خورشيد باشا..

الشغوف بسفك دماء السعوديين

كانت نجدٌ في نهايات القرن السابع عشر، ومع سقوط الدولة السعودية الأولى 1818م كانت غارقة في الرمال والعُزلة الثقافية التي فرضها عليها المحتل العثماني من جديد، وكأن نجدًا تعود إلى سيرتها الأولى تبحث عن مخرج من تلك العزلة المضُنية التي فرضتها عليها طبيعة الصحراء وغيرة المحتل العثماني، مع كونها واحة  في وسط الجزيرة بعيدة عن السواحل ومطامع دول التخوم إلا أنها كانت حصينة جدًّا، قادرة على التصدي لأي عدوان، وأي محاولة لفرض أي هيمنة عليها من قبل الغرباء،كانت طبيعتها بكونها واحة كبرى تحيط بها بحار من الرمال كافية لإبعاد الطامعين والمستعمرين.

لكن قدر نجد والدرعية تحديدًا، أن تنطلق من حواضنها الفكرية ومن بين أسوار مساجدها الطينية الدعوة الإصلاحية على يدي الإمام محمد بن سعود، مما دفع الأعداء إلى حربها والتحالف ضدها من جديد.

وتكون الحلف من قوى محلية ملأت صدورها بالأحقاد، وقوى إقليمية وجدت في نجد والدولة السعودية -التي حملتها- خطرًا جسيمًا ومنافسًا حقيقيًّا على مشروعها الاستعماري للعالم العربي والإسلامي.

لقد كان الصدام حتميًّا بالفعل، بين أئمة الدولة السعودية من جهة وسلاطين العثمانيين من جهة أخرى، الذين توهّموا أن إسطنبول هي المؤتمنة على الإسلام، وبذلك رفضوا ولادة دعوة إسلامية إصلاحية من وسط الجزيرة العربية تقود نهضة كانت منتظرة منذ قرونٍ طويلة.

لقد بدأت الحملات العسكرية المنُظَّمة الممنهجة ضد الدولة السعودية في وقت مبكر من ولادة الدولة الأولى، بل في أثناء سقوط الدرعية حرص العثمانيون عبر ولاتهم ومحمياتهم العسكرية التي استوطنت بعض مدن نجد وبلداتها على مراقبتها وإبقاء حركتها الفكرية والسياسية تحت سيطرتهم.

وبدأت الحملة العثمانية على نجد على نحوٍ عسكري صارم، عندما نقض محمد علي باشا -والي العثمانيين على مصر والمفوض بحرب الدولة السعودية- “الصلح” الذي أبرمه ابنه أحمد طوسون باشا (قائد الحملة العثمانية) مع قادة الدولة السعودية الأولى، وكما هو معلوم انتهت حملات محمد علي باشا وأبنائه بتدمير الدرعية وسقوط الدولة الأولى.

لكن الهمّة السعودية التي لا تقبل أن تبقى أسيرة السقوط والأسر والاحتلال، أبت إلا أن تنهض وتعود من جديد بنفس المنهج النقي، وبنفس الأهداف السعودية النبيلة الحريصة على إعادة الوحدة، وبناء الدولة ونشر  الأمن والأمان لأبناء الجزيرة العربية.

ولأنها عادت و بدأت تستعيد الكيان من جديد على أيدي الإمام تركي، وابنه الإمام فيصل، وكما فعلها السلاطين العثمانيون مع الدولة الأولى، أرسلوا مع بوادر نهوض الدولة الثانية قائدًا عسكريًّا آخر غير طوسون وإبراهيم باشا أبناء محمد علي باشا، كان هذه المرة العسكري خورشيد باشا– ابن اخت محمد علي-.

ويبدو -بوضوح- أن إرسال أبناء وأقارب محمد علي باشا، لقيادة الحملات ضد السعوديين، جاء نتيجة حرص والي العثمانيين في مصر على تدمير الدولة السعودية استجابة للأوامر الصارمة الصادرة من إسطنبول.

لم يختلف خورشيد باشا عن بقية قادة الجيوش العثمانية، فعقيدة المقاتلين العثمانيين تعتمد على ترويع السكان المحليين، وقتلهم واستباحة دمائهم وأعراضهم، وتدمير بيوتهم وأسواقهم ونهب أموالهم، إنها سياسة حرق الأراضي وتجريف القوى المحلية وإرهابها؛ حتى لا تشكل خطرًا مستقبليًّا على الحاميات التركية، أو تفكر في الولاء لآل سعود ومساندتهم في محاولاتهم لإعادة بناء دولتهم من جديد.

تكررت جرائم خورشيد باشا في مدينة عنيزة إثر حصار أهلها في مدن وبلدات نجدية أخرى، وورد ذلك في وثيقة عثمانية أصيلة تحوي تقرير خورشيد باشا نفسه، وطبقا لما رواه، فإن هذه الحرب شهدت معارك ضارية وتطبيقًا حرفيًّا للسياسات العثمانية ضد الأهالي المقاومين لهم.

وكما في عنيزة واجه خورشيد باشا في البلدات النجدية مقاومة عنيفة، خاصة في الدلم التي التفت حول الإمام فيصل، ولذلك عاد خورشيد لنفس سياساته التي مارسها في بلدات نجد الأخرى، مقترفًا جرائم بشعة ضد الإنسانية، شملت القتل على الهوية العربية النجدية، والحرق والإعدام المنظم ضد الأهالي العُزَّل، وبذلك دفع الإمام فيصل بن تركي للاستسلام عام 1838م، لكف شر خورشيد باشا وشغفه بالقتل والتدمير على أن يحفظ دماء وأمن وسلام من تبَقَّوا من الأهالي.