
اليهود في فلسطين
استيطان شرع أبوابه العثمانيون
لم يكن الوجود اليهودي في فلسطين نتيجة لحلم تاريخي يهودي فقط، بل كان نتيجة حتمية بعدما شرّع السلاطين العثمانيون الأبواب واسعة أمام الهجرات اليهودية إلى الأراضي العربية المحتلة من السلطنة، ومنها فلسطين، ليصبح الوجود اليهودي رسميًا، وكل ما صدر عنه من تصرفات قانونية بسبب تواطؤ العثمانيين مع الجالية اليهودية في السلطنة وإصدارهم القوانين وتوفير الحماية لصالحهم.
تسهيلات العثمانيين سبقت التسهيلات البريطانية.

يقول “إيرما لفوفنا فادييفا”، مؤلف كتاب اليهود في الإمبراطورية العثمانية.. صفحات من التاريخ: “هناك عبارة تُنسب للسلطان بايزيد الثاني، نُقلت عن أحد الأوروبيين، تقول: هل تعتبرون فرديناند ملكًا حكيمًا لأنه بذل جهودًا ضخمة لكي يُفلس بلده ويُثري بلدنا؟”. يقصد هنا السلطان بايزيد أن فرديناند، الذي هجّر المسلمين واليهود، دون قصد منه، نقل ثروات اليهود إلى إسطنبول، لينهار اقتصاد بلاده ويزدهر الاقتصاد العثماني.
لقد كان بايزيد، في هذا الموقف كما الكثير من السلاطين العثمانيين، مصلحيًا؛ لا عواطف عنده تجاه الأندلسيين الفقراء، بل محتفيًا مزهوًا بقراره وقرار أسلافه باستضافة اليهود الأندلسيين والأوروبيين، وتمكينهم من التجارة وتجنيسهم، الأمر الذي ساعد اقتصاد بلاده على الازدهار.
وهنا نفهم أيضًا كيف أن العثمانيين استخدموا اليهود والأرمن وبقية الشعوب، بما فيها العرب، ليكونوا عاملين ومستخدمين لمصالحهم، لكنهم كانوا أكثر لينًا مع اليهود، وهذا ما يؤكده تعاملهم المعاكس مع الهاربين العرب من الأندلس، الذين لم يجدوا أي اهتمام، بينما احتُفي باليهود، ووُضعت لهم القوانين الخاصة التي ضمنت لهم الإقامة والعيش كمواطنين من الدرجة الأولى، هذا فضلًا عن تجنيسهم بالتابعية العثمانية، ليصبح لهم كامل الحقوق والحماية التي مكنتهم من التجارة وتحقيق الأموال الطائلة.
وهو ما سنرى نتائجه لاحقًا في فلسطين، حين أصبح ابن الناصرة وحيفا ويافا العثماني، بفضل العثمانيين، متساويًا في الحقوق مع اليهودي العثماني القادم من غرناطة والبرتغال وصقلية، يشتري البيوت والمزارع، ويعيش مثله مثل غيره من أبناء تلك الحواضر والمدن الفلسطينية.
دور بايزيد الواضح في توطين اليهود في السلطنة ومنها فلسطين:
استقبل السلطان العثماني بايزيد الثاني عشرات الآلاف من يهود السفارديم الذين فرّوا من مذابح المتطرفين الإسبان عام 1492، واستقروا في العديد من الولايات العثمانية، وفي مقدمتها سلانيك، وإسطنبول، وإزمير، وفي عام 1660 لجأت إلى الدولة العثمانية مجموعات جديدة من اليهود الذين نجوا من المذابح في بولندا وأوكرانيا.
لقد فهم اليهود أن الدولة العثمانية هي أكثر الأماكن التي يعيش فيها اليهود بحرية طوال تاريخهم، فحتى في القرن التاسع عشر، لم يكن اليهود يتمتعون بالحرية الدينية، ولا حتى بالحق في الحياة في معظم الدول الأوروبية، ولا تزال كتب التاريخ تحتفظ بالأمر الذي أصدره السلطان بايزيد الثاني إلى أمراء الولايات العثمانية، يأمرهم فيه بمساعدة اليهود الفارين من محاكم التفتيش الإسبانية، لكن ذلك لم ينطبق على العرب المسلمين الفارين من نفس الاضطهاد.
كيف نما الوجود اليهودي في فلسطين بسبب الاحتلال العثماني؟:
في الأعوام 1502 – 1520، اكتمل الاحتلال العثماني لكثير من الأراضي العربية، ومنها مدن فلسطين الحالية، وفي الوثائق العثمانية سنجد أنها قدّرت عدد اليهود في “الجليل” بحوالي 10 آلاف يهودي، بينما السكان المحليون من مسيحيين ومسلمين بحوالي 300 ألف نسمة، وسنجد أن هذا التواجد سيزيد في المدن والبلدات الفلسطينية بفضل العثمانيين الذين استضافوا يهود أوروبا وجنّسوهم، وأصبح لهم الحق بالعيش في أي بقعة يسيطر عليها العثمانيون، ومنها فلسطين.
وبالرغم من أن الوثائق العثمانية تشير إلى وجود يهودي في مدن حلب ودمشق وبيروت وصيدا وطرابلس وغيرها من مدن الشام، إلا أن القوانين المتسامحة دفعت الأكثرية للتوجه إلى فلسطين “اليوم”.
وفي بحث “للمركز الفلسطيني للإعلام” متحدثًا عن الفترة الأخيرة من الاستيطان اليهودي تحت أنظار وحماية العثمانيين الذين كانوا حينها يحتلون فلسطين: “في صمت بعيد عن الضجيج العالي، عند نهاية القرن التاسع عشر، تزايد الزحف اليهودي نحو القدس حتى بلغ عددهم 30 ألفًا في عام 1896، وارتفع إلى 90 ألفًا في عام 1912”.
لم يكن ذلك إلا نتيجة حتمية للدعم والتواطؤ العثماني مع الجاليات اليهودية، وغضّ النظر عن هدفها النهائي، وهو الاستيطان بكثافة داخل فلسطين، وبغض النظر عن كونهم عثمانيين بالجنسية، إلا أن ذلك كان يفرض على العثمانيين، الذين احتلوا بلادًا غير بلادهم، أن يعطوا السكان الأصليين حماية أكبر.
تقول الدكتورة فدوى نصيرات في كتابها دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة اليهودية على فلسطي (1876-1909)
“خلال حكم الدولة العثمانية للبلاد العربية، كان اليهود من رعايا السلطان ينتقلون بحرية من فلسطين وإليها، وأقاموا في الأماكن المقدسة في القدس وصفد وطبريا والخليل. ومع نظام الحماية الذي طبّقته الدولة العثمانية على الأقليات الدينية، عبر منحهم المساواة التامة مع المسلمين، أصبح هؤلاء الرعايا يلجؤون إلى القناصل الأجنبية في القدس ليكونوا تحت حماية دولهم، وليصبحوا مواطنين أجانب يتمتعون بالامتيازات الأجنبية الممنوحة لهم”.
وتؤكّد الدكتورة نصيرات أنه: “مع صدور فرمان تملّك الأجانب لعام 1869، تزايد قدوم اليهود الأجانب إلى فلسطين، ولم تُدقق الدولة العثمانية في أسباب دخولهم، الأمر الذي مكّنهم من شراء الأراضي والبدء في إنشاء المستعمرات، وأُعطيت لهم الحقوق الكاملة في التملك والعمل على كل الأراضي العثمانية ما عدا الحجاز”.
كل ذلك أثّر تأثيرًا عميقًا على الأرض، فما بدأه السلطان العثماني بايزيد الثاني، اكتمل في عهد السلطان عبد الحميد، وهم من يحمل وزره، فهم من احتل الأرض، ومكّن المهاجرين اليهود من الاستيطان دون حماية السكان الأصليين من تغيير الوقائع على الأرض. كل ذلك حصل حتى قبل الانتداب البريطاني على فلسطين، وتشرح ذلك بتوسع الباحثة “خديجة جبر حسونة”، في بحث منشور لها من جامعة “بير زيت”، بعنوان: العلاقات بين العرب الفلسطينيين واليهود من بداية الاستيطان حتى 1948: “إن الهجرات اليهودية لم تقتصر على فترات محددة، فمنذ 1881م، واليهود يهاجرون إلى فلسطين دون انقطاع، لكن هذه الموجات الخمس هي الأكبر، وكانت أعداد هؤلاء المهاجرين الجدد تتزايد باستمرار، مع الأخذ بعين الاعتبار أن القادمين الجدد يحملون مبادئ ومعتقدات تختلف عن مبادئ سابقيهم، فمن جاء إلى فلسطين في الثلاثينيات على وجه الخصوص كانوا أكثر عنصرية وتشددًا لعرقهم، مما سبب توترًا في العلاقات، وكانوا يرفضون التعايش مع العرب كما تعايش من سبقهم. فقد أتى معظمهم من أوروبا الشرقية، يحملون معهم الأفكار المتعلقة باحتلال العمل والأرض، ومع قدوم هؤلاء خُلقت وقائع جديدة على الأرض”.


- فدوى نصيرات، دور السلطان عبد الحميد الثاني العثماني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين (1876- 1909) (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2014).
- إيرما لفوفنا، اليهود في الإمبراطورية العثمانية: صفحات من التاريخ، ترجمة: أنور إبراهيم (القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2020).
- خديجة حسونة، “العلاقات بين العرب الفلسطينيين واليهود من بداية الاستيطان حتى 1948″، مجلة بير زيت (2004).