الملك عبد العزيز.. دهاء البدوي الذي حيد امبراطوريتين!!

كانت فترة التأسيس التي خاضها الملك عبد العزيز بكثير من الحذر والدهاء والسياسة والحسم، عصيبة جدًّا ليست على بلاده التي كان يحاول استعادتها من التفكك والفقر وسيطرة العثمانيين على بعض لأجزائها فحسب، بل على المنطقة بأسرها.

فمن إسطنبول شمالاً إلى عدن جنوبًا، ومن المحمرة شرقًا في بلاد فارس إلى أقصى المغرب العربي، كانت هناك قوى عظمى تتصارع وامبراطوريات تتخلق، وأخرى تنتهي أو في طور الانتهاء.

كان قدر الملك عبد العزيز عظيمًا، لقد صنع التاريخ بنفسه، على الرغم من كل التحديات الكبرى التي واجهها بصدر مفتوح، ولكن بعقل منفتح أيضًا، دون مساعدة أو مساندة من أحد، بل دفع القوى العظمى إلى الرضوخ أمام الأمر الواقع، والسعي إلى عقد المعاهدات معه، وطوعها لصالحه بالرغم من بعض التكتيكات السياسية كما فعل في معاهدة العقير.

فالمعاهدة التي أبرمها الملك عبد العزيز مع الإمبراطورية البريطانية في العقير ضمنت له لأول مرة اعتراف قوة عظمى تسيطر على معظم سواحل الخليج، ولها نفوذها في العالم، فذلك الاعتراف ضمن له حكمه وملكيته لنجد والقصيم والأحساء، ولم يكن الملك عبد العزيز العارف بقدرات بلده الناشئة أن يضعها في منتصف صراع دولي تقوده جيوش هائلة لديها من الإمكانات ما ليس لأحد، لقد حددت تلك المعاهدة -بالغة الأهمية- ملامح الدولة الناشئة وهي في طريقها إلى التوحد فيما بعد تحت اسم المملكة العربية السعودية.

لقد وضع الملك عبد العزيز لَبِنَات دولته في أول طريق السياسة، وعقد اتفاقًا أقرب ما يكون إلى معاهدة بين دولتين كاملتي السيادة، لقد كان بإمكان الإنجليز عدم عقد الاتفاق، لكن الملك الذي سبقت سمعته الاتفاقية، أجبر الإنجليز على القدوم إلى بلاده وفي ميناء العقير تحديدًا لتطلب منه الحياد في معركة كان قد قرر هو مسبقًا ملامح مشاركته فيها، وهي الحياد ولا شيء غير الحياد.

 كان اعترافًا بريطانيًّا صريحًا وغير مكلف، بل تعهد بدعم الدولة السعودية وملكيتها على أراضيها المتوارثة من الدولتين السعوديتين الأولى والثانية.

ولو عدنا إلى تفاصيل الاتفاقية الذكية لوجدناها نصت على إعانة الدولة البريطانية للملك عبد العزيز إذا ما وقع على دولته اعتداء، ولكن بعد استشارة الملك، وهنا يعطي الملك الشاب حينها لنفسه الإمكانية للمشاركة مع البريطانيين في القرار، وله حق تقييم الموقف، وهو الأمر الذي حصل فيما بعد، إذ دفع ذلك الاتفاق البريطانيين إلى الوقوف متفرجين مندهشين وهم يرون الملك الشاب ينتقل من صعوبة إلى أخرى مُذَلِّلاً إياها دون أن يطلب من البريطانيين التدخل، وهو ما أعطاه حرية قراره فيما بعد عندما أعطى امتياز اكتشاف النفط لدولة أخرى.

في البند الرابع من الاتفاقية، تعهد الملك عبد العزيز ألا يبيع أو يؤجر أيًّا من الأقطار المذكورة لدولة أجنبية أو يمنحها امتيازاً من دون رضا الحكومة البريطانية، شرط ألا يكون ذلك مجحفًا بمصالح البلاد.

لقد كان الملك عبد العزيز سياسيًّا حصيفًا محاولاً تجنيب بلاده أي صدام مع الدول العظمى وكذلك الدول الكبرى في الإقليم ونجح في ذلك أيما نجاح، كانت براعة الملك عبد العزيز تتضمن السير في حقل الألغام الدولي دون أن تخدش بلاده، وفي الوقت نفسه  يحتفظ بعلاقات مميزة معها، وهو لا يخوض إلا المعارك السياسية والعسكرية التي تضمن له استعادة أراضيه بأقل الخسائر، مع أن البريطانيين كانوا ينظرون له باحترام، إلا أن العثمانيين كانوا ينظرون إليه بريبة وخبرة، فهو ابن حكام استطاعوا العودة مرتين إلى حكم بلادهم في دولة يعود تاريخها لأكثر من 300 عام.

لقد كان لاستعادة الملك عبد العزيز الأحساء أثره الاستراتيجي، ، فقد أعاد ترتيب الأوراق في المنطقة كلها، إذ جنحت السلطنة العثمانية إلى استخدام القوة في محاولة منها لاستعادة إقليم الأحساء المهم من الملك عبد العزيز، لكن المؤسس أرسل إشاراته الصارمة إلى العثمانيين، بأن أي تهور ضده سيقابله ليس بالرد فحسب وإنما بالتمدد نحو مناطق نفوذ أساسية للعثمانيين.

هذا الأمر دفع السلطنة إلى العودة للقواعد السياسية، ولذلك جاء اختيار طالب بك النقيب السياسي المحنك ليكون رئيسًا لوفد التفاوض مع الملك عبد العزيز، لعله يستطيع بحنكته أن يعقد اتفاقًا مريحًا للطرفين، على أن يكون للتفاوض قواعد رئيسة يستند إليها وهي على النحو التالي:

محاولة حل الخلاف سلميًّا، وتحقيق الوحدة الإسلامية، والحفاظ على الوحدة العثمانية، وعدم سفك دماء المسلمين، وبلا شك كانت تلك القواعد من الأمور الأساسية التي يسعى لها الملك عبد العزيز.

بدأ الوسيط العثماني “طالب النقيب “خطواته التفاوضية مع الملك عبد العزيز، ولحرص الملك على عدم الخروج عن إطار تفاوضي يخدم بلاده ومصالحها لمعرفته بصوبته، فقد قدم برنامجا تفاوضيا مكتوبًا ومختومًا، وهنا وافقت البعثة العثمانية بقيادة طالب النقيب على مشروع الملك عبد العزيز، ورفعت بترجمته في برقية سرية وبالشيفرة إلى الحكومة في إسطنبول، بالطبع هناك الكثير من التفاصيل في ذلك الاتفاق، ولكن وعند التمعن فيها نجدها حققت للملك أهدافه الاستراتيجية فيما بعد.

هكذا استطاع الملك البدوي القادم من عمق الصحراء أن يتغلب على امبراطوريتين لديهما مؤسسات تفاوضية عريقة، وحيّد كلاً منهما، وحول الخلاف معهما إلى مكاسب كبيرة ستثمر فيما بعد عن وحدة  لبلاده وشعبه لم يحلم بها أحد في الجزيرة العربية، لقد استخدم الملك كل أدواته التفاوضية ووظف التكتيك السياسي وتحييد الخطر، وعدم الانجرار نحو التحالفات، ليبنيَ بلده، ويبني احترام خصومه وأعدائه الذين سلموا له بحنكته وقدراته التفاوضية.