أصحاب مزدك،

الاتفاق والاختلاف

جميع الأديان في بلاد فارس، نتاجها الاتفاق على أن الأركان الثلاثة لهذا العالم الماء والأرض والنار، وتكون من ذلك ليلٌ ونهارٌ، وظلمةٌ ونورٌ، وتعاقَبَ الخير والشر.

ضمن هذا السياق يمكن فهم المزدكية التي دعا إليها مزدك الذي ظهر في أيام كسرى فارس “قباذ” والد أنوشروان، ودعا مزدك قباذًا إلى مذهبه فأجابه، وأطْلَعَ أنوشروان على افترائه، فطلبه وقتله، تلك الأخبار هي ما نقلها الشهرستاني صاحب كتاب المِلل والنِحل.

والكارثة الحقيقية في تأويل تلك المعتقدات، أنها تجعل المعبود خليطًا بين الخير والشر، والحديث عن الشبهات لا مجال لخوضه، لكنهم يَصِلُونَ من خلال ذلك إلى أن أي إنسان تجتمع فيه قوى يختلف عددها بين أربع أو سبع أو اثنا عشر، صار ربانيًّا في العالم السفلي، ويُرفع عنه التكليف، وإن خَسِرُو العالم ينقلب الأمر إلى تدبير آخر باللجوء إلى الحروف التي يتكون منها الاسم الأعظم، وعندها ينفتح له السر الأكبر.

كما أنهم يَصِلُون في النهاية بعيدًا عن تلك التفاصيل، وذلك أنه إذا عجزت كل الحلول والخرافات التي ترّوجها عقائدهم فإن الإنسان يُحرم ويبقى في جهلٍ ونسيان وبَلَادَةٍ.

أمرهم عجيب بين تخبُّطات فلسفية تخلط الفهم والحقائق، وبين ادِّعاء السرور والسعادة بعد الحفظ، وتنقسم المزدكية إلى فرق مثل الكوذية وأبو مسلمية والماهانية، وتلك الفرق منتشرة في بلاد فارس خاصة مدن “شهرزور- نواحي السند – وسمرقند- والشاش- وإبلاق”.

تلك “الأديان” حملها أصحاب فكر يعتقدون التألُّه والربوبية بعد المرور بمرحلة النبوة، والأدهى من ذلك تأسيس مذاهب مادية حتى تكون الركيزة الأساسية لأفكارهم، كقول مزدك بالاشتراكية المالية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه إلى الاشتراك في النساء، وكل ما يمكن أن تكون فيه شراكة ملوثة بأفكار عقائدهم الوحشية في باطنها المتظاهرة بلباس الخير والنور لقهر الشر والظلام.

ويقول الطبري في تاريخه عن مزدك: “إنه من أهل نَيْسَابور، ودعا إلى مذهب ثَنْوي جديد، فكان يقول أيضًا بالنور والظلمة؛ ولكن أكبر ما امتاز به «تعاليمه الاشتراكية»، فكان يرى أن الناس وُلدوا سواءً فليعيشوا سواءً؛ وأهم ما تجب فيه المساواة المال والنساء، قال الشهرستاني: «وكان مزدك ينهى الناس عن المخالفة والمباغضة والقتال، ولما كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب النساء والأموال، فأحل النساء وأباح الأموال، وجعل الناس شَرِكَةً فيها كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ».

وقال الطبري: «قال مزدك وأصحابه: إن الله إنما جعل الأرزاق في الأرض ليقسمها العباد بينهم بالتآسي، ولكن الناس تظالموا فيها، وزعموا أنهم يأخذون للفقراء من الأغنياء، ويرُدُّون من المكثرين على المقلين، وأن من كان عنده فَضْلٌ من الأموال والنساء والأمتعة فليس هو بأولى به من غيره، فافترص السِّفْلة ذلك (أي جعلوه فُرصة) واغتنموه، وكاتفوا مزدك وأصحابه وشايعوهم فابتُلي الناس بهم، وقوي أمرهم، حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله، وحملوا «قُبَاذ» (أي حثوه) على تزيين ذلك وتوعدوه بخلعه، فلم يلبثوا إلا قليلًا حتى صاروا لا يعرف الرجل منهم ولده، ولا المولود أباه، ولا يملك الرجل شيئًا مما يتسع به».

وقال في موضع آخر: «وكان مما أمر به الناس وزينه لهم وحثَّهم عليه، التآسي في أموالهم وأهليهم، وذَكَر أن ذلك من البر الذي يرضاه الله ويُثِيبُ عليه أحسن الثواب، وأنه لو لم يكن الذي أمرهم به وحثهم عليه من الدين، كان مكرمة في الفعال، ورِضًا في التفاوض».

إن تعاليم مزدك اشتراكية من أسبق الاشتراكيات في العالم، ويقول الأستاذ «نولْدِكِه»: «إن الذي يُميز مزدك عن الاشتراكية الحديثة ما لتعاليمه من الصبغة الدينية» وكانت له تعاليم روحية أخرى، فقد كان يُعلِّم القناعة والزهد، وحرمة الحيوان فلا يُذبح.

وقد اعتنق مذهبه آلاف من الناس إلى يومنا هذا …