بقيت طقوسًا ومعتقدات منفصلة

المانوية...

شكلٌ آخر من العقائد الفارسية المشوهة

تُعَدُّ المانوية أو المنانية من الديانات الهامشية التي ظهرت في بلاد فارس في النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي، على يد مؤسسها ماني المُلقّب بـرسول النور أو المنبر الأعلى، واختلف المؤرخون في تعاطيهم وتوثيقهم لهذه الديانة بين من عدَّها معتقدًا دينيًّا قائمًّا بذاته، وبين من وصفها بهرطقة مسيحية مجردة، أو على الأكثر إحدى مظاهر التأثر بالعقيدة المسيحية.

تأثرت بالمسيحية في كثيرٍ من تفاصيلها، وكانت هجينًا فارسيًّا من ثقافات عدَّة.

ورغم أن بعضهم ذهب إلى حد نفي وجود هذه الديانة، وادَّعى أن مؤسسها شخصية خيالية مجردة ابتكرتها مُخيّلة بعضهم، إلا أن العديد من المؤرخين يؤكدون أن ماني شخصية حقيقية ولد سنة (216م) في إحدى المناطق الريفية شمال بابل.

وحول شخصيته تروي بعض الكتابات التاريخية أن والده اسمه “فتق” عاش في حوالي عام (200م) في مدينة همدان، وكان متزوجًا من سيدة اسمها مريم، فلما كان في يوم من الأيام هتف به هاتف من هيكل بيت الأصنام: “يا فتق لا تأكل لحمًا ولا تشرب خمرًا، ولا تنكح بشرًا”، فلما رأى فتق ذلك لحق بقوم كانوا بنواحي دستيمان عُرِفُوا بالمغتسلة، وقد حملت مريم بعد فترة وجيزة من حادثة بيت الأصنام بولد سمته ماني.

هذا ولم يُحسم الاختلاف على حقيقة وجود شخصية ماني تاريخيًا، غير أن تعاليم المانوية ومبادئها مليئة بالخرافات والخزعبلات والحكايات التي صيغت بشكل مفتعل، مثل تلك المتعلقة بقصة خلق آدم وحواء، إذ وفق تصور المانوية أن الشيطان “أشقلون” ابتلع جميع ذكور الحيوانات المخيفة، وقُدّمت الحيوانات المخيفة المؤنثة إلى نامارائيل “الشيطانة”، وبعد هذا أنجب أشقلون ونامارائيل آدم وحواء أول المخلوقات البشرية.

التزم المانويون بانضباط عقدي صارم، وتشددت عقيدتهم في مسائل التحريم والمنع، وامتنع أتباعهم من ممارسة الجنس، واتبعوا نظامًا غذائيًّا قاسيًا أبرزه تحريم اللحوم والخمور، ولقد اتخذت المانوية رؤيتها الأساسية من الثنوية الراديكالية ذات الأصل الإيراني.

وإذا كانت التفصيلات التي جاءت في كتب المؤرخين مختلفة إلى حد التناقض والتعارض، فإن مناط ذلك يرجع إلى غياب مخطوطات أصلية أو نصوص متواترة، وهو ما دفع البعض إلى ملء الفراغ التاريخي باللجوء إلى الصياغة التخيّلية أو الربط والجمع بين كتابات من سلف، لنجد أنفسنا أمام دين معقد المبادئ، مشوّه العقائد وصعب على الدراسة والفهم.

في هذا السياق، يسرد ابن النديم شروط اعتناق المانوية فيقول: “ينبغي للذي يريد الدخول في الدين أن يمتحن نفسه، فإن رآها تقدر على قمع الشهوة والحرص وترك أكل اللحوم والخمر والتناكح، وترك أذية الماء والنار والسحر والرياء، فليدخل في الدين، وإن لم يقدر فلا يدخل”.

أثارت تعاليم المانوية كثيرًا من اللغط حول تماهي بعض مفاهيمها مع المسيحية، وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك حين زعم أن بعض تعاليم الإسلام ما هي إلا تعاليم مانوية، وهو ما رد عليه علماء المسلمين الذين كسروا هذا الربط العشوائي غير الموضوعي بقليل من الجهد، وبقدر دقيق من التأصيل.

أما التشريعات والفرائض المانوية؛ فقد ألزم ماني أتباعه بعشرة فرائض وثلاثة خواتيم وصيام سبعة أيام كل شهر، فأما الفرائض فهي الإيمان بالعظائم الأربع، الله ونوره وقوته وحكمته، فالله جل اسمه ملك جنان النور، نوره الشمس والقمر، وقوته الأملاك الخمسة، وحكمته الدين المقدس، أما الفرائض فهي ترك عبادة الأصنام وترك الكذب وترك البخل والقتل والزنا والسرقة، وتعليم السحر، والقيام بدينهم والاسترخاء والتأني في العمل، وفرض صلوات أربع أو سبع.

تدعي المانوية عملها على السمو بالنفس الإنسانية، ودفعها إلى الامتناع عن القيام بأي شئ يُمكن أن يحجب النور في صراعه الأزلي مع الظلام، وكان التوجيه المانوي صارمًا في الامتناع عن أي شئ يمكن أن يقوي شهوات الجسد الحسية، ولما كان اللحم من طعام الشياطين وأكله من الشهوات الجسدية، فقد كان اجتنابه عندهم من أوجب الوصايا، ولهذا السبب أعد المانوية أنفسهم ليعيشوا على الفاكهة، واستحسنوا تناول الزيت.

أما بخصوص التعامل مع شركاء الطبيعة كالنباتات والحيوانات، فلم يُسمح للمانويين باجتثاث أي نبات أو قتل أي حيوان، وأخيرًا فُرض عليهم الامتناعٌ عن المعاشرة الجنسية بالكلية، بما في ذلك التخلي عن الزواج، وإن كنا نقطع باستحالة امتداد هذه التعاليم إلى الوحي الإلهي، فإن مجرد منع رابطة الزواج يبقى كافيًا لانقراض الاتباع، مما يقطع بأن الديانة المانوية تبقى مبادئ مجردة عامة رُوِّج لها في حقبة زمنية، عَرَفت تفريخًا لمجموعة من الطقوس ونسبت لمن ادعوا أنهم أنبياء الله.

  1. جيووايد نغرين، ماني والمانوية: دراسة لديانة الزندقة وحياة مؤسسها (دمشق: دار حسان، 1985).

 

  1. حسين عطوان، الزندقة والشعوبية في العصر العباسي الأول (بيروت: دار الجيل، د.ت).

 

  1. فراس السواح، موسوعة تاريخ الأديان: الزراديشتية، المانوية، اليهودية، المسيحية، ط4 (دمشق، دار التكوين، 2017).

 

  1. ابن النديم، الفهرست (بيروت: دار المعرفة، د.ت).