ليبيا تحت الحكم العثماني
عانت ليبيا منذ مطلع القرن السادس عشر الميلادي الأمرّين من جراء الصراع الدولي حولها، هذا إلى جانب هشاشة التكوينات السياسية الداخلية، وأدى ذلك إلى نجاح إسبانيا عام 1515م، في السيطرة على طرابلس إذ أصبحت قاعدة لعملياتهم البحرية في البحر المتوسط، وزاد الطين بلّة، تنازل إسبانيا عن طرابلس لصالح فرسان القديس يوحنا في مالطة، وهم الفرسان المرتبط تاريخهم الأسود بفترة الحروب الصليبية، ومن هنا بدأ الليبيون الجهاد ضدهم بشدة، واستغلت الدولة العثمانية -كعادتها مع جميع الدول العربية- هذه الظروف والمشاعر الدينية في الجهاد ضد فرسان القديس يوحنا في التدخل العسكري وضم ليبيا إلى ولايات الدولة العثمانية وهو ما حدث بالفعل في عام 1551م.
وإن اتسمت فترة البدايات في حكم العثمانيين، ببعض الهدوء والاستقرار النسبي في ليبيا، إلا أن الأمور سرعان ما ساءت للعديد من الأسباب، وربما يرجع السبب الأساسي وراء ذلك سوء النظام الإداري في الحكم؛ إذ لجأت الدولة العثمانية إلى الإكثار من تغيير ولاتها في طرابلس، وذلك خشيةً من استقرار أحدهم في الحكم، وما قد يتبع ذلك من محاولة الاستقلال بالبلاد.
وترتب على هذا التغيير المستمر في الولاة ضعف إدارتهم وازدياد نفوذ العسكر لا سيما الإنكشارية منهم، حتى استبدوا بأمر البلاد، واضطر الولاة إلى استرضائهم وإطلاق أيديهم في شؤون البلاد.
كما ظهرت فئة ثانية لعبت دورًا خطيرًا في إدارة البلاد، وهم القراصنة. ويرجع ذلك إلى الطبيعة الجغرافية المهمة لليبيا؛ إذ تتمتع بسواحل طويلة على البحر المتوسط، وساعد ذلك على ظهور طائفة رؤساء القراصنة الذين اتخذوا من سواحل ليبيا مقرًا لهم يهاجمون من خلاله السفن الأوروبية، مع فرض إتاوات على الدول الأوروبية لمرور سفنهم بسلام. وأدى ذلك إلى تقاسم الولاة الدخلَ مع القراصنة، وازدياد نفوذ هؤلاء، لا سيما مع سرعة تغيير الولاة وضعفهم السياسي والإداري.
وهكذا يمكن رسم صورة قاتمة لأوضاع ليبيا العثمانية، من ضعف الولاة وعجزهم عن إدارة شؤون البلاد، إضافة إلى كثرة الفتن والقلاقل الداخلية نتيجة ازدياد نفوذ الجند وتدخلهم في أمور الحكم، وجورهم على الرعية، يُضاف إلى ذلك دور القراصنة وسيطرتهم على السواحل والبحار، وأدى كل ذلك إلى ازدياد نفوذ العصبيات المحلية، وضعف السلطة المركزية، وما ترتب عليه من انعدام الأمن وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي.
وتزخر المصادر الليبية المعاصرة، بالكثير من الحوادث حول سوء الأحوال وتدهور الأوضاع فيُحكى على سبيل المثال عن جعفر باشا أنه: “كان ضعيف الشكيمة عاجز الرأي والحيلة فتغلب عليه الجنود واضطربت البلاد، وكثر الثوار والبغي والفساد.
ويصف المؤرخ الليبي، أحمد النائب الأنصاري، في كتابه المنهل العذب، فترة حكم الوالي سليمان طاي قائلاً: “عاد فأساء السيرة وبسط في الناس يد الجور وأطلق يد الجند وأباح لهم في هذه السنة (1022هـ) نهب قرية تاجوراء فجاسوا خلالها ودمروها وساموا أهلها سوء العذاب، ونهبوا جميع أموالهم وكافة مواشيهم”.
وأدى هذا التدهور إلى صعود أسرة القرمانلية لحكم ليبيا، وهم أسرة تركية استوطنت طرابلس، وساعد ذلك على إضفاء بعض الهدوء في بداية حكم الأسرة القرمانلية لطرابلس؛ لكن الأمور سرعان ما تدهورت، خاصةً مع الصراع الداخلي بين أفراد الأسرة القرمانلية، ورغبة الدولة العثمانية في استعادة الحكم المباشر المركزي لليبيا، وأدى هذا إلى ثورة الأهالي على الحكم القرمانلي نتيجة ازدياد الضرائب الجائرة عليهم، وخرجت أقاليم ومدن هامة عن سيطرة الولاة حتى أن الوالي العثماني القرمانلي استنجد بباي تونس العثماني من أجل مساعدته في قمع ثورات الأهالي.
وهكذا وصلت أمور ليبيا تحت حكم الولاة العثمانيين وحتى الأسرة القرمانلية التي حكمت ليبيا باسم الدولة العثمانية.