رافقه تزوير متعمد من مؤرخيهم

التغوُّل التاريخي الفارسي تجاه كل ما هو عربي

تجاهل الفرس تمامًا امتدادهم العِرقي نحو الشرق في بلاد الهند والأفغان والشمال صوب بلاد الأوزبك وجورجيا، وركزوا أطماعهم صوب العراق والخليج العربية والجزيرة العربية، التي تمثل بالنسبة لهم الضفة الأخرى من جغرافيا الإقليم، وأصروا على التمدد باتجاه أرض العرب على مر تاريخهم.

وعلى الرغم من أن العلاقة بين الفرس والجزيرة العربية يحدوها الغموض إلى حد كبير، بسبب أن أغلب المصادر التاريخية لم تركز على طبيعة العلاقة وتفاصيلها بدقة، إلا أن أبرز ما هو حاضر في الذهنية الفارسية تجاه العرب هزيمة كسرى أنوشروان آخر أباطرتهم في معركة القادسية الشهيرة، عندما انطلق فرسان المسلمين العرب – من جزيرتهم العربية ليستولوا على امبراطوريتين عظيمتين كانت إمبراطورية الفرس إحداهما، وهذا السقوط على أيدي العرب البدو، لايزال يقيم حسرات ومرارة في نفوس الفرس المتطرفين إلى يومنا هذا.

أكثر من 1400 عام مرت على سقوط إيوان كسرى، إلا أنه لم يخل من بعض الاقتتال ومحاولات فارسية للعودة والاستيلاء على أجزاء من الجزيرة العربية، وظهر ذلك جليًا في المئتي سنة الماضية، عندما احتلت إيران (وريثة فارس) بعض الجزر العربية، وكذلك محاولاتهم لزعزعة استقرار البحرين واليمن.

بقيت العلاقة الاجتماعية والعرقية بين العرب والفرس في فراق دائم، خاصة أن الإرث الدموي بينهما كبير جدًا، والمرارة التي يشعر بها الفرس إثر سقوط امبراطوريتهم على أيدي العرب، إلا أن تغول الفرس وتعاليمهم في التعامل مع العرب كان هو السائد، فهم لا ينظرون لعرب الجزيرة إلا كبدو من الصحراء، ولن ينسى العرب كيف أن الملك الفارسي المسمى بذي الأكتاف كان يُشَنِّع بالأسرى العرب، ولذلك سمي بذي الاكتاف لأنهُ كان يخرق أكتاف أسراهم ويصلبهم في الجبال.

يقول مؤلف كتاب “الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام، شارحًا العلاقة بين العرب والفرس، ومقسمًا  ذلك إلى قسمين: ما قبل العهد الساساني وهو أساطير، وما بعده وهو تاريخ أو قريب من التاريخ. ويكشف عبدالوهاب عزام سيطرة الأساطير على الروايات التاريخية في التاريخ القديم، وهي -بلا شك- انطلقت من تأثر الفرس أنفسهم بالأديان القديمة وما شابهها من خرافات وفلسفات غارقة في التعلق بالأجرام والكون.

كما يكشف الباحث الإيراني ناصر بوربيرام في قراءة مختصرة عن تاريخ الفرس مع العرب، تزوير المؤرخين الفرس للعلاقة مع الجزيرة العربية: “جزيرة العرب لم تتعرض لاحتلال أجنبي قط، لقد حفظ الله جزيرة العرب من الغزاة منذ فجر التاريخ في حين أغلب دول العالم رزحت تحت نير الاستعمار سوى جزيرة العرب لم تستعمر يوما، وللعظة فقط جرت محاولة وحيدة يتيمة منذ فجر التاريخ إلى اليوم كان ذلك في عام الفيل حيث لم يتم لأبرهة الأمر فأرسل الله القوي طير الأبابيل ترمي جيش أبرهة بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول”. ويفند ذلك أكثر في تشريحه لأسطورة الملك سابور الثاني، حيث تتحدث الأسطورة عن غزوه لـ هجر والبحرين متوغلاً في صحراء الجزيرة العربية باتجاه اليمامة والمدينة، لكن الجغرافيا الصعبة تدحض هذه الأسطورة رغم وقوع الغزو للساحل الشرقي للجزيرة، لأن هذا أمر منهك للجيش في أرض مكشوفة، وهي حملات -إن صح وقوعها فعلاً- فلا بد أن تكون تمت عن طريق حلفاء داخليين، إذ يصعب تصوّر قيام الفرس وحدهم وبدون مساعدة باجتياز البوادي الشاسعة المنهكة لملاحقة العرب، وهم سادة البادية.

ولم يكن في وسع الفرس، مهما بلغ جيشهم من التدريب والتنظيم تحمّل العطش وحرارة البادية وجوّها القاسي الصارم، فلو كان لسابور القدرة على التوغل في صحراء الجزيرة لما احتاج إلى أن يستعين بامرئ القيس ليكون عامله على العراق ومعلوم أن إيران والعراق جوار واحد، ومع ذلك لم يستطع سابور الثاني أن يسيطر على العراق إلا بواسطة امرئ القيس، بعكس أن العرب عندما غزوا  إيران كان ولاتهم من العرب كزياد بن ابيه عامل علي بن ابي طالب رضي الله عنه على فارس.

لم يكن  ذلك الغزو الوحيد الذي أثبت أطماع الفرس في الجزيرة العربية، فقد استولى الفرس على اليمن في جنوب الجزيرة العربية خلال الفترة (575-628م) بعد أن كانت اليمن تخضع لحكم الأحباش الذين أذاقوا اليمنيين مر الحال، لكن الاستعانة بأجنبي آخر لم تكن بأفضل من الأولى، فقد كانت الأطماع الفارسية حاضرة، لتحتل اليمن هي الأخرى.

أرسل كسرى ملك فارس السجناء والمرتزقة لمساعدة سيف بن ذي يزن في حربه ضد المحتل الحبشي، ليصبح المساجين الفرس بعد هزيمة الأحباش حكامًا يأخذون الجزية لصالح ملكهم كسرى، وجعل ذي يزن حاكمًا تابعًا لملك فارس وهو صاغر، إلا أن ذلك لم يستمر إذ أزيح اليمنيون وبدأ الملوك الفرس المباشرون، بعدما انقلبوا على ذي يزن ليحكم وهرز العامل الفارسي لكسرى، ولما مات وهرز أقام كسرى مكانه ابنه المرزبان، ولمّا مات مرزبان، أمّر ابنه التّينُجان بن المرزُبان، ثمّ عزله، وولي على اليمن باذان.

يقول عبدالوهاب عزام في شرحه لغموض فترة الفرس في جنوب الجزيرة والتباسها وتداخلها مع الأديان والأعراق الأخرى: “حاول جيش الفرس الاستيلاء على اليمن في القرن الثاني الميلادي وأتيح لهم أن يستولوا على بعض مدنه في القرن الثالث، ثم أخرجهم الحميريون، فلما تنصر الجيش في القرن الرابع أيدهم الرومان على الحميريين فاحتلوا اليمن ٣٧٤م، ويظهر أن الفرس طمحوا إلى اليمن منذ ذلك الحين، فقد كان النزاع الذي شجر بينهم وبين الروم منذ قامت الدولة الساسانية حريًّا أن يلفَّهم إلى اليمن بعد أن تألب عليهِ الروم أعداؤهم الألدَّاء والحبش”.

ويضيف عزام: “لسنا ندري من أخبار الفرس في اليمن شيئًا قبل القرن السادس الميلادي إذ تهوَّد تُبَّعٌ ذو نواس وأكره النصارى على التهوُّد وعذَّبهم فغضب لهم الروم والحبش، وأمد الإمبراطور جستنيان الحبش وسلَّطهم على اليمن حتى استغاث سيف بن ذي يزن كسرى أنوشروان فأمده بجيش حملتهُ السفن في الخليج إلى عمان، ثم سار في البر وانحاز إليهِ أهل اليمن فهزموا الحبش وتولى على البلاد سيف بن ذي يزن حتى قتله حرسه الحبشي، فاستقل بأمر البلاد ولاة من الفرس توالوا عليها حتى جاءَ الإسلام والوالي يومئذ باذان”.

الخلاصة أن الفرس لم يجدوا موطئ قدم ثابتة لهم في الجزيرة العربية، بل إن كل محاولاتهم كانت تندثر وتذوب عند أقدام العرب، فلا لغتهم ثبتت في الجزيرة العربية رغم احتلالهم لبعض أجزاء منها ولفترات زمنية طويلة، ولا لهم أي آثار عمرانية واضحة في المناطق التي احتلوها على عكس الأمم الأخرى مثل الرومان، ولعل هذا يفسر لنا طبيعة “فرس اليوم” الذين لا يدخلون أرضًا إلا دمروها، ولا بلدًا إلا حوّلوه لبلد فاشل، إن الفرس في نهاية الأمر أمة طامحة طامعة لكنها لا تحمل إرثًا ثقافيًّا وتمده نحو الآخر.

لم يدخل الفرس أرضًا عربية إلا دمَّروها وحوَّلوها خرابًا منذ تاريخهم القديم إلى اليوم.

  1. حسن بيرنيا، تاريخ إيران القديم من البداية حتى نهاية العصر الساساني، ترجمة: محمد نور عبد المنعم، والسباعي محمد السباعي (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2013).

 

  1. عبد الوهاب عزام، الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2012).

 

  1. هوما كاتوزيان، الفرس: إيران في العصور القديمة والوسطى والحديثة، ترجمة: أحمد حسن المعيني (بيروت: دار جداول، 2014).