كانت نتيجة الصراع الطبقي الاجتماعي

نهاية المزدكية بمذبحة القصر الملكي الفارسي

قبل أن يدعو مزدك بن موبذان لعقيدته المزدكية؛ كان في الأصل كاهنًا زرادشتيًّا، لكنه خرج على الديانة الزرادشتية، ووجه إليها كثيرًا من النقد، كما هاجم سلطة الكهنة الزرادشتيين، ومع ذلك يرى كثيرٌ من المؤرخين أن المزدكية في رؤيتها وعقيدتها كانت متأثرة -إلى حدٍ بعيد- بعقائد الزرادشتية، كذلك المانوية. ذلك يُفسِّر ويؤصِّل كون ديانات الفُرس القومية ذات أصلٍ ومنشأٍ واحد، وإن تصارعت واختلفت.

وتمسّكت المزدكية بالتراث الزرادشتي فيما يتعلق بالرؤية الثنائية للوجود، النور والظلام، وكان يرى مزدك في النور عالمًا حسَّاسًا، وأن عالم الظلام جاهل أعمى، وأما إلى نظرته إلى الكون، فقد رأى أن الكون يشتمل على ثلاثة عناصر: الماء والأرض والنار، فلما اختلطت هذه العناصر بعضها ببعض حدث مدبر الخير، وما كدر الحياة فهو من مدبر الشر حسبما افترضه مزدك.

ويتحدث مزدك عن معبوده ويصوره على صورة الجالس على كرسيه في السماء، ولكي يقرب هذه الصورة إلى أذهان العامة من أتباعه، شبه معبوده الجالس على عرشه في السماء العالم العلوي، بخسرو الجالس على العرش في العالم السفلي. وحرَّم أكل اللحوم على أتباعه، وعلَّلَ ذلك بكون اللحم في حد ذاته يشتمل على عناصر من الظلام نفسه، ولما كان الظلام مكروهًا في المزدكية، ويعبر عن الشر، حَرُمَ أكل اللحوم.

ويعتقد البعض أن سبب تحريم أكل اللحم عند المزدكية يعود إلى كراهية فكرة الذبح والقتل في ذاتها، وإن كان بعضهم يرى في ذلك وسيلة من مزدك لزيادة أتباعه من الفقراء الذين لا يأكلون اللحم.

ودخل مزدك في خلاف حاد مع كهنة الزرادشتية، رافضًا نفوذهم الكهنوتي وسيطرتهم على العامة وعلى مقدرات الأمور في البلاد، كما اختلف مع المانوية رافضًا نظرتهم التشاؤمية للحياة، إذ رأى أنه يمكن أن ينتصر النور من خلال حشد الأتباع وتغيير مقدرات الحياة من خلال الثورة الاجتماعية.

ركز بعض المؤرخين على نظرة مزدك إلى الاشتراكيَّة بصفة عامة؛ إذ اتجه مزدك إلى الميل إلى فكرة المِلْكِيَّةِ المُشَاعَة، فرفض فكرة المِلْكِيَّةِ الخاصة إلى حد بعيد، ورأى أن سيطرة النبلاء على مقدرات الأرض والحياة أمرٌ مرفوض من وجهة نظره، لأن الإله الذي تصوره قد وزع هذه المقدرات على الجميع، أقوياء وضعفاء، نبلاء وعامة.

وقد شجّعت أفكاره كثيرٌ من العامة، والفقراء خاصة إلى الإيمان بالمزدكية، التي انتشرت انتشارًا سريعًا، لا سيما بعد اعتناق الملك قباذ الأول نفسه المزدكية، مُحاوِلاً تقليص نفوذ كهنة زرادشت، وعلاج تداعيات القحط الشديد الذي عصف ببلاد فارس وكان ينذر بثورة اجتماعية.

وبناءً على اعتقاد مزدك في فكرة المشاعية والاشتراكية، سمح لأتباعه بنهب صوامع الغلال الحكومية، وتوزيعها على العامة، وأدى ذلك إلى ازدياد عداء النبلاء والكهنة له؛ لأن ذلك اعتداءً سافرًا على الملكية العامة، وأيضًا خوفًا على ممتلكاتهم التي تطلع إليها العامة بناءً على العقائد والأفكار المزدكية.

كانت المزدكية دينًا للفقراء والمُعدمين، غازلتهم بمُشاعيتها واشتراكيتها انتصارًا على النبلاء.

لم تقتصر عقائد المزدكية على فكرة المشاعية في الثروة فقط، وإنما امتدت إلى فكرة أخرى حساسة اجتماعيًا، وهي فكرة مشاعية النساء، وبداية رفض مزدك فكرة تعدد زوجات الأغنياء، وعجز الفقراء عن الزواج، ويشير البعض إلى ترويج مزدك وأتباعه فِكرةَ الشيوع في النساء، ويتحدث بعضهم عن حفلات الجنس الجماعي التي نظمها أتباع مزدك، وأنها دفعت مزيدًا من العامة إلى الدخول في المزدكية لتعويض حرمانهم في هذا الجانب.

ورغم أن المؤرخين والمفكرين المسلمين بينوا فساد المعتقدات الفارسية كافة، إلا أنهم ركزوا في انتقادهم على الجانب غير الأخلاقي في العقائد والطقوس المزدكية؛ ومنهم الشهرستاني الذي أكد في كتابه الملل والنحل أن مزدك: “أحل النساء وأباح الأموال وجعل الناس شركاء فيه كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ”.

وانتشرت المزدكية انتشارًا واسعًا نتيجة أفكارها ومعتقداتها المشاعية الفوضوية، خاصةً في أوقات القحط وبين صفوف العامة حتى وصف بعضهم العَالَمَ الفارسيَّ بأنه انقسم إلى قسمين: عالَم مزدك وديانته، وعالَم الديانات الأخرى، بل دخلت المزدكية إلى أرمينيا المسيحية.

أدرك الملك الفارسي كسرى أنوشروان خطر المزدكية ومعتقداتها على مجريات الأمور في بلاده، فدعا مزدك وأتباعه إلى مأدبة في القصر الملكي، وجعل لهم هناك مذبحة كبرى، لمزدك وأتباعه الأقربين، وتلى ذلك صدور مرسوم من الملك بتجريم المزدكية، وعدم إقامة طقوسها على أراضي فارس، وتتبع مريديها في طول البلاد وعرضها.

  1. حسن بيرنيا، تاريخ إيران القديم من البداية حتى نهاية العصر الساساني، ترجمة: محمد نور عبد المنعم، والسباعي محمد السباعي (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2013).

 

  1. فراس السواح، موسوعة تاريخ الأديان، ترجمة: عبد الرزاق العلي ( بكين: التكوين، 2016).

 

  1. عبداللطيف السلطاني، المزدكية أصل الاشتراكية (الجزائر: د.ن،1974).

 

  1. محمد الشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق: محمد سيد كيلاني (بيروت: دار المعرفة، 1982).

 

  1. هوما كاتوزيان، الفرس: إيران في العصور القديمة والحديثة، ترجمة: أحمد حسن المعيني (بيروت: دار جداول، 2014).