المزدكية..

الفارسي يبقى فارسيًّا مهما تغيرت ديانته!

تُثْبِتُ فارس دائمًا إنها بلاد العجائب الدينية والعقائد والطرق الغريبة، وأن تلك العقائد والممارسات لاتزال تُشكّل الوجدان الفارسي، وتضرب بعنف في الثقافة الاجتماعية لأحفاد الفرس الأوائل منذ نشأة الزرادشتية وحتى اليوم.

بل إن معظم تلك الديانات أو العقائد جرى تطويعها ودمجها ونقلها من عصر إلى عصر ، ومن دين إلى آخر، والاختباء داخلها لحماية الفارسية باعتبارها مفهوما عِرقيًّا وثنيًّا ثقافيًّا ضد الآخر،  أيا كانوا أولئك الآخرون ديانات أو شعوبًا أو ثقافات، فالفارسي يبقى فارسيًّا مخلصًا لعِرقه، سواء أكان زرادشتيًّا أو مانويًّا أو مزدكيًّا أو يهوديًّا أو مسيحيًّا أو مسلمًا على أي مذهب يعتنقه.

فمن الزرادشتية إلى المانوية، وأخيرًا المزدكية، كلها شكّلت سمات المجتمع الفارسي وانغماسه في الخرافات، واستمتاعه بممارستها وتسويغها تحت أغطية دينية ثقيلة، وهو ما سنراه جليًّا بعد ذلك إثر دخول الإسلام، فبعض الفرس تحولوا إلى الإسلام، نعم؛ لكنهم بقوا فيه على الطريقة الفارسية متشددين خلطوا بين مفاهيم الدين الإسلامي وبين طقوس أجدادهم الأوائل الزرادشتيين والمانويين والمزدكيين.

لم تنشأ المزدكية في حقيقتها الدينية إلا باعتبارها ثورةً اجتماعية ضد الزرادشتية السائدة، التي منحت النبلاء والأمراء وكهنة الدين مكانة عُليا سحقت ما عداها من طبقات، ليأتي “مزدك” مؤسس المزدكية منقذًا ثائِرًا عليها وعلى تعاليمها، لكنه في هذه المرة أتى بما لم يأت به أحدٌ من الفلاسفة السابقين في فارس، فقد قال إن سبب الفرقة الاجتماعية في بلاده الأموالُ والنساءُ، ولذلك أتاحها سِلعةً مشتركة بين الناس داعيًا إلى مشاركة المال والناس بينهم.

إنها ثورة اجتماعية – بلا شك- لكنها مدمرة في نهاية الأمر، أحرقت نفسها بنفسها، هو ما حصل لها في نهاية الأمر، فكرة ساذجة صعدت في فترة التردي والانحطاط الاجتماعي وانتشرت انتشارًا واسعًا في فارس أواخر القرن الخامس بعد الميلاد، وخصوصًا بعد أن اعتنقها ملك الفرس قُباذ الأول.

بلا شك، إن فكرة مزدك الاشتراكية جاءت باعتبارها ثورةً اجتماعية، قبل أن تكون دينيةً على الزرادشتية والمانوية، لكنها فشلت في تقديم أُنْموذجها الفريد القادر على الاستمرار، ولم تتمكن من الانعتاق منهما أبدًا وجاءت باعتبارها ديانةً مختلطةً لم تُعَبِّرْ حقيقةً عن تدين مستقل.

وإن صحَّ لنا أن نقول: إن الديانات (الزرادشتية والملموسة، والمزدكية) كانت ذلك المثلث الذي شكّل فارس من حيث (السياسة، والتَدَيُّن، والعلاقة مع الآخر) طوال تاريخها حتى اليوم، لقد شكّلوا “ربهم أو إلههم” كما يرونه هم لا كما تراه الأديان السماوية، وقسّموا الكون، وتناقلوا العقائد ودمجوها في بعضها البعض.

بالطبع المزدكية لم تخرج عن ثنائية التدين، التي عرفها الفرس طوال تاريخهم، والتي تقسّم الكون في مجمله إلى شر وخير، ظلمة ونور، فالنور والخير هو الإله، والشر والظلمة هي لرب آخر يتصارعان، إلا أن المزدكية تفسر الكون والآلهة تفسيرًا أكثر تطورًا عن المانوية فتَعْتَبِرُ الكونَ خليطًا من النار والماء والأرض.

تميّزت المزدكية بتأثرها بالفلسفة كثيرًا، ولخصت القوى المسيطرة على البشر في أربعة عناصر هي: البصيرة، والتّفاهم، والحماية، والفرح، ولأن المزدكية كانت في جوهرها ثورة على النبلاء ورجال الدين الذين حملتهم مسؤولية تردي أوضاع الناس، أظهرت لامبالاة أمام الطقوس الدينية، واعتبرتها شكليات مجردة يجب ألا يُلْتَزَمَ بها.

وكان أكثر ما اشتهر به مزدك، نهيه الناس عن المخالفة والمباغضة والقتال، قائلا: “إن أكثر ذلك إنما يقع بسبب النساء والأموال، ولذلك فقد أحلَّ النساء وأباح الأموال، وجعل الناس شُركاء فيهما، كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ”. كما أنه أسس فكرة قتل النفس أي الانتحار ليخلصها من الشر ومزاج الظلمة كما يزعم.

ونظرًا لقرب خروج المزدكية في بلاد فارس من ظهور الإسلام، إذ إن مزدك ظهر في أيام الملك قباذ، ثم جاء بعده كسرى الأول “أنوشروان” الذي حطم المسلمون ملكه، يبدو من المهم تفسير دخول الإسلام إلى فارس أواسط القرن الإسلامي الأول، وفهم النفسية الفارسية التي حملت أثقال دياناتها وعقائدها القديمة ودمجتها في عروق إسلام “إيراني فارسي”، وهذا يدفعنا إلى التساؤل؟!! هل لا يزال ذلك الإسلام الإيراني الفارسيُّ مسيطرًا على المشهد حتى اليوم، وهل استطاعت الانعتاق منها بالفعل أم لا؟!!