الكرد والترك:

الرهانات الخاسرة

مَن يتأمل علاقة الكرد بالدولة العثمانية أو الجمهورية التركية، سيطرح على نفسه العديد من التساؤلات حول هذه العلاقة المُلتَبَسة الغريبة، التي إن ربما يحق أن نُطلق عليها علاقة “غرام وانتقام”!

وربما بدأت العلاقة بشكلٍ جَدِّي مع اندلاع الصراع العثماني الصفوي، أي الصراع التقليدي بين مَن يحكم آسيا الصغرى ومَن يحكم بلاد فارس؛ فعندما عقد السلطان سليم الأول العزم على محاربة الشاه إسماعيل الصفوي، كانت المشكلة الكبرى أمامه في الإمارات الكردية التي تقع على الحدود بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية. ونجح السلطان سليم في استمالة هذه الإمارات إلى جانبه تحت تأثير الدافع المذهبي؛ إذ أعلنت الدولة العثمانية أنها حامية المذهب السني في العالم الإسلامي، وفرض الصفويون المذهب الشيعي مذهبًا رسميًّا لإيران، ولما كانت الإمارات الكردية على المذهب السني، استطاع السلطان سليم استمالتها إلى جانبه بحجة مكافحة التشَيُّع، مع وعد بالحفاظ على استقلال الإمارات الكردية بعد النصر في جالديران، مع الإقرار بتبعيَّتها للدولة العثمانية، وهو ما حدث بالفعل.

لكن الدولة العثمانية، خاصةً في القرن التاسع عشر، تخلت عن سياسة اللامركزية وتبنَّت سياسة المركزية، وقامت بإلغاء استقلال الإمارات الكردية، وإعلان خضوعها مباشرةً لأستانبول.

الرهان الخاسر الآخر في العلاقة بين الكرد والأتراك كان مع نهاية الحرب العالمية الأولى؛ إذ هُزِمَت الدولة العثمانية في الحرب، وبات الشغل الشاغل للحلفاء تنظيم أوضاع شعوب الولايات العثمانية، ومن ضمنهم الكرد، هذا فضلاً عن قيام جيوش الحلفاء بغزو قلب الدولة العثمانية، حتى دخلوا إستانبول نفسها.

وعندما أُبرِمَت معاهدة سيفر في عام 1920 بين الحلفاء والدولة العثمانية، كانت النظرة فيها إلى إعلان استقلال كردستان، كما تم إرسال وفد كردي إلى مؤتمر الصلح في باريس للتحدث عن القضية الكردية، والمطالبة باستقلال كردستان، وبات الأمر وكأن مستقبل كردستان هو الاستقلال.

لكن الأمور على الأرض كانت تسير عكس ذلك؛ إذ استطاع القائد التركي الشهير كمال أتاتورك إقناع الكرد في المقاطعات الشرقية بالتحالف معه لنصرة الإسلام والخلافة العثمانية، وطرد الجيوش الأوربية المسيحية من الأراضي العثمانية المسلمة، ووعدهم بكل الخير بعد النصر على الأعداء، وبالفعل تحالف الكرد مع أتاتورك، وتم صد القوات الأجنبية.

لكن المشكلة كانت بعد النصر؛ إذ استطاع أتاتورك إقناع بعض زعماء الكرد أن من مصلحتهم البقاء ضمن تركيا وعدم الاستقلال، وروَّج لفكرة أن تركيا هي بلد لشعبين: الشعب التركي والشعب الكردي، مع الإقرار بحقوق المواطنة لكليهما.

وسرعان ما دبَّ النزاع بين زعماء الكرد -وخاصةً المتدينين منهم- وأتاتورك، لا سيما بعد إلغاء الأخير للخلافة، وفرضه سياسة التتريك، فضلاً عن التغريب والابتعاد عن التقاليد الإسلامية. من هنا اندلعت الثورة في الأقاليم الشرقية في تركيا، وهي الأقاليم ذات الأغلبية الكردية، وتزعم الثورة الشيخ سعيد الكردي في عام 1925م، وقاد الثورة الدراويش المتصوفة. لكن القوات التركية استطاعت قمع الثورة وفرض حالة الطوارئ في البلاد. ودخلت تركيا نفق الصراع الدائم مع فصائل كردية عديدة من التيار القومي حتى الآن.

ويطرح الصحفي المصري “عماد الدين حسين” رؤية مهمة حول ما أطلق عليه “الرهانات الخاسرة” لزعماء الكرد في المائة سنة الأخيرة قائلاً:

“(لا أصدقاء لنا إلا الجبال والريح) مقولة يرددها الأكراد كثيرًا، لكن غالبية قادتهم لا يعملون بها. هذه المقولة صحيحة إلى حدٍ كبير بالنظر إلى الرهانات الخاطئة والخيبات الكبرى للقادة الأكراد وآخرهم العدوان التركي عليهم في سوريا، وبيع أمريكا لهم مجانًا”.