حملة خورشيد باشا على إقليم الأحساء ونهاية الحلم الذي لم يتحقق
إن من يتمعّن في قراءة الوثائق التاريخية، التي تناولت الغزو التركي للجزيرة العربية بحملات محمد علي باشا، لإسقاط الدولة السعودية الأولى سيجد فيها دلالات وإشارات مباشرة أو ضمنية تحمل في طيّاتها أهدافًا مُعلنة كاسترجاع الحرمين الشريفين، وإسقاط الدولة السعودية، بينما كانت هناك أهدافٌ أخرى غير معلنة، أضمرها محمد علي باشا في نفسه.
ويمكن معرفة تلك الأهداف من خلال مراسلاته مع ابنه إبراهيم، إذ يقول له الأخير: “وصلت مكاتيبكم السامية.. وقد اطّلعت على جميع مضامينها.. وضع القصيم والأقاليم الأخرى الكائنة فوقنا تحت نظارتنا، وإدخال الأحساء تحت طاعة السلطان.. فإنه بعد فتح الدرعية.. يكون ضبط الأحساء وميناء القطيف وانتزاعهما”.
ومثل هذا النص التاريخي أظهر أن أطماع محمد علي تعدّت منطقة نجد إلى غيرها من مناطق الجزيرة العربية المحُيطة بها، فالأحساء والقطيف كانتا ضمن استراتيجيته التوسعية في منطقة الخليج لولا تَدَخَّل ومَنَعَه من ذلك السلطان العثماني في المرة الأولى، والحيلولة دون تحقيق ذلك الطموح وإخراجه من المنطقة على وجه السرعة.
وظلّت تلك الاستراتيجية قابعة في ذهنية محمد علي باشا، واستمر يخطط لها في انتظار الفرصة المناسبة لتحقيقها في أي مرحلة من مراحل الصراع مع السعوديين، فالمسألة كانت لديه مسألة وقت، ولديه خططه المستقبلية في الوصول لتحقيق هدفه المتجسّد في سواحل الخليج العربي.
وفي هذه المرة لم يقتصر هدفه على إخضاع الإمام فيصل بن تركي، وإنهاء حكمه فقط، بل كان هدفه الحقيقي رسمَ خريطة سياسية توسعية يحلم بتكوينها، شملت شبه الجزيرة العربية والخليج العربي والعراق، وما تحركت قواته جهة الأحساء والقطيف إلا تنفيذًا لأهداف ذلك المخطط المهيأ سلفا.
لذا سعى خورشيد باشا قائد الحملة العسكرية الغازية إلى تنفيذ تلك المهمة بكل حزم وبشتى الطرق الممكنة، ونتج عن ذلك؛ احتلال إقليم الأحساء بمفهومه الواسع الممتد على الساحل الغربي من الخليج العربي، فموقعه الاستراتيجي وموانئه المتعددة، جعلته ذا قيمةٍ مهمة لإمداد جيشه المحتل لنجد بالمواد الغذائية والذخائر والأسلحة واللوازم الأخرى من جهة، ومن جهة أخرى إمكانية الوصول إلى البلدان العربية المُطلة على الخليج لتحقيق حلم وطموح سيّده محمد علي في التوسع في المنطقة العربية إنطلاقا من إقليم الأحساء.
ويمكننا القول؛ أن ذلك الاحتلال قد حقق مكاسب اقتصادية واستراتيجية لمحمد علي باشا، ولعل منها أنه أتاح له سهولة الوصول إلى البحرين، وقطر، وعمان بسواحلها، والكويت، ومن ثم مدّ نفوذه فيها، فذلك جعله على تماس مع النفوذ البريطاني في الخليج العربي.
ويسّر له احتلال الأحساء فرص الغزو نحو الشمال حيث العراق العثماني، إضافة إلى الاتصال ببلاد فارس، وهو ما جعل محمد علي باشا يفرض السيطرة مؤقتا على الملاحة في الخليج العربي وطرقها البحرية، وفي ذات الوقت كانت له السيطرة على مياه البحر الأحمر إلى مضيق باب المندب وعدن، وهو بذا حقق تقدمًا استراتيجيًّا عندما تحكّم بأهم المعابر البحرية المحيطة بالجزيرة العربية. ومع كل ذلك كانت سيطرته على بلاد الشام والبحر الأبيض المتوسط، منطلقا نحو الأناضول وما تبعه من تسيير جيوشه نحو العاصمة العثمانية، وأدت تلك الأمور مجتمعة إلى جعل نفوذ محمد علي باشا السياسي كبيرًا على المستوى الإقليمي والدولي، مما وضع الدولة العثمانية في حرج كبير مِمَّن كان محسوبا عليها واليًا لأكبر ولاياتها العربية آنذاك، فتحرك الباب العالي سريعا ضده في شتى الاتجاهات ومعاداته بصورة رسمية، وبتأليب الدول الأوروبية عليه.
وأتبعت ذلك بطلب المساعدة من تلك الدول في محاولة منها لكبح جماح محمد علي باشا وتحطيم حلمه الكبير في تأسيس إمبراطوريته الخاصة، وقد تحقق لها ذلك بالفعل، عندما تمكّنت دول التحالف الأوربية من هزيمة أسطوله البحري هزيمة منكرة بالقرب من اليونان عام 1256ه/ 1840م، وإجباره على توقيع معاهدة استسلام وانسحاب من جميع المناطق التي احتلها في تركيا وبلاد الشام والجزيرة العربية، وأجبرته على تقليص قواته العسكرية، والانزواء في الإقليم المصري، لتذهب بذلك أحلام محمد علي أدراج الرياح.