الملك عبد العزيز.. قائد معركة التحرير ضد المحتل العثماني

حرص العثمانيون على البقاء في وسط الجزيرة العربية، وأسسوا الحاميات التركية في البلدات النجدية، ودعموها بالرجال والسلاح لأسباب عديدة من أهمها:

أولًا: بقيت نجد مناوئة للاحتلال العثماني ولم ترضخ منذ العام 1818م، غداة سقوط الدرعية حتى خروج الملك عبد العزيز عام 1902م لاستعادة ملك آبائه، وكلما سنحت فرصة اجتمع الأهالي حول أئمتهم من آل سعود.

ثانيًا: حرص الأتراك على البقاء قريبًا من عاصمة السعوديين – الدرعية والرياض- كونها مراكز تجمع السعوديين، وولادة معارك التحرير ضدهم.

ثالثًا: بناء قواعد متقدمة للمحتل يدير منها عملياته ضد السعوديين ويتجسس عليهم ويستنزفهم.

رابعًا: عدم ثقة المحتل العثماني في أدواته المحلية التي لم تنحز للعثماني إلا طمعًا في مال أو سلطة، ولا تستطيع تحقيق ولاءات على الأرض بدون القوة القمعية التركية.

خامسًا: قاعدة تصدي ضد السعوديون خوفًا من تحريرهم، ليس نجد فقط بل تحرير المدينة المنورة القريبة جدًا من القصيم وثاني أهم المدن المقدسة بعد مكة المكرمة.

لقد حرص المحتل العثماني، على أن تبقى يده العسكرية في منطقة وسط بين الدرعية والرياض من جهة، والحجاز من جهة أخرى؛ خوفًا من عودة المدن المقدسة إلى حضنها السعودي، فالحرمان الشريفان هما من يحققان للمحتل العثماني شرعيته – المزوّرة- على العالم الإسلامي.

ولذلك كانت القصيم واحدة من الأقاليم المهمة، التي رسَخ فيها العثماني احتلاله وكثّف حامياته التركية وجعلها في تأهب دائم.

عندما ارتجّت الآستانة من جديد كان الملك عبد العزيز في عام 1904، قد بدأ للتو في معارك التحرير من الرياض إلى المدن والبلدات المحيطة بها، لاستعادة مُلك آبائه وأجداده من آل سعود الكرام، وأخذت الأخبار تنتشر سريعًا في نجد والأقاليم المجاورة، حتى لامست القصيم بما فيها من قواعد وحاميات عثمانية متقدمة، لترتج الآستانة من جديد خوفًا من دولة سعودية ثالثة جديدة تستعيد بلادها ويلتف حولها مواطنوها، ومن ثم تُشكّل خطرًا على موقع العثمانيين المهتز أصلا، والذي لايحظى بأي حاضن شعبي في الجزيرة العربية ولا في العالم الإسلامي.

وسارعت الدولة العثمانية بمد عاملها في شمال نجد، بعدد كبير من القوات النظامية، والذين يتشكّلون عادة من جنود نظاميين أتراك ومرتزقة أغلبهم من الشام والعراق، يعملون في الجيش العثماني، تم تزويدهم بالأسلحة الحديثة والمدافع إضافة للمؤن والجمال والخيول.

وقدّر عدد جنود العثمانيين الذين سارعوا بإرسالهم بنحو ألف وخمسمائة، وتُشير المصادر التاريخية إلى أن عامل العثمانيين قام بمصادرة ما وجد من إبل العقيلات الذين كانوا يجوبون البلاد للتجارة بين العراق والشام ومصر وشبه الجزيرة العربية، مُحملَا عليها قسمًا كبيرًا من الأطعمة والمؤن والأسلحة، التي وصلته سريعًا من ولاية العراق العثمانية في طريقه إلى القصيم، للتصدي للجيش السعودي بقيادة الملك عبد العزيز أو على الأقل إخراجه من القصيم، ووصل إلى قرب البكيرية مُشكلًا قاعدة متقدمة للحرب ضد السعوديين.

دهاء الملك وغرور العثماني:

في المقابل كان الملك عبد العزيز قد وصل إلى أواسط القصيم، حيث تتجمّع قوات العثمانيين وعمالها في نجد، وعَلِم بدهائه وعبقريته السياسية والعسكرية، أن هذه المعركة مصيرية وحاسمة في العلاقة مع السلطنة العثمانية، وتجبُّرها وقيادتها للجيوش ضد أي تحرك سعودي، خاصًة كونها أول تماس مباشر معهم منذ عودته من الكويت واستعادته ملك آبائه، فأعلن النفير  واستنهض النجديين والقبائل الموالية لوطنها ودينها وأئمة آل سعود للمعركة المصيرية، التي حددتها مناطق نزول القوات في البكيرية، وبلغت القوات الموالية للمك عبد العزيز عدة آلاف من المحاربين الأقوياء وخرج بهم من بريدة نازلًا البكيرية في مواجهة خصومه، وكان ذلك في يونيه1904م.

خطة الملك عبد العزيز العسكرية:

قسّم الملك عبدالعزيز جيشه إلى قسمَين لإلهاء الخصم وتشتيت قواته، القسم الأول كان بقيادته ويضم أهل العارض وجنوبي القصيم، وخصّصه لملاقاة جموع المقاتلين المنعزلين والموالين للجيش العثماني وابن رشيد عاملهم في نجد، والقسم الثاني يضم المقاتلين من أهل القصيم ومن تبعهم من قبائل مطير والذين أوكلهم بملاقاة الجيش العثماني النظامي.

ونشب القتال بين الطرفَين، ورجحت كفة العثمانيين في بداية المعركة، مستفيدين من قوة نيران مدافعهم، خاصًة أنهم ركزوا قوتها ضد الجناح الذي يقوده الملك عبدالعزيز لأن الناس يجتمعون حوله، ذلك الأمر ألحق به خسائر بشرية وأرهق قواته، إضافة إلى تعرضه شخصيًا لشظية أدت إلى جروح في يده اليسرى، مما اضطر الملك إلى التراجع تكتيكًّا باتجاه بلدة المذنب.

وفي الوقت نفسه واصل الجناح الثاني بقيادة أهالي القصيم قتاله ضد الجنود النظاميين المحاربين لدى العثمانيين، محققين تقدمًا ضدهم، وأدى ذلك إلى أسر عددٍ من الجنود، وغنموا بعض المدافع وعادوا إلى البكيرية مع الليل، وعلى الرغم من ذلك فإن قوات ابن رشيد ظلت متماسكة ثابتة.

لم تكن المعركة قد حُسمت، والخسائر في الطرفَين كبيرة، فقد استشهد من قوات الملك عبد العزيز ما يقارب 900 رجل منهم أربعة من آل سعود، وفي المقابل قُتل من جيش الأتراك نحو ألف جندي بينهم أربعة ضباط كبار.

وفي اليوم الثاني للمعركة، واصل الملك عبد العزيز مع أتباعه ملاحقة العثمانيين وأعاد تمركزه في القصيم ووصل إلى عنيزة، ليتوافد عليه أبناء الجزيرة الذين التفوا من جديد حوله ليقود التحرر من العثمانيين الغزاة، ووصل عدد قواته الجديدة في عدة أيام إلى اثني عشر ألف مقاتل، في وقت قصير  ورقم كبير بمقاييس تلك الأيام.

كان فلول العثمانيين وحلفاؤهم يحاولون تجميع ما بقي من قواتهم، والتقاط أنفاسهم بعد المعارك الضارية، وسارت تلك القوات المشتّتة إلى عدة بلدات، منها رياض الخَبْراء التي أبى أهلها أن يعلنوا الطاعة، فأمر قادة الجيش العثماني بقطع النخيل وقذف البلدة بالمدافع، ويبدو أن إعادة التمركز تلك كانت هي البداية للمعركة النهائية التي ستفتح نجد بكاملها أمام الملك عبد العزيز.

عاد الملك – الإمام- إلى البكيرية للسيطرة عليها، إلا أن ابن رشيد سارع إلى إرسال سرية اصطدمت بخيّالة السعوديين فانهزمت، ودخل الإمام عبد العزيز البكيرية واستولى على الحامية العثمانية فيها، وغنم السلاح والمدافع التي خزّنها العثمانيون فيها.

معركة الشنانة

بعد ذلك انسحبت القوات العثمانية إلى الشنانة، متخذين منها معسكرًا، وفي المقابل تمركزت قوات الملك عبدالعزيز في الرس، وتصف المصادر التاريخية معركة البكيرية بالمهمة في طريق تحرير القصيم لكنها لم تكن حاسمة، فقد خسر الملك عبدالعزيز بن سعود كثيرًا من جنده ومعداته، ولكنه بخبرته وحسن قيادته استطاع أن يعوّض هذا النقص، وجمع حوالي اثني عشر آلف مقاتل خلال عشرة أيام.

وأصر الملك عبد العزيز على البقاء والمواجهة، وهي سياسة وحنكة استمرت معه طوال تاريخ توحيده لبلاده، وفي هذه المعركة الفاصلة بقي الملك في مواجهة أعدائه مدة شهرَين، حتى ضاقت عليهم الأرض ونقصت إمداداتهم، ولم يقطع تلك المدة إلا المناوشات الخفيفة التي جرت بينهما من دون قتال حاسم، مما أصاب المحاربين العثمانيين بالتعب والوهن وتناقصت الإمدادات والإبل وتفرقت جموع البادية ولم يبق مع العثمانيين غير الجنود النظاميين.

وقرر قادة الجيش العثماني، وعُمّالُهُم وحلفاؤهم الرحيل باتجاه قصر ابن عقيّل للتحصّن فيه، فقد كان ملاذهم الأخير، وقبل أن يهجموا على البلدة والقصر  في الصباح، كانت عيون الملك عبدالعزيز قد أبلغته، وهذا في حقيقته من أدوات الحرب المهمة، التي وظفّها الملك الداهية في استعادة بلاده وهزيمة أعدائه، وفي الصباح فوجئ العثمانيون أن الملك قد سبقهم إلى داخله وثبت فيه بتعاون الأهالي، ليصب جيش العثمانيين نيران مدافعهم على القصر ويخرج لهم جيش الملك عبد العزيز، ويندلع قتال هو الأقوى من نوعه طوال تاريخ مواجهات القصيم، انهزمت على أثره قوات الترك النظامية، وفرّوا هاربين تاركين وراءهم غنائم كثيرة من الذخائر والسلاح والأموال، وظلت قوات ابن سعود تجمعها طيلة عشرة أيام منها صناديق الذهب العثماني التي أرسلوها لشراء الذمم وقتال الملك عبد العزيز.

وبدأت ملامح الدولة السعودية الثالثة تظهر للعيان، وتتشكل بأقاليمها المتعددة، فبعد العارض ها هي القصيم تتوحد تحت راية الملك عبد العزيز، لقد كان مفتاح انتصار الملك عبد العزيز هو الصبر والنَّفَس الطويل، وإنهاك الخصم بالمناوشات، وإقناع العثمانيين وحلفائهم بأن جيش السعوديين لا يستطيع القيام بأكثر من مناوشات قصيرة وسريعة ليفُاجَأوا بأنهم أشرس وأكثر صمودًا، بالرغم من قلة الإمكانات العسكرية.

  1. معارك الملك عبد العزيز المشهورة لتوحيد البلاد – عبد الله الصالح العثيمين.

 

  1. بعثة إلى نجد 1917 – 1918 – هاري سانت جون فيلبي.