الملك عبد العزيز و العثمانيون في الأحساء

شكّل إقليم الأحساء أهمية جيوسياسية وطبيعية واقتصادية وحضارية؛ وذلك نظرًا لموانئه العديدة المطلة على الخليج العربي، كميناء العقير والقطيف اللذين يعدّان من أهم المنافذ البحرية للتواصل مع العالم الخارجي، بآفاقه الواسعة بقاراته وبلدانه المختلفة، وكان هذا الإقليم، محط اهتمام الملك عبد العزيز وحرصه، منذ البدايات الأولى للحركة التوحيدية المباركة، بل كان عازمًا على توحيد الأحساء والقطيف مع ما وحَّده من بلدان نجد؛ وذلك لأنهما جزء لا يتجزأ من الدولتين السعودية الأولى والثانية.

وسعى جاهدًا في مسيرته الميمونة نحو الأحساء، فجاءت الظروف المواتية لتحقيق الهدف، فالأحساء التي كانت تخضع للسلطات العثمانية آنذاك، أصبحت ملجأً لخصوم الملك عبد العزيز من البادية، الذين كانوا يلجَؤُون إلى بلدان الإقليم عند مهاجمته لهم هذا من جانب، ومن جانب آخر تكاثرت عليه الرسائل والخطابات من أبناء الأحساء يستنجدون به طالبين منه الخلاص من الحالة المزرية التي آلت إليها بلدهم، ومن سوء وضعف الإدارة التركية، وتسلط موظفيها على أرزاق الناس وظلمهم من دون وجه حق، إضافة إلى حالة الانفلات الأمني من قطع الطرق والسبل حتى أصبح الأهالي في بلدانهم لا يأمنون على أنفسهم وبيوتهم، وأمام تلك الظروف مجتمعة، أخذت الغيرةُ الإسلاميةُ المؤسسَ، فهب لنجدة الأهالي من الظلم والعدوان الواقع عليهم من تلك الإدارة الظالمة.

وبدأ الملك عبد العزيز بوضع خطته العسكرية لتوحيد الأحساء، وتخليصها من حكم الأتراك، فمال إلى التخطيط الدقيق قبل انطلاقته، وعمل بسرية وتمويه حتى لا يعلم الخصوم أهدافه الحقيقية، فتحرك في 1913م، ومعه جنوده من أهل العارض وبعض قبائل البادية، ونزل بهم في  روضة الخفس شمال الرياض، وأقام فيها شهرًا ينتظر  ورود الأخبار من الأحساء، فجاءه يوسف بن سويلم أحد رجالاته المخلصين المقيمين في الهفوف، ليخبره بالأوضاع المتردية في الأحساء بصفة عامة، وليستشيره الملك عن أيسر الطرق التي يمكن سلوكها لتنفيذ عملية اقتحام الأحساء بصورة مفاجِئة؟

 وبعدما تبينت له أوضاعها، وضع الملك خطة عسكرية مُحكمة، وحدّد فيها ساعة الصفر  للهجوم على الهفوف مقر إدارة المتصرفية التركية، ومن ثم أرسل الملك معه عدة رسائل إلى بعض أصدقائه من الأعيان، يخبرهم بقرب هجومه على الأحساء، ويطلب منهم طمأنة الأهالي خلال الهجوم المتوقع، وهنا تبرز إنسانية الملك عبد العزيز وإشفاقه على الأهالي وحرصه عليهم، قبل كل شئ وهو ما حداه بالفعل لإنقاذهم مما كانوا فيه من ظلمٍ وتعدٍ على الحقوق والأنفس.

وجاء تحرك الملك عبد العزيز من روضة الخفس ومعه جيشه المكون من حوالي ستمائة من مقاتلي الحاضرة والبادية نحو تحقيق هدفه استرجاع الأحساء وتوحيدها، فهي جزء من ملك الدولتين السعوديتين الأولى والثانية، فوصلها وأقام مدة شهر بالقرب من عين نجم الشهيرة ينتظر الوقت المناسب للبدء بالهجوم المباشر والفعلي على أسوار الهفوف، مما جعل متصرف الأحساء التركي يشعر بالريبة من وجوده هناك، فبعث إليه يستفسر عن سبب تواجده غرب الأحساء؟ فأجابه الملك عبد العزيز بكل دهاء وحنكة بأنه ينوي غزو بعض القبائل المعادية له وهو بحاجة إلى التزود بالمؤن والاحتياجات لجيشه من أسواق الأحساء.

وإمعانًا في التمويه أرسل الملك عبد العزيز بعض اتباعه في قافلة تجارية إلى الهفوف، وتظاهرت بشراء التمور والأرز وبعض السلع الأخرى كهدفهم المعلن، بينما كان هدفهم في الحقيقة معرفة التحصينات والوضع العسكري داخل الهفوف، وبعد استكمال التجهيزات اللازمة التي أعدّها إبراهيم القصيبي عند الأسوار ليلًا بهدف تسلقه، حانت الساعة المنتظرة، وقام الملك عبد العزيز خطيبا في جيشه قائلا: “إننا هاجمون على الترك في الكوت ومنتصرون عليهم إن شاء الله، فامشوا لهذا الغرض ولا تضُجُّوا، وإذا كلمكم أحد ونحن في الطريق فلا تجيبوه حتى لو أطلق عليكم نيران البنادق فلا تجيبوا بالمثل، أما إذا دخلتم الكوت واستوليتم على الهفوف فحاربوا من يحاربكم وسالموا من يسالمكم”.

 ولعل فيما قاله الملك عبد العزيز أمام جيشه، تبرز لنا شخصية القائد العسكري الجسور الملهم، الذي يعرف متى يبث الروح المعنوية الإيجابية في الجنود وقبل دخول ميدان المعركة، ثم قام بتقسيم جيشه إلى قسمين؛ الأول: بقيادته للهجوم المباشر على الأسوار  والدخول إلى الهفوف، والآخر: بقيادة الأمير عبد الله بن جلوي آل سعود ومعه ثلاثمائة مقاتل من أبناء البادية انطلق بهم نحو الرقيقة غرب الهفوف لحماية ظهر المهاجمين من غزوات البادية.

وانطلق الملك عبد العزيز، ومعه حوالي ثلاثمائة من رجاله مخترقًا بهم مزارع السيفة الواقعة غرب حي الكوت، حتى وصلوا أسواره الغربية الشمالية ليلًا، ومن هناك قسمهم إلى ثلاث فرق؛ الفرقة الأولى تقوم بمهمة مهاجمة البوابة الجنوبية للمدينة للسيطرة عليها، والفرقة الثانية؛ تسير نحو الثكنات العسكرية التركية لتشتبك معها وتقضي عليها، وأما الفرقة الثالثة؛ فكان دورها أن تسير إلى جميع الأبراج العسكرية المحيطة بالمدينة وتسيطر عليها وتأمنها بالقوة، وبدأوا بعبور الخندق المحيط بالسور بعد وضع جذوع النخل عليه، فعبر أولئك الرجال الأشاوس إلى السور وتسلقوه بالسلالم المعدة سلفًا، فسارت كل فرقة لتنفيذ ما طلب منها مع الالتزام الشديد بالأوامر الصادرة من الملك عبد العزيز لهم.

فلما كان ذلك أحس الحراس الأتراك بشيء من الضوضاء، ولكنهم لم يجسروا على تخطي أماكنهم، فصاروا يسألون من أنتم ولم يجبهم أحد فأخذوا يرمون على غير  هدى ولم يجاوبهم أحد فانتبه العسكر، فقاوموا مقاومة ضعيفة لا تذكر، وعندما علموا أن مهاجمهم الملك عبد العزيز دب الرعب في قلوبهم، ومن ثم دخل الملك عبد العزيز  ومعه إخوانه محمد، وسعد، وعبد الله، وعبد العزيز بن مساعد بن جلوي وآخرون من فُتْحَة في السور الغربي لحي الكوت، وذهب مباشرة إلى بيت المفتي الشيخ عبداللطيف بن عبد الرحمن الملا، الذي استقبله بكل حفاوة واستضافه في بيته وبقي عنده، حتى تمكّن المقاتلون من السيطرة على بعض الحصون من الجهة الشمالية الغربية والجنوبية.

ثم أرسل الملك عبدالعزيز إلى أعيان الأحساء، يدعوهم للحضور فجاؤوا من الفتحة التي أُحدثت في السور لدخول الملك عبدالعزيز؛ لأن الأبواب الشرقية والشمالية لا زالت بأيدي الأتراك فاجتمعوا في بيت الشيخ المفتي وطلب منهم أن يبايعوه فبايعوه على السمع والطاعة، وأشار المفتي على الملك عبد العزيز أن يكتب إلى المتصرف التركي برغبته في الوصول إلى حل سلمي لتسليم المنطقة ويضمن له الخروج سالما هو وبقية الحامية التركية، وقد فوض الملك عبد العزيز الشيخ المفتي وابنه الشيخ أحمد ومحمد بن صالح بن شلهوب وعبد العزيز بن قرين، الذي كان يجيد اللغة التركية، للتفاوض وتسليم الأحساء سِلْمًا لإنقاذ البلاد من الحالة الأمنية المتردية والمزرية، فوافق المتصرف التركي على ذلك بشروط حقق له منها الشرط الأول وعدل فيها عن الشرط الثاني.

وقد سلمت الحامية التركية مفاتيح قصر إبراهيم، وكتبت وثيقة وقعت من الملك عبد العزيز، والمتصرف التركي أحمد نديم، وتم ترحيلهم إلى ميناء العقير ومنها إلى البحرين ثم إلى البصرة، وقد أقام الملك في الأحساء، حيث نظم شؤونها ورتّب إدارتها، ثم غادرها إلى الرياض وعيّن أميرًا عليها، الأمير عبد الله بن جلوي آل سعود، ولتبدأ بذلك مرحلة جديدة مجيدة من التاريخ السعودي الحديث، ولتنضم الأحساء إلى بقية المناطق الموحدة تحت ظل راية الملك المؤسس طيب الله ثراه وجزاه الله خير الجزاء عن هذا الوطن المبارك.