التملق الأخير

لم تكن الاستغاثات الأندلسية إلا هباءً منثورًا، وان توقفت السفارات فصعوبة الأحوال كانت أكبر وأعظم من قدرات من تبقى فيها … 

من هو سليم خان الثاني …

تولى السلطان سليم الثاني بعد أن كان سابقاه السلطان سليمان القانوني والده، والسلطان سليم خان الأول جَدُّه، وهذا الثاني – سليم- تولى ولم يكن متَّصفًا بما يؤهله للقيام بحفظ ما وصل إليه والده من سيطرة وامتداد وذلك كان شغل الدولة الشاغل في أنها عملت على تجاهل الأوضاع من حولها لتحتفظ بمكتسبات أتت -في الأغلب- على انتهاك حقوق المسلمين لا سيما في الأندلس.

حاول سليم خان الثاني أن يمنع العطايا عن الجند ونظرًا لإعلانهم التمرد والعصيان رضخ لطلباتهم، ورغم كل التحالفات المبرمة في عهد والده – سليمان خان- إلا أنه زاد عليها منح امتيازات أخرى أهمها إعفاء أي فرنسي من دفع الجزية الشخصية، وأن يكون القناصل لهم الحق في البحث عمن يكون عند العثمانيين من الفرنسيين في حالة الرِّق وإطلاق سراحهم، والأدهى من ذلك البحث عمن أخذهم بصفة رقيق لمجازاته. ويظهر أن السلطان تناسى أن البيت العثماني وأساس جيشه قد قام على ذلك وان كانت المصطلحات تختلف وتتوارى خلفها المضامين مثل الدوشرمة وغيرها.
كان الصدر الأعظم للدولة العثمانية صقللي باشا – صوكولو باشا- وزيرًا أول لثلاثة سلاطين أولهم سليمان القانوني، وثانيهم سليم خان الثاني، وثالثهم مراد خان الثالث. وقد أدار صقللي باشا أمور السلطان سليم الثاني كما أدار أمور والده باحترافية السياسي المخضرم، ولكنها إدارة فرض السيطرة الشخصية باسم السلطان.

كتب بعض الباحثين بعد دراسات متعمقة أمثلة من تلك الإدارة ففي سنة 1569م، أرادت الدولة العثمانية شق قناة مائية طولها 60 كيلومترًا تخترق أراضي غير مبسوطة التضاريس لتصل نهر الفولجا مع نهر الدون، والهدف منها تسهيل حركة الجيش للدفاع عن حدود الدولة الشمالية في وجه أي هجوم روسي محتمل، وكذلك لنقل قواتها إلى جنوب القوقاز ومهاجمة الصفويين من الشمال إن لزم الأمر، وأرسلت الدولة قوة من الانكشارية والفرسان ومعهم المهندسون والعمال للمباشرة في أعمال القناة، وفي نفس الوقت حاصرت بحر آزوف ضمن البحر الأسود، ولكن القيصر إيفان، الملقب بالمخيف، اعتبر ذلك اعتداء على مناطق نفوذه واستطاعت قواته هزيمة قوات التتار العثمانية – هكذا شبهها الباحثون- وهبت عاصفة حطمت الأسطول العثماني، فانتهت المحاولة بالفشل، وبعدها بشهور وقعت الدولة العثمانية مع روسيا معاهدة صداقة وحسن جوار، خوفًا من تهور الأوضاع للأسوأ.

عُرف عن السلطان سليم خان الثاني بأنه كان سِكِّيرًا وهذا ما اشتُهر به اسمه والتصق به، ولما كان السلطان سليم الثاني منساقًا وراء شهواته لا يكاد يفيق من غيه، أصبح الحكم في الحقيقة بيد صهره -زوج أخته- صقللي باشا لضعف السلطان من جهة، وللإصلاحات الإدارية التي أجراها السلطان سليمان القانوني، والتي وسَّعت من صلاحيات الصدر الأعظم، ولكنه قد يضطر لعدم استخدام صلاحياته حفاظًا على مكانته كونه صدرا أعظم، ففي عام 1570م، طرح صقللي محمد باشا، على السلطان العثماني سليم الثاني تقديم الدعم العسكري لثورة المورسكيين؛ لأنهم لا زالوا يقدمون استغاثتهم والاستنجاد بالدولة وهم من تبقى من مسلمي الأندلس في إسبانيا بعد سقوط غرناطة المشتعلة في جبل البشرات قبالة غرناطة بإسبانيا، ولم يكن الرد مستغربًا ولكنه أبدى مدى ضعف شخصيته، واستغلال من كانوا مقربين منه لذلك أسوأ استغلال، فجاء ردُّه هكذا: “قد علم مولانا ما كان من المسلمين في البشرات من الثورة. وقد مضى عامان على رفعهم السلاح في وجه عدوهم وعدونا ملك إسبانيا. ولا يفصل بينهم وبين النصر سوى نجدة ينفذها إليهم مولانا سيد البر والبحر من عساكر الدولة العلية المحروسة. ما إن فرغ صقللي باشا من طرحه حتى نظر السلطان سليم في عينيه ببرود ظاهر، وقد بدت عيناه منتفختين من أثر السُّكر قال: بعد مشاورة رجال الديوان، قررنا إنفاذ جيوشنا إلى قبرص لفتحها، وقلعها من أيدي كفار البنادقة”. مع أن قبرص قد فُتِحت على يد المسلمين الأوائل منذ زمن الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وقبر أم حرام الأنصارية خير شاهد على ذلك، ولكن العثمانيين اعتادوا أن يصفوا معاركهم وتوسعهم بالفتح، واللافت للنظر هو أن اليهودي جوزيف ناسي كان أحد رجال الديوان وهو الذي أقنع السلطان بغزو قبرص، وطلب منه أن يُمَلِّكه إياها إن نجحت جيوشه في السيطرة عليها. وقد كان لدى جوزيف ناسي تطلعات صهيونية خلال ذلك الزمن المبكر إلى إقامة مملكة إسرائيل فوق الأراضي القبرصية مع تتويجه ملكًا عليها. وبعد أن فشل في ذلك، نقل ناسي أحلامه إلى فلسطين، فاستصدر فرمانًا من صديقه سليم الثاني يُمَكِّنه من إقامة مستعمرة يهودية في طبرية، ومُنح لقب ملك. لقد كتب المؤرخون مثلاً عن رغبة سليم الثاني في وضع يده على قبرص بسبب ما اشتُهرت به من أنبذة فاخرة، وذلك ما يؤكده اهتمام الدولة العثمانية بأنواع السلع التي تحرص على المتاجرة فيها ومنها تجارة النبيذ إذ كان الأناضول التركي يستورد ويصدر النبيذ في آن واحد. وكتب التاريخ توثق لذلك إسلامية وغربية ومنهم ابن بطوطة، وكذلك وثائق في الأرشيف العثماني ومنها وثائق تعود في تاريخها إلى عام 1437م وغيرها. ولقبرص استراتيجيتها التجارية، ولا يعفي سلاطين الدولة العثمانية تثاقلهم وتجاهلهم استغاثات أهالي الأندلس فذاك حق واجب على دولة نصَّبت نفسها حامية للعالم الإسلامي . وللحديث بقايا متناثرة لابد من الكتابة فيها لعرضها كشهادات للتاريخ.

خاتمة للتأمل

يقول الرئيس المؤسس لوقف “صقللي – صوكولو محمد باشا” إبراهيم أيجيجاك، إن أربع قطع من الحجر الأسود تم وضعها في جامع «صوكوللو محمد باشا» من قبل المعماري سنان ويبلغ حجم كل منها حجم عقدة أصبع الإبهام، وأن المعماري سنان وضع أكبر القطع على ضريح السلطان سليمان القانوني.