كالمستجير من الرمضاء بالنار
من أشهر الممالك التي قامت في اليمن قبل الميلاد وبعده المملكة الحميرية، وملكها الشهير ذو نواس الحميري يهودي الديانة، وكان قد صبَّ جام غضبه على سكان نجران عند تحولهم إلى المسيحية عن قناعة آنذاك، وكان ذو نواس قد خيّرهم بين العودة إلى اليهودية أو القتل، فاختاروا الموت، وذاك ما حصل لهم، وهو الأمر الذي أدى إلى غضب النجاشي صاحب مملكة الحبشة المسيحية، الذي قام بدوره بإرسال نسخة محروقة من الإنجيل إلى قيصر الروم يستثيره، لأنها حُرقت مع أصحاب الأخدود.
وعلى إثر ذلك طالب قيصر الروم نجاشي الحبشة بالانتقام من ملك اليمن وأرسل السفن الحربية إلى الحبشة، وبدوره حشد النجاشي نحو 70 ألف جندي للثأر من اليمن، وأرسلهم بقيادة أرياط الحبشي وأبرهة الأشرم الحبشي، وارتكبا ما ارتكبا من مجازر وتخريب وسبي وذل.
أما ذو نواس الحميري فقد ولى هارباً تاركاً بلاده في قبضة الأحباش، وأصبح أبرهة الأشرم ملكاً على صنعاء بعد مقتل زميله أرياط، ويُقال: إن أبرهة هو من قتله غيلة، ولم يكتف أبرهة بهذا الانتصار، بل كان يضمر الكره المتأجج للعرب وقرر غزو مكة وتدمير الكعبة، لكنه أخفق في تلك الغزوة ومات فيها ابنه يكسوم، فتولى حكم اليمن من بعده مسروق بن أبرهة، الذي قُتل على يد الفرس المجوس في القرن السادس الميلادي، ولقصة أصحاب الفيل منحى آخر، وأحداث ورد ذكرها في القرآن الكريم .
وللفرس دور شنيع في بلاد اليمن، فبعد أن استعان سيف بن ذي يزن بهم لطرد الأحباش، ومن ثم تسبب ذو نواس في دخول الغزو الحبشي لجنوب الجزيرة العربية، بينما جاء دخول الفرس على يد سيف بن ذي يزن الحميري، الذي كان أحد أشراف اليمن، وكان في بداية الأمر قد قصد يخطيانوس ملك الروم لنجدة اليمن من الاحتلال الحبشي، لكن الروم خذلوه؛ لأنهم كانوا يرون في الأحباش إخوة لهم في الدين، فقصد ابن ذي يزن كسرى الفرس أنوشروان، وعرض عليه أن تدين اليمن بالولاء للحكم الفارسي بعد تخليصها من الأحباش، وتلك مصالح وعلاقات بين الممالك فلا غرابة.
ولكن أنوشروان اعتذر؛ لبعد المسافة وفقر اليمن وقلة خيراته، وأمر له بعشرة آلاف درهم، وقد غضب سيف بن ذي يزن وراح ينثر المال على الصبية والعبيد والإماء، وعندما علم كسرى بذلك استدعاه ليستفسر منه عن تصرفه هذا، فقال: إنه لم يأتِ طلبا للمال، إنما للرجال، فاستشار أنوشروان وزراءه، فأشاروا عليه بأن لديه عددًا كبيرًا في السجون من المحكومين بالإعدام، فإن أرسلهم وهلكوا فقد تم تنفيذ الحكم بهم، أما إذا ظفروا وجاء الانتصار فستزداد رقعة المملكة الفارسية.
وكان عدد المحكومين بالإعدام 800 سجين؛ تم تجهيز 8 سفن لهم، على متن كل واحدة 100 شخص، وفي عرض البحر غرقت سفينتان وبقيت 6 سفن بقيادة وهرز الفارسي، وفَوَر أن وصلوا إلى اليمن اشتبكوا بالتعاون مع اليمنيين في معركة فاصلة مع الأحباش وانتصروا عليهم وقتلوا قائدهم مسروق بن أبرهة، وبعد هذا الانتصار أرسل كسرى 4 آلاف مقاتل فارسي إلى اليمن للقضاء التام على كل الأحباش، ومثل هذه المواقف يتضح من خلالها العمل على إرسال المرتزقة والناقمين والدفع بهم باتجاه بلاد العرب لتحقيق أهداف لصالحهم وبأقل الخسائر، وفي المقابل تمارس أبشع الجرائم والتمثيل بالقتلى والأسرى، وذاك ديدن استمر إلى ما بعد ظهور الإسلام ، ومارسته دول شتى إلى العصر الحديث .
غادر وهرز وجماعته الفرس اليمن عائدين إلى بلادهم، وتربع سيف بن ذي يزن على عرش اليمن على أن يدفع جزية وخراجًا سنويًّا، ودانت اليمن لبلاد فارس، وعندما ظهر الإسلام كانت اليمن لاتزال تدين بالولاء للفرس، بل إن حاكمها في صدر الدعوة الإسلامية كان فارسيًّا يدعى باذان ابن ساسان جَرون، وهو آخر حاكم فارسي في اليمن في عهد كسرى الثاني.
وتروي المصادر التاريخية أن باذان دخل في دين الإسلام، واستمر يحكم اليمن من صنعاء.
وقال: أمية بن أبي الصلت في كلمة له لسيف:
ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن … لجج في البحر للأعداء أحوالا
أتى هرقل وقد شالت نعامته … فلم يجد عنده القلو الذي قالا
ثم انتحى نحو كسرى بعد تاسعة … من السنين لقد أبعدت إيغالا
حتى أتى ببني الأحرار يحملهم … حملا لعمري لقد أسرعت إرقالا
ومثل كسرى وباذان الجنود له … ومثل وهرز يوم الجيش إضلالا
لله درهم من عصبة خرجوا … ما إن رأينا لهم في الناس أمثالا