كان لها إنجيلها الخاص

بدأت "الإمامية" في العقيدة الفارسية بعد قتل مؤسس المانوية في القرن الميلادي الثاني

يؤمن الفرس بأن العقيدة المانوية هي الأساس الثاني لعقائدهم القديمة التي يعتزون بها بعد الزرادشتية، والتي لا تزال إلى يومنا الحالي مؤثرةً بطقوسها ومعتقداتها في ثقافتهم، والمانوية في أبسط تعريفاتها، هي: حركة دينية ثنائية تعادل بين النور والظلمة، في العبادة والانتماء، وقد ظهرت خلال القرن الثالث الميلادي في بلاد فارس، واعتبرت دينًا قائمًا بذاته، بالرغم من محاكاتها للديانتين المسيحية واليهودية.

وقد أُشير إلى المانوية في مختلف النصوص اليونانية والقبطية والفارسية، والتي وثّقت فترتها التاريخية، والمانوية بتأثرها الأكبر بالدين المسيحي يعتبرها البعض أنها هرطقة مجردة مستلَّة من دين سماوي، لذا يصعب اعتبارها دينًا مستقلاً عن غيره من الأديان، غير أن ارتباطها عقديًّا وتاريخيًّا بالفرس، وإيمانهم بها، سواءً باعتبارها معتقدًا أو طقوسًا وثقافة؛ يجعلها مستقلةً ذات أبعاد دينية مختلفة، وإن بُنيت على إرث ديانات سماوية.

وبحسب ما يصفها حسين إياد في كتابه الفكر العقائدي للديانة المانوية: “المانوية من الديانات التي ظهرت في القرن الثالث الميلادي، وكان لها تأثير كبير على عقائد وعقول الناس آنذاك، وما زالت عقائد وأفكار هذه الديانة معروفة بين العديد من سكان المناطق في جنوب شرق آسيا وإيران، علمًا أن بداياتها كانت في أرض الرافدين وفي مدينة بابل بالتحديد، نظرًا لمكانة هذه المدينة وتطورها الحضاري”.

كان لمؤسس المانوية أسلوبه الخاص، الذي جمع فيه العديد من الأفكار والتصورات التي اقتبسها من الديانات السماوية، كذلك من الوضعية، ووضعها في بوتقة واحدة، ونظّم دستوره الخاص لعمل أتباعه ومقلديه لتنظيم وتسيير الحياة الاجتماعية بما يتوافق مع الثقافة الفارسية، وقد يكون هذا الاقتباس الذي عمل عليه ماني؛ من الأمور التي قللت من انتشار عقيدته في زمنها، لا سيمًا أن أكثر أتباعه كانوا من الفرس، بينما لم تنظر له الأمم الأخرى أكثر من كونه محاكيًا لغيره.

وتأتي أهمية دراسة المانوية من خلال مصادرها الفكرية التي نهلت منها أفكارها العقائدية ودستور عملها، وكان أبرزها المسيحية والزرادشتية والبوذية، إضافة إلى الحركات الفكرية الأخرى، لذا كانت من الجانب التاريخي بمنزلة دراسة حياة المؤسس الأول لها وجذوره وأصوله، وكذلك العقائد والأفكار الدينية والأنبياء الذين أثروا في شخصيته مما دفعه إلى الأخذ بهذه الأفكار والاقتباس منها بشكل مباشر وغير مباشر ، وكان لها الأثر الواضح في عقائده وأفكاره، وأيضا نظرياته حول الخلق والخليقة والتعاليم والعبادات المتبعة من قبل مقلديه وتابعيه وأهم مؤلفاته ورسائله.

وعن سبب اقتباسه ومحاكاته للديانات السماوية؛ يعود ذلك لكون ماني ولد في بابل وتربى في وسط مختلط يهودي مسيحي، وأمضى مطلع شبابه في بلاد ما بين النهرين، وشرع في سنه العشرين إلى الدعوة إلى دينه الجديد في محاولة إظهار دين عالمي مقبول من الجميع، وغير محدود بتعليم باطني قائم على التلقين، وقد بدأ في الحادية عشر من عمره ببلورة بعض الأفكار الجديدة في عقله معارضًا كثيرًا من المعتقدات الدينية الموجودة في مجتمعه كالإنجيل الرباعي ورسائل بولس.

وما إن أصبح في عمر الأربع والعشرين عامًا حتى زعم أنه قد نزل عليه وحيٌ لقّنه تعاليمًا إلهيةً، شكّلت أساسًا للديانة المانوية واعتبر نفسه الروح القدس والوسيط الذي بشّر به النبي يسوع، وقدّم نفسه على أنه نبيٌ جديد خلال حفل تنصيب الملك الساساني شابور الأول، معتبرًا أنه جزءٌ من سلسلة الأنبياء ووريث زرادشت في بلاد فارس وبوذا في الهند والصين، ويسوع المسيح في الغرب، وأنه نبيٌ شاملٌ لكافة الناس وآخر الأنبياء.

وبهذا كان يهدف ماني إلى محاولة دمج ديانات أخرى بإقامة صلة بين ديانته ومجموع ديانات مسيحية وبوذية وزرادشتية، لذلك يَعُدُّ ماني كلاً من بوذا وزرادشت ويسوع أسلافاً له، وقد كتب عدة كتب من بينها إنجيله الذي أراده أن يكون نظيرًا لإنجيل عيسى بن مريم عليه السلام، وهناك تشابه في رواية قتل ماني مع الرواية التي يروج لها المسيحيون زعمًا بقتل ابن مريم عليه السلام.

كما روّج ماني لنفسه بأنه أحد تلاميذ النبي عيسى -عليه السلام، إلا أن الكنيسة المسيحية رفضت ذلك، واعتبرته زنديقًا وديانته نوعا من الهرطقة، ورغم ذلك حصلت المانوية على دعم عددٍ من الشخصيات السياسية عالية المستوى في الإمبراطورية الفارسية، التي وجدت فيها عقيدة وطنية تستميل بها شعبها، لذلك بدأ ماني بإرسال رسائل تبشيرية وصلت إلى تركستان والهند وإيران لتنتشر المانَوية في مختلف أنحاء العالم القديم بسرعة كبيرة، حتى وصلت روما عام (280م) لتظهر دُور العبادة المانوية فيها عام (312م) في عهد البابا ميلتيادس، بينما وصلت إلى مصر عام (244م) وعرفها سكان جنوب فرنسا عام (352م).

ومن أبرز معتقدات المانوية التناسخ، الذي يُعد فكرةً قديمةً قِدم الهرطقات، لمحاولة إنكار البعث لدى بعض الأديان، لذلك يلجأون إليها من يمكن وصفهم بالهاربين من الحقيقة، لأنها تعطيهم حلولاً جاهزة لفكرة البعث، وليست المانوية ببعيدة عن ذلك، ويقول كتاب “الأديان الوضعية في مصادرها المقدسة وموقف الإسلام منها”، عن التناسخ باعتباره من الأفكار الرئيسة في الديانة المانوية:

“ظهرت بدعة التناسخ في خيال بعض الفلاسفة الذين قالوا بقدم العالم، وبإبطال البعث بعد الموت، وقالوا بتناسخ الأرواح في الأجساد المختلفة، والصور المتعددة، كأن تُنقل روح الإنسان إلى حيوان أو روح الحيوان إلى إنسان، كما زعموا أن من أذنب في قالب ناله العقاب على ذلك الذنب في قالب آخر، وينطبق هذا عندهم على الثواب. وقد ذهبت المانوية أيضًا إلى اعتقاد التناسخ، مستندين إلى تعاليم ماني الذي يرى أن الأرواح التي تفارق الأجسام نوعان: أرواح الصديقين، وأرواح أهل الضلالة، أرواح الصديقين إذا فارقت أجسادها سرت في عمود الصبح إلى النور الكائن فوق الفلك، وتبقى في ذلك العالم على سرور لا ينقطع، أما أرواح أهل الخطايا والضلال فإنها إذا فارقت أجسادها، وأرادت اللحوق بالنور الأعلى تحل في أجساد أخرى”.

ثمة تشابه كبير بين رواية المسيحيين وزعمهم صلب المسيح، ورواية أتباع ماني الذي لقي حتفه على يد المؤسسة الدينية الفارسية في السجن قبل أن يقتل ويصلب بناء على الحكم الصادر من  الإمبراطور الفارسي بهرام الأول، إلا أن وفاة ماني عام (277م) كانت ذات أثر إيجابي في زيادة انتشار المانوية بشكل أكبر، ليزيد من الاضطهاد والقمع لأتباعه على يد الإمبراطور بهرام الثاني، حيث قتل المبشر سيس ولاحق المانويين أينما وجدوا، ليتابع الحملة الإمبراطور دقلديانوس عام (302م) عندما أصدر مرسومًا يأمر بإخضاع المانويين بالقوة، وارتُكبت مجازر بحقهم في مختلف البلاد على عهد ثيودوسيوس الأول الذي أمر بقتل كافة رجال الدين المانويين عام (382م).

ويزعم أتباع المانوية أن ماني ارتفع إلى جنان النور، لكن قبل ارتفاعه وضع إمامًا بعده ينوب عنه كما هو دارجٌ لدى ثقافة الفرس اليوم، فكان يقيم الشعائر إلى أن توفي، وكان الأئمة يتناولون الدين واحدًا عن واحد، لا اختلاف بينهم، وظلوا على هذا الوفاق إلى أن ظهرت فرقة خارجة منهم يُعرفون بـ”الدينابورية” فطعنوا على إمامهم، وأعلنوا امتناعهم عن طاعته، وكان معلومًا بينهم أن الإمامة لا تتم إلا “ببابل” فلا يصح أن يكون إمامًا.

وبعملية قياس بسيطة، يُلحظ كيف أن فكرة الإمامة وتداولها عبر الزمن؛ لم تكن إلا ثقافة فارسية صِرفة متوارثة من قبل الإسلام لديهم، منذ القرن الثالث الميلادي بعد ظهور المانوية.

زعم المانويون بأن ماني ترك من ينوب عنه قبل الصعود إلى الجنة، ونائبه يجب أن يكون بابليًّا.

  1. حسين إياد محمد، الفكر العقائدي للديانة المانوية: دارسة في أصوله وتأثره بالعقائد الزرادشتية والمسيحية (بغداد: جامعة بابل، 2015).

 

  1. حسين عطوان، الزندقة والشعوبية في العصر العباسي الأول (بيروت: دار الجيل، د.ت).

 

  1. جيووايد نغرين، ماني والمانوية: دراسة لديانة الزندقة وحياة مؤسسها (دمشق: دار حسان، 1985).

 

  1. فراس السواح، موسوعة تاريخ الأديان: الزراديشتية، المانوية، اليهودية، المسيحية، ط4 (دمشق، دار التكوين، 2017).

 

  1. وائل سليمان، تاريخ المانوية (منصة أراجيك، 2019).