مؤلف "ممالك النار" محمد عبدالملك يكتب لـ "حبر أبيض":

على "العرب" أن يفسحوا المجال

لصنَّاع الدراما التاريخية

نعيش في زمن لا تصلح معه أفكار مثل المنع والمقاطعة والمصادرة. كنا نتشدق في تسعينيات القرن الماضي بأن العالم أصبح قرية صغيرة، لكنه اليوم أضيق من شارع صغير داخل تلك القرية. وإن لم ننفتح على العالم، ونرتقي إلى قواعد المنافسة الصعبة في سوق ضخم ومهم ومؤثر مثل الإنتاج الدرامي، فلن ينتظرنا أحد، ولن يبكي علينا أحد، وسنتحول إلى أضحوكة أو ربما ننقرض مثل الديناصورات.
هذه ليست قسوة وليس جَلْدًا للذات، وإنما محاولة أخرى للإفاقة من سبات التغافل والإهمال والاستسهال. منعنا مسلسلات الدراما التركية على شاشاتنا لسنوات فماذا ربحنا؟! صنعنا مسلسلاً واحدًا لمواجهة الغزو الفكري الثقافي التركي لعقول أبنائنا فهل هذا يكفي؟!
لم نربح شيئًا بالمقاومة السلبية، فالمسلسلات التركية موجودة على منصات عرض وشاشات أخرى، وزبونها لا زال يذهب إليها، وذلك لسبب واضح وبسيط، أنه منتَج جيد الصنع، يرقى للمنافسة العالمية، وقد بذل فيه صانعوه أقصى ما يستطيعون من جهد بإخلاص وتفانٍ.
هذا فيما يخص الفن، الصنعة، أو الصناعة “اعط العيش لخبازه حتى لو أكل نصفه”، هذا ما يقوله المثل الشعبي المصري، نحن لا زلنا نعطي مهمة صعبة ومعقدة مثل صناعة الدراما لمن هم غير أهل لها. الصانع غير التاجر، ربما لا غنى لهذا عن ذاك، لكن لكل منهم مجاله. عندما يعمل الصانع بالتجارة فلن يجد سوقًا لبيع إنتاجه، أو في الغالب ينسحق تحت آليات البيع والشراء، إن البقرة لا تجيد بيع لبنها، هذا بَدَهِيٌّ.
لكن عندما يعمل التاجر بالصناعة (برؤية التاجر فقط) فتلك مصيبة أكبر، هنا تدخل الفهلوة على حساب الإجادة، وتحل الأرقام (الكم) محل الجودة (الكيف)، ويصبح الشكل اللامع البراق أهم من المضمون القوي العميق.

مقاومتنا للدراما التركية لم تزل سلبية... وعمل واحد لا يكفي لمواجهة غزوها الممنهج.

آفات صناعة الدراما لا زالت تسكن جذور أعمالنا كعفن مزمن، المهم هو النجم، هو الذي تشتريه القناة وهو الذي تأتي الإعلانات باسمه، ومن ثَمَّ ينفتح المجال لكي يتدخل النجم ويسيطر، ويصبح كل فريق العمل تروسًا في ماكينة صناعة اسمه ونجوميته، أحلامه أوامر وطلباته مجابة، فالبيع قد تم بمجرد توقيعه على العقد، وبصورة يأخذها المنتج بصحبته لتنتشر على السوشيال ميديا، أما صناعة المسلسل نفسه فمجرد تحصيل حاصل. كيف لنا بالله علينا أن نصنع دراما تنافس على مستوى عالمي – أو حتى إقليمي – في ظل نظام العربة المقلوبة هذا؟! 

لا تنقصنا الكوادر من كتابة وتمثيل وإخراج وديكور وتصوير وموسيقى وخلافه، تنقصنا المنظومة، وكلما تحدثنا أغضبنا القائمين على الصناعة (أو التجارة بمعنى أدق) الذين اعتادوا على العمل وجنى الأرباح بهذه الطريقة، غير عابئين بأن النتيجة النهائية ستكون كسادًا كبيرًا، وتوقف حتمي لعجلة الإنتاج الدرامي آجلاً أم عاجلاً.

إن أي تجارة لا تُربح فاشلة بكل المقاييس، ولا أحد يطالب العاملين في هذا القطاع بالخسارة. إن الفن مسألة جدليَّة ليس مكانها صناعة الدراما الهادفة للربح، إلا في هوامش ربما تحتمل المغامرة إن كانت المنظومة تربح في الأصل، ومن منطلق الحديث عن الربح والخسارة من منظور اقتصادي بحت (بزنس)، نرى اليوم أن الدراما التركية عادت تحتل شاشاتنا، بعد تعريبها بممثلين وكوادر عربية، لا بمجرد دبلجتها كما كان يحدث قديمًا، ونرى المسلسلات التركية تحتل منصات عربية تتابع الجديد منها ومعدلات مشاهدتها في تركيا وصعودها وهبوطها، ويقبل عليها المشاهدون في منطقتنا العربية إقبالاً عظيمًا.

وكأننا لم نفعل شيئًا، فالسوق العالمي سيظل خاضعًا لقانون العرض والطلب، والمنصات العالمية الشهيرة تعرض أعمالاً أصلية مصنوعة في تركيا تثير لدينا الكثير من الشجون والأسئلة فيما يخص آليات الصناعة المعطلة عندنا، إن البزنس في البداية والنهاية هو الطريق المضمون للغزو الفكري والثقافي والسياسي.

قلناها مرارًا وتكرارًا وها نحن نعيدها، صناعة مسلسل تاريخي واحد وحيد ليس أمرًا كافيًا في مواجهة سيل الأعمال التركية المشابهة، وعلى المنطقة العربية أن تنتفض وتعطي للصناع المجال لكي يعيدوا قراءة التاريخ للمشاهدين على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم، هذا إن كنا نطمح للمنافسة، ولمد خطوط الأمن القومي والثقافي حول مجتمعاتنا أمام غزو درامي مستمر، لعلنا ننجو.