسب المصادر فإن المشاة نقلوا مع المعدات العسكرية بالسفن التي أبحرت من ميناء السويس إلى ينبع، بينما سلك الخيَّالة بقيادة طوسون الطريق البري الصحراوي عبر شبه جزيرة سيناء وشمال الجزيرة العربية.

ويرى أمين سعيد أنه تم اختيار ميناء ينبع هدفًا أوليًّا للحملة العثمانية؛ نظرًا لأنه أقرب موانئ الحجاز إلى المدينة المنورة، كما أن الاستيلاء على المدينة يفتح الباب سريعًا إلى نجد، لضرب عاصمة الدولة السعودية مباشرةً.

نزلت الحملة في ينبع من دون مقاومة تُذكر؛ نظرًا للانسحاب التكتيكي الذي قام به الحاكم السعودي فيها، وكانت الخطة مواجهة الحملة بعد تسهيل نزولها في ميناء ينبع وفتح الطريق أمامها للتقدم حتى منطقة بدر المعروفة قرب المدينة، بينما بدأ جيش الدولة السعودية بالاشتباك مع الجيش العثماني عن طريق مجموعات صغيرة لاستدراج الحملة بكل قواتها إلى منطقة وادي الصفراء الذي يقع جغرافيًّا في الطريق بين المدينة وينبع، حيث تعسكر القوات السعودية استعدادًا لمواجهة قوات طوسون بعد إنهاكها خلال مسيرها إلى المعسكر السعودي.

كانت قوات السعوديين تُقَدَّر بحوالي عشرة آلاف جندي بينما قوات طوسون تقدر بحوالي ثمانية آلاف، يفوق العثمانيون الجيش السعودي عتادًا وتدريبًا ونظامًا. وبعد أن تم استدراج جنود طوسون إلى الوادي الضيق، كانت القوات السعودية قد أعدت خطة عسكرية تتناسب مع جغرافية الوادي، فأمر الإمام عبدالله بن سعود جنوده بحفر خندق في الوادي، وقد كان قائدا لهذه المعركة في عهد والده الإمام سعود بن عبدالعزيز، وعسكر ومن معه في ذلك الخندق، بينما عسكر في الجبل المطل على الخندق عثمان المضايفي – أحد قادة الدولة السعودية في الحجاز – بالقوات السعودية التي كانت معه، واستدرجوا قوات طوسون وأحاطوا بهم في هذا الكمين، وعندما حاول طوسون وقواته الالتفاف والخروج من هذا الكمين والعودة إلى ميناء ينبع؛ اندفع وراءهم السعوديون وأحدثوا في صفوفهم خسائر جسيمة. تُقَدَّر بحوالي خمسة آلاف جندي، بينما لم تتعد الخسائر السعودية حوالي ستمائة جندي.

ارتدَّ صدى الانتصار السعودي على العثمانيين؛ فأزعج ذلك الوالي العثماني محمد عليّ بشدة، وحاول أن يبحث عن مسوغٍ منطقي وراء هزيمة جيش مُدرَّب ومُعد ومُسلح بآلة عسكرية متطورة جدًا في زمنها أمام جيش يملك عتادًا متواضعًا مقارنة بهم، وزاد من وقع الأمر على الوالي العثماني أن جيشه تكبَّد خسائر كبيرة في صفوفه، لذا بعث محمد علي لابنه طوسون مستفسرًا عن سر هزيمة العثمانيين المُذلَّة، فلم يجد سوى أن يَرُدَّ سبب الهزيمة إلى رعونة قادته، وأنهم ليسوا على قلب رجل واحد قائلاً: “إنهم كانوا سبب الانكسار لاختلافهم وتنافسهم”.

برَّر العثمانيون هزيمتهم باختلاف قادتهم وتناحرهم واختلافهم.

  1. عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971).
  2. عبدالرحمن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، تحقيق: عبدالرحيم عبدالرحمن (القاهرة: دار الكتب المصرية، 1997).
  3. أمين سعيد، تاريخ الدولة السعودية (بيروت: دار الكاتب العربي، د.ت).
  4. عبدالرحيم عبدالرحمن، الدولة السعودية الأولى، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1987).
  5. السيِّد فرج، حروب محمد علي (القاهرة: مطبعة التوكل، د.ت).
  6. عبد الفتاح حسن أبو علية، محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى، ط2 (الرياض: دار المريخ، 1991). 

السعوديون حتى في هزيمتهم كانوا أبطالاً سطروا التاريخ بدمائهم

معركة بسل.. الملحمة السعودية التي أثبتت للعثمانيين أن الأرواح حصون الوطن الأولى

استبسل السعوديون في الدفاع عن دولتهم الأولى أمام غُزاة التُّرك، على رغم أن العثمانيين جهزوا جيوشهم بعتادٍ قوي وإمدادٍ لم ينقطع من الجنود النظاميين والمرتزقة، واستنفروا كل ولاياتهم لتحقيق هدفهم في إسقاط عاصمة الدولة السعودية الأولى الدرعية. وكانت معركة بسل التي سطر السعوديون فيها مجدًا منقطع النظير في عصر الدولة السعودية الأولى.

يقع وادي بسل بين الطائف والباحة، متوسطًا المسافة بين تربة والطائف، وتحيط به سلسلة جبلية تشكّل حاجزًا طبيعيًّا للمتجه إلى تربة ونجد.

وقعت في هذا الوادي معركة بسل بعد عامين من هزيمة الجيش العثماني في معركة تربة الثانية التي كان يظن القائد العثماني مصطفى بك أنها في متناول يديه، حتى أذاقه السعوديون مرارة الهزيمة وأجبروه على الانسحاب. وعلى الرغم من هزيمة العثمانيين في تربة إلا أنهم سارعوا إلى إعداد حملات عسكرية أخرى، ولكن هذه المرة بقيادة الوالي العثماني على مصر محمد علي باشا نفسه، محاولاً كسر الخوف في نفوس عساكره الذين بدأوا ينهارون أمام ضربات السعوديين، ولكي يقضي بنفسه على السعوديين في الحجاز، الطائف على وجه التحديد، التي سيُفْتَحُ بسقوطها طريقٌ إلى عاصمة الدولة السعودية الأولى الدرعية.

وقعت معركة بسل في يناير (1815م) بين قوات الدولة السعودية الأولى بقيادة الأمير فيصل بن سعود بن عبدالعزيز والجيش العثماني بقيادة الوالي العثماني محمد علي باشا، الذي توجه لغزو السعوديين بأوامر السلطان العثماني محمود الثاني، بعدما استطاعت الدولة السعودية الأولى ضم عسير والحجاز إليها.

وصف المؤرخون بسل بأنها كبرى ملاحم الدولة السعودية الأولى مع العثمانيين، لما فيها من تفاصيل عسكرية وما حُشد لها من قوات ولأنها كانت مفصلاً فتح الطريق أمام العثمانيين الغزاة للانقضاض على الدرعية.

مارس فيها الوالي العثماني مجزرة بشرية بقطع 5 ألاف رأس من الأسرى السعوديين.

وعد محمد علي باشا السلطان العثماني في إسطنبول بالقضاء على الدولة السعودية الأولى التي أنهكت قوات السلطان في العراق والأحساء والشام، ولكونها تحوّلت إلى خطر على سلطنته.

وواجه محمد علي الأمير فيصل بن سعود قائدا على القوات السعودية نيابة عن أبيه الإمام سعود الذي توفي قبل أيام من المعركة الفاصلة، مكملًا المسيرة تحت لواء أخيه الإمام عبد الله بن سعود.

زحف السعوديون من نجد مع قائدهم فيصل بن سعود، وانضمت إليه أعداد أخرى من قبائل مختلفة تدين بالولاء للدولة السعودية الأولى، وحضر معه القائد السعودي طامي بن شعيب ومعه عدد كبير من قبائل عسير، وفهاد بن سالم بن شكبان من بيشة، وابن دهمان مع كتائب عديدة من فرسان قبيلة غامد، ومسلط بن قطنان السبيعي من رنية، وابن حطامل من شهران، وبخروش بن علاس من زهران، وغيرهم الكثير من قادة قبائل الحجاز وفرسانهم، قدرت هذه القوات بحوالي خمسة وعشرين ألفًا.

بدأت الملحمة بخطة سعودية مُحكمة للقضاء على الجيش العثماني ومحمد علي باشا نفسه، فأشاعوا أن جيشًا يتقدم من القنفذة باتجاه جدة سعيًا للاستيلاء عليها، الأمر الذي أربك الجيش العثماني ودفع الكثير منهم إلى الهرب، وبعد عملية التضليل التي قادها السعوديون ضد الأتراك وتوجيه انتباههم صوب القنفذة، هاجموا الأتراك في “بسل” واخترقوا خطوط الجيش العثماني، الأمر الذي دفع محمد علي باشا إلى التراجع.

عرفها المؤرخون بأنها أكبر الملاحم السعودية ضد المُحتل العثماني.

حاول محمد علي جاهدًا بواسطة فرسانه التأثير على خطة السعوديين لكنه فشل، وبعد انقضاء اليوم الأول من المعركة وفشل الخيّالة الترك في إحراز أي تقدم لهم، أدرك محمد علي قوة السعوديين وخشي الهزيمة، فحاك خطة أخرى وجمع قواده وأمرهم بالتقدم نحو المواقع السعودية، ومتى وصلوا إلى أقرب نقطة اشتباك أطلقوا النار بغزارة وتراجعوا تراجع المهزوم دون تنظيم نحو الوادي -في محاولة إيهام السعوديين بفرارهم-.

نفّذ الجيش العثماني الخطة كما وضعها الباشا، وما إن رأى السعوديون صفوف الأتراك تتراجع والبلبلة بينهم حتى تركوا مواقعهم الجبلية الحصينة ونزلوا إلى السهل، وهذا ما توقعه محمد علي، حتى ابتعد السعوديون عن الجبال التي كانوا يتحصّنون ويقاتلون منها فأرسل فرسانه وتمركزت قواته ومدفعيته فوق الجبال وقصف الجيش السعودي لتنتهي المعركة لصالحه.

حرص محمد علي أن يكون معظم جيشه من مرتزقة بادية شمال أفريقيا المتمرسين والمدربين على القتال في الصحراء إذ وصل عددهم لنحو عشرين ألف مقاتل، منهم 1200 فارس على خيولهم، ومئات المدافع والآلاف من البنادق الحديثة التي لم تكن متوفرة للجيش السعودي، إضافة إلى 3000 جمَّال من الشام، و2000 شخص من ليبيا لحمل المؤن التي قدرت بأنها تكفي لقتال شهرين كاملين.

الجيش السعودي كان في أكثره من قبائل سعودية أغلب فرسانها قدموا للدفاع عن دولتهم ووطنهم تحت رايةٍ واحدة لمقاتلة المحتل العثماني، وقدّرت القوات السعودية بأكثر من 25 ألف مقاتل، معظمهم من المشاة، إضافة إلى بنادق قديمة وشخصية وبدون مدافع.

سُجِّلت معركة بسل كواحدة من المعارك الكبرى التي خاضتها الدولة السعودية الأولى في دفاعها عن أراضيها ضد المحتل العثماني الغازي، الذي جاء من خارج الجزيرة العربية برجاله وعتاده ومرتزقته وأسلحته الحديثة، ليحتل أراضٍ لا يملكها وليس له فيها حق، وفي مرحلة تاريخية من عُمر الجزيرة العربية كانت فيها متوحدة تحت الراية السعودية، لم تكن معركة بسل هي المواجهة الوحيدة مع المحتل العثماني، بل هي جزء من حرب كبرى دارت معاركها على امتداد رقعة الدولة السعودية من المدينة المنورة وينبع إلى جدة ومكة المكرمة وامتدادًا على طول ساحل البحر الأحمر في القنفذة وتهامة عسير.

وقد تسببت الخديعة التركية في نزول القوات السعودية من أعالي الجبال رغبة منهم في القضاء نهائيًا على الأتراك واعتقال محمد علي نفسه، ما جعلهم ينسون النظام الحربي الصحيح الذي اعتمدوه، كما أن المفاجأة التي انتظرتهم عند بروز  هذا العدد الكبير من فرسان الأتراك والقصف المدفعي أفقدهم القدرة على المقاومة.

نهاية المعركة:

بعد انتهاء المعركة انسحب جانب من جيش فيصل بن سعود إلى تربة، بينما تفرّق الباقون وعادوا إلى مناطقهم خاصة إلى الباحة وعسير، وتتبعهم جيش محمد علي إلى تربة، وحين علم الأمير فيصل بذلك، انسحب منها إلى رنية، ومنها إلى نجد، بينما تابع محمد علي زحفه، محتلاً تربة ورنية وبيشة وعسير.

ارتكب العثمانيون مجازر كبرى في حق أسرى الجيش السعودي، ووضع محمد علي باشا جائزة قدرها 6 جنيهات ذهبية عن كل رأس مقاتل سعودي، وفي ساعات قليلة تكدس أمامه خمسة آلاف رأس مقطوعة من غير الشهداء السعوديين الذين استشهدوا في أرض المعركة.

وبرغم مرارة الهزيمة وتفرُّق الفرسان وانسحابهم إلى الداخل، سطَّر السعوديون بطولات لا يزال التاريخ يحتفظ بها حتى اليوم، ومنها أن الفارس فهاد بن سالم بن شكبان من بيشة وبعض مئات من رجاله استطاعوا اختراق الطوق التركي والانسحاب بسلام إلى مناطقهم. كما أن القائد بن رقوش أحد قادة زهران قتل بيده عددًا من ضباط الوالي العثماني، وعندما فقد حصانه انتظر حتى سنحت له فرصة رمي أحد الفرسان الأتراك عن جواده، فامتطاه منسحبًا مع مقاتليه إلى دياره، وضربت القوات العسيرية أعظم أمثلة التضحية، إذ تقول المصادر إن كثيرًا منهم وجدوا قتلى مكبلين بالحبال في الجبال المجاورة لوادي بسل، بعد أن أوثقوا أقدامهم بأنفسهم، مقسمين بالله على عدم الهرب أمام الأتراك، ومقاتلين حتى الرمق الأخير ليبقوا على تلك الحالة وينتهي بهم الأمر مثالاً لشهداء الوطن العظام، الذين كتبوا التاريخ بدمائهم.

الشهداء كبلوا أيديهم بأنفسهم في مواقع القتال ثباتًا في مواجهة الموت.

  1. عبدالرحيم عبدالرحمن، الدولة السعودية الأولى، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1987).
  2. عبد الفتاح حسن أبو علية، محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى، ط2 (الرياض: دار المريخ، 1991). 
  3. عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971).
  4. فليكس مانجان، تاريخ الدولة السعودية الأولى وحملات محمد علي على الجزيرة العربية، ترجمة: محمد خير البقاعي (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز ، 2003).
تشغيل الفيديو

كانت قاعدةً مهمة لجيش الدولة في مواجهة غزاة التُّرك

"تربة" السعودية هزمت العثمانيين مرتين

كانت أوامر السلطان العثماني مصطفى الرابع من واليه على مصر محمد علي سنة (1807م) بتدمير الدرعية -عاصمة الدولة السعودية- مباشرة وصريحة؛ ذلك للقضاء على الدولة السعودية الأولى التي أحرجت العثمانيين. وهذا ما أشارت إليه وثائق دار الوثائق القومية المصرية، التي كشفت أن محمد علي باشا أرسل اعتذاره للسلطان عن عدم قدرته على تلبية طلبه بتنفيذ المهمة، للظرف الاقتصادي المتدهور الذي تمر به ولايته، وخشيته من أطماع الدول الأوروبية.

أغرى السلطان واليه محمد علي بأنه سيكون في مصلحة الدولة العثمانية، التي ستُنعم على ولايته وترفع مكانتها ومكانته باعتباره واليًا على مصر. ولم يكن أمام الوالي بعد الإلحاح إلا الاستجابة لرغبة السلطان بمهاجمة الدولة السعودية الأولى، التي  أرْدَتْهُم بأول هزيمة في وادي الصفراء (1812م)، وأجبرت قائد الحملة أحد طوسون على الفرار ومن تبقى معه من جيشه إلى ينبع طلبًا للمدد والمزيد من العساكر بعد خسارتهم عدتهم وعتادهم، ويشير المؤرخ المصري عبدالرحمن الجبرتي إلى أن طوسون أحصى جنوده الذين وصلوا إلى ينبع أحياءً بعد وادي الصفراء، فوجدهم قد بلغوا ثلاثة آلاف جندي بعد أن كانوا ثمانية آلاف.

معركة تربة الأولى:

وخلال فترة وجود طوسون في ينبع أمدوه بالمزيد من العساكر والعتاد من جديد، لذا تمكن من التحرك واحتلال مكة المكرمة سنة (1813)، وبعد ذلك بأسبوعين تمكَّن من احتلال الطائف.

كانت قوات الدولة السعودية الأولى وقتها قد تبنَّت استراتيجية عسكرية تتلخص في استدراج القوات العثمانية الغازية إلى داخل أراضي الجزيرة العربية حيث الصحاري والوديان، إضافةً إلى إبعادهم عن مراكز التموين وخطوط الإمداد، حتى يسهل هزيمتهم كما حدث لهم في وادي الصفراء، ويتحدث ابن بشر عن الحملة العثمانية الأولى على بلدة تربة بقوله: “فلما كان في شعبان من هذه السنة (1228ه/ 1813م) اجتمعت العساكر المصرية من مكة والطائف وسار بهم مصطفى ومعهم راجح الشريف في جموع من البوادي الذين نقضوا العهد وبايعوا الترك، فسارت تلك الجموع ومعهم المدافع والقنابر وقصدوا بلدة تربة، وفيها مرابطة من أهل نجد وغيرهم فحاصرها الترك ثلاثة أيام، ثم أقبل مدد من أهل بيشة وغيرهم لأهل تربة، فلما أقبلوا على الترك كمنوا لهم وناوشوهم القتال. فخرج كمين السعوديين على المحطة والخيام فانهزمت تلك العساكر والجموع، فاستولى السعوديون على محطتهم وخيامهم وقتل منهم قتلى كثر ورجعوا مكسورين”.

ويتبادر هنا سؤال عن أهمية بلدة تربة التي دعت القوات التركية الغازية لمهاجمتها بقوات كبيرة؟، وتتلخص الإجابة في أن تربة كانت تمثل قاعدة مهمة للسعوديين على الطريق الرابط بين الحجاز ونجد، فهي فعليًا بوابة الحجاز إلى نجد، ومركزًا مهمًّا كانت لضرب القوات العثمانية الغازية نحو أواسط نجد، لذا حرص مصطفى بك على القيام بحملة على تربة من أجل قطع الطريق على السعوديين في مقاومة تحركات جيش الحملة.

مركز القيادة الذي أداره الإمام سعود بن عبدالعزيز كان يوجه تحركات الجيش السعودي الذي سبق الأتراك في فرض أسلوبه واستراتيجيته.

يشير الفرنسي فليكس مانجان إلى أن الإمام سعود بن عبدالعزيز أمر ابنه فيصل بأن يسير على رأس قوة عسكرية وألا يواجه أعداءه إلا في تربة، وأن يُبقي قسمًا من قواته لتتحصن في بيشة، ويضع الهجّانة والفرسان في المضائق، بأسلوب يسهل معه قطع الطريق على القوات الغازية. وقد جعلت القيادة السعودية من تربة حصنًا حصينًا بانتظار قدوم الغُزاة ومواجهتهم.

وصل الغُزاة العثمانيون وفرضوا حصارًا على تربة ثلاثة أيام، لكن القوات السعودية صمدت داخل البلدة المحصنة، وكان لغالية البقمية دور في رفع معنويات المدافعين عن البلدة من رجال قبيلتها البقوم، حيث تذكر المصادر أنها خرجت على رأس فريق من رجالها لمواجهة الغزاة، وتزامن ذلك مع وصول المدد السعودي من جهات بيشة بقيادة عبد الله بن سعود وسالم بن شكبان.

التقى الطرفان في وادي السليم الذي دارت فيه معركة شرسة انتهت بطرد الترك وهروبهم إلى جهات الطائف يجرّون أذيال الهزيمة، مخلِّفين وراءهم من القتلى والغنائم الكثير، ونتج عن تلك المعركة أن عرف وادي السليم بعد المعركة بوادي “ريحان” لامتلائه بجثث القتلى من الجيش العثماني، وقد قُدِّر عدد القتلى بين الستمائة إلى ألف قتيل، وأشار مانجان إلى الهزيمة بقوله: “وخسر مصطفى بِك مدفعيته وأمتعته؛ وكانت هزيمته نكراء لا تقل عن هزيمة مضايق الصفراء”. 

معركة تربة الثانية:

بعد هزيمة العثمانيين النكراء في تربة، قرر محمد علي باشا إرسال حملة أخرى بقيادة طوسون قائد القوات في الحجاز، الذي انطلق في فبراير (1814م) بقواتٍ كبيرة، اختلف المؤرخون في عددهم بين خمسة آلاف مقاتل من المشاة وألف فارس وستة مدافع، و ما بين ثلاثة آلاف مقاتل بعدته وعتاده، واصطحب طوسون أبرز قادته مثل عابدين بك وتوماس كيث المسؤول المالي للحملة، وأحد الزعماء المحليين الموالين للعثمانيين، وقد كان في الوقت نفسه ناقمًا من تصرفات محمد علي باشا، ولكي ينتقم منه سلك بالحملة طريقًا طويلاً لتنفذ من خلاله المؤن وعانى العسكر والبهائم، إضافة إلى مخاطر الطريق وغزوات البادية عليهم.

وبعد تلك مسيرة العثمانيين المُنهكة تلك وصل طوسون وجيشه جهات تربة، وأصدر أوامره بمهاجمة البلدة، ولم يعط عساكره فرصةً للراحة، بل فرض الحصار أربعة أيام حسب ما ذكره ابن بشر، ولم يتمكن من الدخول إليها، وذلك للشجاعة النادرة التي أبداها المرابطون السعوديون الذين حافظوا على أسوار البلدة، تتقدمهم غالية البقمية بكل بطولة وبسالة نادرة، وازداد الموقف العثماني صعوبةً بعد انسحاب زعامات محلية موالية لهم، على رأسهم الشريف راجح الشنبري الذي قرر الانضمام إلى جيش الدولة السعودية المدافع عن تربة.

غالية البقمية أرهبت التُّرك بقوة السعوديين، وأعانتهم على الصمود في دفاعهم عن وطنهم.

حينها شعر طوسون ورجاله بعجزهم عن اختراق أسوار تربة، وباءت كل محاولاتهم بالفشل، وعندما قرر طوسون الهجوم بالقوة نبهه ضباطه إلى خطورة ذلك لنقص المؤن والذخائر، فاضطر إلى رفع الحصار عن البلدة والانسحاب ليلاً ولكنه مع ذلك تكبَّد خسائر كبيرة نتيجة هجوم المُدافعين السعوديين العنيف حين خرجوا من البلدة واستولوا على الطرق والممرات، فأربك المنسحبين ذلك وبدؤوا بالهروب لا يلوون على شيء إلا النجاة بينما كاد الجيش العثماني أن يهلك من ذلك الهجوم.

وفي تربة كرَّر السعوديون هزيمتهم للغُزاة التُّرك وإذلالهم، فأحدث ذلك ردَّة فعلٍ سلبية بين أفراد الجيش العثماني، الذي راح قادته وجنوده يرمون بعضهم بالتهكم وتعليق أسباب الهزيمة بينهم. كما كان لهذا الانتصار السعودي ردة فعل عنيفة في بلاد السلطان العثماني وواليه في مصر محمد علي. 

 

  1. بريدجز ، موجز لتاريخ الوهابي، ترجمة: عويضة الجهني (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2005).
  2. دلال الحربي، غالية البقمية حياتها ودورها في مقاومة حملة محمد علي باشا على تربة (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز، 2012).
  3. عبدالرحيم عبدالرحمن، الدولة السعودية الأولى، ط5 (القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1987).
  4. عبد الفتاح حسن أبو علية، محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى، ط2 (الرياض: دار المريخ، 1991). 
  5. عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، تحقيق: عبدالرحمن آل الشيخ، ط4 (الرياض: وزارة المعارف، 1971).
  6. فليكس مانجان، تاريخ الدولة السعودية الأولى وحملات محمد علي على الجزيرة العربية، ترجمة: محمد خير البقاعي (الرياض: دارة الملك عبدالعزيز ، 2003).