إماءٌ على عرش السلطنة!!
لم يكن تغوّل الحرملك أو مملكة النساء، الذي انتشر بشكل واسع في القرون الثلاثة داخل القصور السلطانية قبل انتهاء الحكم العثماني، لم يكن حالات استثنائية شاردة لا يُبنى عليها عند قراءة المشهد السياسي العثماني، بل كانت إحدى الأساسات المهمة في آليات انتقال الحكم، تلك الأساسات وضعت النساء في مرتبة مهمة في الطريق إلى العرش.
ولفهم تركيبة الحكم العثماني وتحليله ومقاربته في محكمة التاريخ بما له وما عليه، لا بد من فهم الطبيعة المنغمسة في المادية، التي سَبَغت بيت الحكم العثماني، خاصة مع استئثارهم بالموارد المالية والإمكانات الهائلة التي توفرت للسلطنة، واعتمادهم سياسة التفقير والتقتير على الشعوب “الأسيرة” المحتلة، والانفراد بالأموال والإمكانات وتحويلها إلى جيوبهم وقصورهم لتلبية حياة الترف المكلفة، ومتطلبات الشهوة “المنفلتة” التي انتشرت كالنار بين السلاطين والأمراء والوزراء والقادة.
النخبة الحاكمة في إسطنبول تحولوا خلال قرون حكمهم إلى عبيد للشهوة، وأسرى لطغيان الأموال والعبيد والإماء، وهو ما يؤكد أن وصف العثمانيين بـ “الرجل المريض” الذي أطلقه الأوربيون على العثمانيين قبيل نهاية حكمهم كان دقيقاً جدا.
فقد استسلم السلاطين لشهواتهم، وأصبحوا أسرى لصراع الإماء وكيدهن وسعيهن للتمكّن من السلطة على مختلف مستوياتهن (أمهات – زوجات – محظيات – خليلات)، وانساقوا وراء سطوة النساء الأوروبيات الجميلات خاصة، واللاتي استعبدن وهن صغيرات، وعندما كبرن قلبن الأمر وأسرن السلاطين وتحكّمن فيهم، للدرجة التي أصبحوا ألعوبة في أيديهن يسيّرونهم كيفما شاءوا.
تلكم الإماء القادمات من مخازن الأسيرات الأوروبيات ودخلن في تراتبية الحكم، استطعن أن يتسللن رويدًا رويدًا إلى مفاصل السلطنة حتى وصل الأمر بهن إلى العرش نفسه، وصايا أحيانًا حَكَمن بالاتفاق مع صدور الدولة والأغوات والقادة المؤثرين، أو منفردات في أحيان أخرى.
تقول كثير من المصادر إن بعض “حريم” السلاطين احتفظن بديانتهن المسيحية، واستطعن خلال سنوات حكم أزواجهن أو أبنائهن السلاطين، حماية دولهن الأم وتمرير مشاريع تخدمها تلك الدول انطلاقًا من موقعهن قريبا من مركز القرار، هذه ملامح فقط عما تمكن من فعله مَن دخل أروقة الحكم، فضلا عن الانفراد بالمراسلات مع الدول المجاورة، وهي صلاحيات يفترض ألا يمارسها غير الحاكم نفسه.
الغريب أن السلاطين العثمانيين بالرغم من ادعائهم حب العرب وانتمائهم الديني وزعمهم الدفاع عن المقدسات، إلا أن عنصريتهم فرضت عليهم عدم الزواج من العربيات، حتى لا يصبحن أمهات للسلاطين، محافظين على نقاء دمائهم الأعجمية – كما تصوروها – حتى لا تخالطها دماء العرب، وهو ما يؤكد ما ذهب إليه الكثير من أن السلاطين والأسرة الحاكمة العثمانية لم تكن ترى في العرب إلا عشائر أدنى مرتبة منهم، بينما رأوا في الأوربيين أندادا، ولذلك صاهروهم وتزوجوا منهم.
الصراع على العرش بما فيه من جوارٍ ونساء انعكس داخل بيت الحكم العثماني، بما حمله من مؤمرات دموية دامت قرونًا طويلة، بدءًا من بناء أقفاص للأمراء حيث يوضع فيها كل من يهدد سلطة “السلطان” -ولو احتمالا- داخل أقفاص يعيشون فيها حتى يموتوا، وهو ما ضعضع السلطنة العثمانية حتى سقطت أخيرًا.
لم تكن تلك الأفعال تصرفًا من أحد السلاطين في لحظة طيش، بل هي آلية إقصاء اعتمدت وصدرت بها الفرمانات السلطانية، مع كل المهددين المحتملين، تحت حجة حماية العرش، كل الأفكار المتوحشة التي أسفرت عن تصفية الإخوان والأبناء والآباء والأمهات فضلًا عن الحلفاء مررتها أو فرضتها الإماء على الأزواج المُسْتَلَبين.
لقد تحول القصر العثماني إلى بيت للموت والرعب ولم يكن من السهل التنبؤ بمن هو السلطان القادم؛ لأنه لا أحد سيصل إليه إلا عبر طريق طويل من الدماء والمؤامرات والاغتيالات والتناحر الدموي، وحتى من يصل من الأمراء المرشحين إلى كرسي السلطنة الأوحد في الآستانة، فهو يصل مكللا بفواتير من الآلام التي عاشها، والأمراض النفسية المستعصية التي رافقته منذ طفولته حبيسًا مهددًا في الأقفاص والغرف المغلقة المظلمة، أو محاولته تفادي حتمية الموت والاغتيال خنقًا أو رميًا في بحر البسفور.