مبررات انهيار الإمبراطورية العثمانية
ترجع أسباب سقوط الدولة إلى تطورات سياسية وأحداث متداخلة جعلت من حدود كانت تشمل حسبما صوره مؤرخو الإمبراطورية من الجزائر حتى خليج البصرة. ومن سواحل حضرموت إلى سواحل البحر الأسود. ومن بلاد القفقاس (القوقاز) إلى ساحل بحر الأدرياتيكي. والصحراء الكبرى في إفريقيا وبلاد السودان. كانت كل تلك الجهات تعج وتضج فيها الاضطرابات وتعمل على استقلالها والإمبراطورية تحاول الاستبقاء عليهم بالقوة العسكرية وبالدسائس. فمن سيدير أمورها وينهض بها وينقذها من وحل صنعته لها القوى العسكرية وغرقت معظم تلك الجموع البشرية في براثن الجهل وتردي الأحوال أقلها انعدام الأمن والأمان. ولا سياسة سوى القمع؟!
يبرر بعض المؤرخين بأن تلك الأحوال نتيجة تولي سلطان ضعيف كالسلطان عبد العزيز، وأن الدولة انعدمت منها طبقة الإداريين القديرين لإدارتها. وأين من كانوا يديرونها وينظمون شؤونها؟!
ويبرر لانحطاط إدارة الدولة بقلة الرجال المخلصين، وأن تعدد الشعوب والأعراق لا يوجد رابط يوحدها ويلزم الجميع أن يعيشوا معًا. والرد: أين رابط الدين وإن الدولة إسلامية تديرها من هذا المنطلق؟!
وتعود المبررات إلى أن روسيا شجعت حركات العصيان المسلح في جزيرة كريت، وأن ذلك يتطلب تأسيس قوات مسلحة وأموالًا طائلة. وللحصول على ذلك لا بد من اللجوء إلى المصارف الأوروبية، وإلى شيء غريب أراه في كتاب “قانون أساسي”، ألا وهو الاستعانة بـ”السماسرة النصارى” في إسطنبول. وأين جيوشهم التي تم تسليطها على تكوين تلك الإمبراطورية؟! وأين الأموال التي كانت تجمع ويخصَّص لها موظفون برتبة باشوات لجمعها بالقوة الجبرية؟! والبلدان العربية تاريخها مليء من تلك القصص، أرَّخ لها من عاصرها، كالجبرتي والبكري وغيرهما.
ويحيل مؤرخون آخرون إلى تصرفات السلطان عبد العزيز غير المسؤولة، وهي أنه غض الطرف عن تصرفات بعض أصحاب رؤوس الأموال من الفرنسيين في تونس، والذين قدموا قروضًا لباي تونس وعاثوا فسادا فيها، مما أدى إلى احتلالها فيما بعدُ. وهل ذلك مبرر وتونس تعتبر جزءًا ضئيلًا من جغرافية الإمبراطورية؟! وليس مبررًا أن الاحتلال جاء نتيجة غض الطرف!
وتبرير آخر لأخطاء الدولة تجاه شعوبها، هو انتشار الماسونية وأنها تغلغلت في أعماق القوميات، وزرعت بذور الانفصال والصراع بين أعراقها. وعن أنشطتها التنظيمية أنها بدأت في عهد محمود الثاني، وأن المحافل تأسست واندست في صفوف العثمانيين وفي مؤسسات الدولة بولاياتها المتعددة، أسسها اليهود في أواخر عهد سليم الثالث. وأن الانتشار بين الأتراك اتضح في عهد السلطان عبد الحميد، وكان أولهم وأعلاهم الصدر الأعظم مصطفى رشيد باشا الكبير، ومن بعده باشوات لهم مكانتهم في الإمبراطورية. فأين سلطة وقوة السلطان عبد الحميد لحماية أركان البلاد؟!
ومن التبريرات في عهد عبد الحميد بعد هزيمته أمام روسيا وأن يحل مجلس المبعوثان، بعد ما أعلن القانون الأساسي وافتتاحه لتنظيم الانتخابات، أجبر على حل المجلس، وبضغط من الباشا الذي عينه بمجرد اعتلائه، وهو مدحت باشا، وأنه كان له أنصار. وكان المبرر أن السلطان عبد الحميد كان شابًّا يعيش في مزرعته وقصره، ولم يكن يعرف الأمة ولا الدولة، وجاء جلوسه قضاءً وقدرًا بعد جنون السلطان مراد! وأين السلطان من التربية التي دأب عليها آل عثمان لأولادهم منذ نعومة أظافرهم؟!
لقد كان عبد الحميد لا يثق في أحد، ورغم المدة الزمنية التي حكم فيها إمبراطوريتهم، أين السلطان السياسي الدبلوماسي، والرجل الحاذق في إدارة الدولة؟ ولا بد من تقييم الحوادث وربطها للاستدلال من خلالها على مجريات الأحداث وأن ينجلي غبار التزييف عن الحقائق لتعود كتابة التاريخ إلى موطنها بين المصادر لتبقى للتاريخ.
وأين الحكمة في المهارات الإدارية للسلاطين بعيدًا عن التبرير؟!